نديم العروضيين المجلس الثالث عشر والرابع عشر

سلامٌ عليكم!

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته!

طبتم مساءً -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا!

بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاةً على رسولهِ وسلامًا، ورضوانًا على صحابته وتابعيهم، حتى نلقاهم!

 كيف حالكم؟ كيف أمسيتم؟

بخير.

لله الحمد والشكر! بارك الله فيكم، وشَكر لكم، وأحسن إليكم، ويسَّر لنا ولكم كل عسير، وسهَّل كل صعب!

 بعد ثلاثِ محاضرات من التدريبات والاختبارات والمراجعات نعود -والعودُ أحمد- سيرتنا الأولى. نعود إلى قصائدنا المختارة نقرؤها ونغنيها ونمارس من خلالها علم العَروض، نتذوقها ونعالجها، حتى نَصِل من خلالها إلى ما خطر للشاعر أولَ ما خطر -معي؟- فنحن هنا نعكس كما قلت لكم في أسئلة التقديم، عمل الشاعر؛ فالذي بدأ به انتهينا إليه، والذي انتهى إليه بدأنا به. ما الذي بدأ به؟ النَّغم، الموسيقى، العروض. وما الذي انتهى إليه؟ القصيدة. وما الذي بدأنا به؟ القصيدة. وما الذي نريد أن ننتهي إليه؟ العَروض، النَّغم الذي خطر له أولًا؛ فعملُ العَروضيّ عكسُ عمل الشاعر، كما قلت لكم في إجابة الأسئلة. اليوم نستمتع بقصيدةٍ معروفةٍ لديكم مشهورة كنتم تحفظونها في المدارس وتؤدونها في المناسبات. وهي قصيدة ٌمؤثرة حقا، للشاعر السوريّ الشهير عمر أبو،ريشة الذي أدركنا زمانه، وله مسجَّلات يمكنكم أن تدخلوا على اليوتيوب، لتروه يُنشد، وهو شاعر كبير، له ديوان لطيف طبعته دار العودة. ويُقال: إنه سُجن بهذه القصيدة، وحينما نمضي فيها نحس أنه يستحق بها السجن حقا، وهذه أمور معروفة؛ فما أكثر ما سُجن الشعراء بشعرهم، سُجن العقاد بشعره، سُجن بكلامه، سُجِن أستاذي مرتين بكلامه، أستاذي الذي أحكي لكم عنه كثيرًا من هو؟ محمود محمد شاكر سُجِن مرتين. وأنا كان يمكن أن أُسجَن -لولا أن الله سلم!- كنا نُنشِد في المواقف أحيانا والشُّرطة حول المكان، ولله الحمد على السلامة! على أية حال لا تتمنوا البلاء، واسألوا الله العافية، اللهم لا تبتَلِنا، اللهم إن ابتليتنا فارزقنا الصبر على البلاء! هكذا كان أستاذنا يقول: أشدُّ السجن السجن السياسي! هكذا قال، ومن باب المبالغة في إيلامك يُعذبونك. تُوفي شاعرنا سنة تسعين وتسعمائة وألف الميلادية، فهو شاعرٌ معاصر، أدركناه -أنا أدركته- فهو معاصر، والمعاصر هو الذي عشنا في عصره، وعاش في عصرنا، ولا يعني هذا أنه حديث، لا يعني أنه يتبع منهجًا حديثًا، لا؛ الحديث شيء، والمعاصر شيء، هذا ما أفهمه، وأنتم في الأدب تدرسون هذا، فالأمر إليكم، لكن الذي آخذ به وأُجري عليه، أن المعاصر هو الذي أدركته وأدركني، عشت في عصره، وعاش في عصري، جمعنا زمن، جمعتنا مدة من الزمن، أما الحديث فهذا مذهب، الحداثةُ مذهب، الحداثة مذهب، أما المعاصرة فمدة -تمام!- يمكنه أن يكونوا معاصرًا وقداميًّا أو حداثيًّا أو مستقبليًّا. هناك شعراء يكتبون ما لم يُكتب بعد، يكتبون لناس سيأتون في المستقبل يفهمون شعرهم، يكتبون ولا يفهمهم في عصرهم أحد، يُسمَّون المستقبليين، يكتبون للقادم -أكتب لمن لم يُولد بعد- وهناك ناس قداميّون، يُحبون عنترة وامرأ القيس وزهيرًا، ويتمنون أن لو عاشوا في زمانهم. زعموا أن الرسول -عليه الصلاة والسلام!- تمنى رؤية عنترة -زعموا- قرأت هذا الزعم في "الأغاني" للأصفهانيّ، زعموا أنه تمنى لقاء عنترة، لماذا تمنى لقاء عنترة؟ لكرم أخلاقه. كان عنترةُ فارسًا خلوقًا:

"وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَت لِيَ جَارَتِي حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا"!

هذا كلام عنترة، كأنه من الإخوان المسلمين، كأنه من جماعة الأمر المعروف والنهي عن المنكر، أو كأنه في عُمان من طلاب الإمامة -نعرف من هؤلاء جماعات في كل مكان، سنخرج من هنا إلى السجن جماعة!

ههه!

معًا يؤنس بعضنا بعضًا، إن شاء الله!

هذا دليل على الأخلاق.

أرأيت؟ يُقال تمنى لقاءه! يتمنى رسول الله سيد الخلق لقاء عنترة، لحسن خلقه؛ فاللهم حَسِّنْ أخلاقنا! طيب! هذا عُمر أبو ريشة ماذا يقول؟

أُمَّتِي

أُمَّتِي هَلْ لَكِ بَيْنَ الْأُمَمِ مِنْبَرٌ لِلسَّيْفِ أَوْ لِلْقَلَمِ

أَتَلَقَّاكِ وَطَرْفِي مُطْرِقٌ خَجِلًا مِنْ أَمْسِكِ الْمُنْصَرِمِ

وَيَكَادُ الدَّمْعُ يَهْمِي عَابِثًا بِبَقَايَا كِبْرِيَاءِ الْأَلَمِ

أَيْنَ دُنْيَاكِ الَّتِي أَوْحَتْ إِلَى وَتَرِي كُلَّ يَتِيمِ النَّغَمِ

كَمْ تَخَطَّيْتُ عَلَى أَصْدَائِهِ مَلْعَبَ الْعِزِّ وَمَغْنَى الشَّمَمِ

وَتَهَادَيْتُ كَأَنِّي سَاحِبٌ مِئْزَرِي فَوْقَ جِبَاهِ الْأَنْجُمِ

أُمَّتِي كَمْ غُصَّةٍ دَامِيَةٍ خَنَقَتْ نَجْوَى عُلَاكِ فِي فَمِي

أَيُّ جُرْحٍ فِي إِبَائِي رَاعِفٍ فَاتَهُ الْآسِي فَلَمْ يَلْتَئِمِ

أَلِإسْرَائِيلَ تَعْلُو رَايَةٌ فِي حِمَى الْمَهْدِ وَظِلِّ الْحَرَمِ

كَيْفَ أَغْضَيْتِ عَلَى الذُّلِّ وَلَمْ تَنْفُضِي عَنْكِ غُبَارَ التُّهَمِ

أَوَمَا كُنْتِ إِذَا الْبَغْيُ اعْتَدَى مَوْجَةً مِنْ لَهَبٍ أَوْ مِنْ دَمِ 

كَيْفَ أَقْدَمْتِ وَأَحْجَمْتِ وَلَمْ يَشْتَفِ الثَّأْرُ وَلَمْ تَنْتَقِمِي  

اِسْمَعِي نَوْحَ الْحَزَانَى وَاطْرَبِي وَانْظُرِي دَمْعَ الْيَتَامَى وَابْسِمِي

وَدَعِي الْقَادَةَ فِي أَهْوَائِهَا تَتَفَانَى فِي خَسِيسِ الْمَغْنَمِ

رُبَّ وَا مُعْتَصِمَاهُ انْطَلَقَتْ مِلْءَ أَفْوَاهِ الْبَنَاتِ الْيُتَّمِ

لَامَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لَكِنَّهَا لَمْ تُلَامِسْ نَخْوَةَ الْمُعْتَصِمِ

أُمَّتِي كَمْ صَنَمٍ مَجَّدْتِهِ لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ طُهْرَ الصَّنَمِ

لَا يُلَامُ الذِّئْبُ فِي عُدْوَانِهِ إِنْ يَكُ الرَّاعِي عَدُوَّ الْغَنَمِ

فَاحْبِسِي الشَّكْوَى فَلَوْلَاكَ لَمَا كَانَ فِي الْحُكْمِ عَبِيدُ الدِّرْهَمِ

أَيُّهَا الْجُنْدِيُّ يَا كَبْشَ الْفِدَا يَا شُعَاعَ الْأَمَلِ الْمُبْتَسِمِ

مَا عَرَفْتَ الْبُخْلَ بِالرُّوحِ إِذَا طَلَبَتْهَا غُصَصُ الْمَجْدِ الظَّمِي

بُورِكَ الْجُرْحُ الَّذِي تَحْمِلُهُ شَرَفًا تَحْتَ ظِلَالِ الْعَلَمِ

"أُمَّتِي هَلْ لَكِ بَيْنَ الْأُمَمِ مِنْبَرٌ لِلسَّيْفِ أَوْ لِلْقَلَمِ"، لم يعد لك منبرٌ لا للسيف ولا للقلم، لم تعودي في مقدمة الغزاة، ولم تعودي في مقدمة المبدعين المؤلفين المبتكرين. "أَتَلَقَّاكِ وَطَرْفِي مُطْرِقٌ خَجِلًا مِنْ أَمْسِكِ الْمُنْصَرِمِ"، مطرق، ما الإطراق؟ النظر إلى الأسفل هكذا، تنظر إلى الأرض حزينًا أسيفًا بئيسًا. "خَجِلًا"، ولو كنت مكانه لقلتُ: خَجَلًا، لكن هكذا قال، فنقول ما قال، لا نحرّف الكلام عن مواضعه، لا كما فعلتم في الملفات، تغيرون شعر الشعراء على ما تحبون، وفي الاختبارات تغيرون على ما يريحكم -ها!- لا، هذا نص لا يجوز أن نغيره! وما فرق ما بين "خَجِل" و"خَجَل"؟ من يعرف؟ خجَل اسمٌ (مصدر)، وخجِل صفة -سبحان الله!- مثل فرق ما بين حذَر وحذِر، حذَر اسم، وحذِر صفة، وهكذا. وما إعراب "خَجِلًا"؟

حال.

حال فقط، لكن لو كانت "خَجَلَا"...

صفة.

صفة؟

مفعول لأجله.

مفعول لأجله، لا بأس، جميل، أوافق، بسبب الخجل المستولي عليّ، والخجل معنوي، يجوز أن يكون علة ذلك. "وَيَكَادُ الدَّمْعُ يَهْمِي عَابِثًا بِبَقَايَا كِبْرِيَاءِ الْأَلَمِ"، حتى كبرياء الألم التي بقيت لي يعصف به الدَّمع الذي يهمي على حالنا التي انتهينا إليها، يهمي، يهطل. "أَيْنَ دُنْيَاكِ الَّتِي أَوْحَتْ إِلَى وَتَرِي كُلَّ يَتِيمِ النَّغَمِ"، الآن يفسر الحالة الكئيبة. أين ذلك المجد الذي كنت أتملّأ به وأغني أحوالَه، أغنيها في الشعر؟ هكذا كان الشعر طوال الزمان، يُمجِّد الأمم، وبهذا أحبه سيدنا عمر، لأنه يعلِّم الناس الأخلاق، ويذكرهم المجد التليد. أين دنياك أين؟ "كَمْ تَخَطَّيْتُ عَلَى أَصْدَائِهِ مَلْعَبَ الْعِزِّ وَمَغْنَى الشَّمَمِ"، على أصداءِ مَهْ؟ على أصداء وتري. كنت أغني فأرى نفسي فوق النجوم:

"وَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ

وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ"!

هذا البدويّ كان إذا طَرب وانتشى أحسَّ أنه ملكُ الملوك، ثم يعود ليُفاجَأ بالحقيقة المؤلمة، ليجد زوجته أمامه! "وَتَهَادَيْتُ كَأَنِّي سَاحِبٌ مِئْزَرِي فَوْقَ جِبَاهِ الْأَنْجُمِ"، ما معنى تهاديت؟

تمايلت.

تمايلت من تمايل الطروب؛ انظروا إلى الطرب الذي ألَّم به حينما كان يعيش حال المجد، وتؤيده ظروف أمته، تؤيده أمته بما تفعل! تسافر أنت مثلًا في أرجاء العالم، لدراسة الماجستير والدكتوراة، فإذا حققت أمتك في بلادك الانتصارات بعد الانتصارات، انتشيت سعيدًا بين الطلاب من أرجاء العالم في الشرق والغرب والشمال والجنوب. لكن إذا كان العكس كان العكس! لما دخل مصري إلى طائرة راحلة إلى أوربة أو أمريكة أيام الثورة المصرية، قال الطيار: راكب مصري! فصفق له كل من في الطائرة جميعًا، أيام الثورة! والآن ماذا يفعلون -ههه!- علامَ يصفقون؟ وماذا فعلت أنا؟ أُمتي فعلَت، إذا انتصرنا مثلًا في حرب، إذا اخترعنا اختراعات، إذا أنجزنا إنجازات، ثم سافر عُمانيّ مثلًا إلى أسترالية ودخل: في الطلبة عماني، جماعة! فيصفقون، لماذا؟ لأن الجماعة في عُمان حققوا انتصارات، فأنت تبني على مجد أهلك. "أُمَّتِي كَمْ غُصَّةٍ دَامِيَةٍ خَنَقَتْ نَجْوَى عُلَاكِ فِي فَمِي"، ما "كم" هذه؟ أَسْتفهامية أم خبرية؟

خبرية.

خبرية طبعًا؛ ما أكثر ما خنقتني الغُصّة، ولم أعد استطيع أن أتكلم وأتحدث عن عُلاكِ، كيف أتحدث ونحن الآن تحت أرجل العالم يدوسوننا بأقدامهم! "أَيُّ جُرْحٍ فِي إِبَائِي رَاعِفٍ فَاتَهُ الْآسِي فَلَمْ يَلْتَئِمِ"، من الآسي؟

الطبيب.

الطبيب، الله! أسا يأسو. حينما سألتهم في المجموعة الأخرى قالوا: الآسي الحزين! مساكين! في العربية أَسَا يَأْسُو وأَسِيَ يَأْسَى، ما معنى أَسِيَ يَأْسَى؟ حَزِنَ يَحْزن. ما معنى أَسَا يَأْسُو؟ عَالج يُعالج؛ فالآسي الطبيب، والأُساةُ الأطباء -رَاعِف سائل، من الرعاف، وهو عندكم في اللهجة- ما أكثر ما بي من جروح سائلة لا تلتئم، كلنا جروح! "أَلِإسْرَائِيلَ تَعْلُو رَايَةٌ فِي حِمَى الْمَهْدِ وَظِلِّ الْحَرَمِ"، "ألاسرائيل" دخلنا في الجد -سبحان الله!- كأنه مطلعٌ علينا الآن! متى قال هذه القصيدة؟ أظن أنه قالها في السبعينيات -وقد مات سنة تسعين- ونحن الآن بعده بزمان، والحال تتدهور إلى الحضيض، قليلًا قليلًا. "أَلِإسْرَائِيلَ تَعْلُو رَايَةٌ فِي حِمَى الْمَهْدِ وَظِلِّ الْحَرَمِ"، وفي كل مكان -يا أخي الكريم!- في كل مكان؛ لو أدركنا هذا الرجل لانتحر! "كَيْفَ أَغْضَيْتِ عَلَى الذُّلِّ وَلَمْ تَنْفُضِي عَنْكِ غُبَارَ التُّهَمِ"، يقول لأمته، فما معنى "أغضى على" -تذكرون القصيدة الثانية: فَأَغْضَيْتُ عَلَى عَمْدٍ وَقَدْ يُغْضِي الْفَتَى الْحُرُّ"، لكن ذاك إغضاء القادر من باب العفو عند المقدرة، أما هذا فعفو في غير محله:

"وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلَا مُضِرُّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى"!

هذا وضعٌ للحِلم في غير موضعه، يقتلك، ويقتل إخوتك، وتقول له: اذهب عفوت عنك لوجه الله! مسكين! تموت ولا تقول هذا الكلام؛ كيف تعفو عن شخص لا تملك العفو عنه أصلا! نحن متهَمون في العالم كله بالإرهاب والمتهِم هو الأجدر بوصم الإرهاب -ها!- يتهمونك -سبحان الله!- ويملكون طبعًا وكالات الإعلام -وكالة رويتر الإعلامية يهودية، ووكالة كذا يهودية- ورجال المال يهود، واليهود أُس الفسادِ في العالم، سُوس العالم -ولا سيما الصهاينة منهم- استطاعوا أن يغيروا في العقيدة المسيحية، استطاعوا أن يستخرجوا من البابا تبريئًا لهم من قتل المسيح -نحن لا نُؤمن بقتل المسيح طبعًا- وهذا في العقيدة المسيحية، والبقية تأتي، سُوس العالم هؤلاء! "أَوَمَا كُنْتِ إِذَا الْبَغْيُ اعْتَدَى مَوْجَةً مِنْ لَهَبٍ أَوْ مِنْ دَمِ"، كنت تشْتَعْلِينَ؛ فماذا حدث؟ نحن قوم ننتصر أو نموت، لا حل، هكذا كانوا يقولون. كان القائد يفتح البلاد بهذا الكلام قبل أن يفتحها بالسّيف، يقول لهم كلمةً واحدة: "جِئْتُكُمْ بِجُنْدٍ يُحِبُّونَ الْمَوْتَ كَمَا تُحِبُّونَ الْحَيَاةَ"، انتهت! كلمة واحدة تُنهي لنا المسألة في الموقف؛ فينتصر! ماذا حدث؟ "كَيْفَ أَقْدَمْتِ وَأَحْجَمْتِ وَلَمْ يَشْتَفِ الثَّأْرُ وَلَمْ تَنْتَقِمِي"، هكذا يُؤدَّى الشعر. كيف هذا؟ كيف حدث؟ ماذا حدث؟ الذي حدث أننا تغيرنا، تغيرنا إلى القبيح لا إلى الحسن. "اِسْمَعِي نَوْحَ الْحَزَانَى وَاطْرَبِي وَانْظُرِي دَمْعَ الْيَتَامَى وَابْسِمِي"، يسخر، يسخر؛ كيف نطرب لنوح الحزانى، أم كيف نبتسم لدمع اليتامى! ولكن هذا هو الذي يحدث الآن! نتغدى ونتعشى على مشاهد قتل المسلمين في كل مكان! ننتهز الغداء والعشاء فرصة لمشاهدة الأخبار، من باب اختصار الوقت! وما الذي في الأخبار؟ قتل هنا وقتل هناك، وتدمير هنا وتدمير هناك! ونأكل على دماء المسلمين في كل مكان! لم يعُد الأمر سخرية، كان الرجل يسخر في ذلك الزمان، وهو الآن واقع يحدث! استمتعي بمظاهر القتل، "وَدَعِي الْقَادَةَ فِي أَهْوَائِهَا تَتَفَانَى فِي خَسِيسِ الْمَغْنَمِ" -فأنت السبب، أنت أوصلت هؤلاء القادة كما سيقول بعد قليل- ما معنى تتفانى؟

تتفاخر.

تفنى قليلًا قليلًا. خطر لي أولًا أن أقول يُفني بعضها بعضًا، لأنها "تفاعل يتفاعل"، صيغة من صيغ المشاركة، ثم قلت: لا يقال فناهُ، هذا يحتاج لأن يُقال في المجرد: فناهُ، حتى يُقال في المزيد: تتفانى، أي فَنَانِي وفَنَيْتُه، وهو لا يُقال، بل يقال: أَفْنَيْتُهُ وأَفْنَانِي؛ لهذا تُعرض عن أن تقول إن المراد بـ"تفانى" المشاركة، إلى أن تقول: إن المراد التدرج. درستم "معاني صيغ زيادة" في المستوى الأول من علم الصرف، وهي من أروع ما فيه، ولا نجد لها وقتًا، لأنها أكثرُ من الأوقات، كصور بحور الشعر تماما، هذا مثل هذا! "تَتفَانَى في خَسِيس المَغنمِ"، تفنى فيه، كأنها تذوب، تذوب في خسيس المغنم كما يذوبُ الصوفيُّ في محبةِ الله! سبحان الله! يذوب الصوفيّ في محبة الله، ويذوب القائد الشهوانيّ هذا الضال في اللذة! كنت أستمع منذ قليل في المكتب إلى قصيدة لا يستطيع أحد أن يذيعها على الملأ، في بعض القادة -شيء عجيب- يقول فيه الشاعر ما لا يقال في إبليس، إبليس يقول لهذا القائد: يا أستاذي، علمني يا أستاذي! "رُبَّ وَا مُعْتَصِمَاهُ انْطَلَقَتْ مِلْءَ أَفْوَاهِ الْبَنَاتِ الْيُتَّمِ"، أسماعَ مَن لامسَت؟

القادة.

القادة، لكنَّها لم تلامس نخوة المعتصم. كان المعتصم أمير المؤمنين، من أواخر أقوياء بني العباس، جاء بعده واحد أو اثنان ثم بدأ الضعف، كان قويًّا. ما الذي حدث في أيام المعتصم؟ ما أشهر ما حدث؟ هو مرتبط عندنا بـ"وَا مُعْتَصِمَاهْ"، قالتها امرأة مسلمة هناك في عَمّورية من بلاد يحكمها الروم. أهانها روميّ، يبدو أنه دخل مع جنود آخرين، فاقتحموا البلد، وأهانوا أهله، فأعد المعتصم جيشًا، فقال له المنجّمون: ليس هذا بوقت حرب، إذا ذهبت هُزمت، فلم يعبأ بقولهم وتوكل على الله. فقال أبو تمام قصيدته:

"السَّيْفُ أَصدَقُ إِنباءً مِنَ الكُتُبِ فِي حَدِّهِ الْحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ وَاللَّعِبِ

بِيضُ الصَّفَائِحِ لَا سُودُ الصَّحَائِفِ في مُتونِهِنَّ جِلَاءُ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ"!

وسخر بالمنجمين فيما بعده، هذا أبو تمام الذي مات في الثلاثين من عمره، وكان أعظم الشعراء وما زال من أعظمهم؛ فكيف به لو عاش أكثر! وما أكثر الآن "وَا مُعْتَصِمَاهْ"! عندي تسجيلات للشاكين من كل مكان، من اليمن، ومن سورية، ومن آسية جهة البنغال، ومن مصر، ومن السودان،  ومن كذا وكذا، من كل مكان، عندنا أشياء يشيب لها الوليد. "مِلْءَ أَفْوَاهِ الْبَنَاتِ الْيُتَّمِ"، فضلًا عن الذكور، من باب الإثارة، لكنَّك الآن تسمعها أحيانًا من الشيوخ، ورأينا رجلًا يقول في سورية: هذه الحياة، هذه العيشة، وهو رجل شيخ هرم! "لَم تُلامِس نَخوة المُعتَصِمِ"، نسمع هذا، ولا نتأثر. "أُمَّتِي كَمْ صَنَمٍ مَجَّدْتِهِ لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ طُهْرَ الصَّنَمِ"، وهل الصنم طاهر؟ الصنم في نفسه مظلوم، الخشب حجارة، الخشب طاهر، والحجارةُ طاهرة، وأحيانًا يكون أشدَّ فائدة من هذا، أحيانًا يكون من التمر، من الرطب، يكون في منتهى الروعة، يعبدونه ثم يأكلونه، كله منافع -ما شاء الله!- للعبادة وللطعام، يعبده العابد إلى أن يشبع إلى أن ينتهي ثم يأكله، هذا إله مفيد على كل المستويات! أما هؤلاء الآلهة القادة المتألّهون فغيرُ مفيدين على كل المستويات، بل هم بالعكس، عندهم صفقات مريبة وخيانات. "كَمْ صَنَمٍ مَجَّدْتِهِ"، لم تكن فيه طهارةُ الخشب ولا طهارة الحجر ولا طهارة التمر؛ فمن تلومين؟ تلومين إسرائيل! "لَا يُلَامُ الذِّئْبُ فِي عُدْوَانِهِ إِنْ يَكُ الرَّاعِي عَدُوَّ الْغَنَمِ"، ما عملُ الذئب؟ ما عملُ الذئب؟ ما عمله؟ أن يأكل الغنم هذا عمله، أنا الآن أمارس وظيفتي الرسمية، وظيفتي الرسمية أكل الغنم، هذه وظيفتي، الراعي وظيفته أن يطردني؛ كان عندي فِلْم مرة عن مزرعة في الأردن هاجمها ذئب فعاث فيها فأمسكوا به واستمتعوا بتعذيبه، أطلقوا عليه الكلاب، فكرة الفِلْم أن يُمكِّنوا الكلاب من الانتقام من الذئب، شيء عجيب! الراعي عدو الغنم، لا حول ولا قوة إلا بالله! "يكُ" هذه أصلها "يَكُنْ"، حذفت منها النون، وأكثر ما يحدث هذا قبل المتحرك لا قبل الساكن، لكنّه فعل هنا القليل، واستفاد منه، ويمكنكم دائما أن تتأملوا مثل هذه الأفعال، ولن تعدموا معنى كامنًا يُلتمس وحكمة تُستنبط. "فَاحْبِسِي الشَّكْوَى فَلَوْلَاكَ لَمَا كَانَ فِي الْحُكْمِ عَبِيدُ الدِّرْهَمِ"، لا يحقُّ لك أن تشتكي لأنك السببُ؛ فاحبِسي الشكوى، أيتها الأمة؛ فأنت كما قيل في الأثر "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ"، صالحين لصالحين، وفاسدين لفاسدين! وفي المصرية نقول: قَالَوا لفَرْعُونْ -وهكذا ننطقها!-: مِينْ فَرْعَنَكْ؟ قَالْ: مَا لِقِتْش حَدّ يُرُدِّنِي"!

ههه!

نحن إذن كما قال ربنا في كتابه: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ" -صدق الله العظيم!- نَحنُ كَما يقولون في الصحافة الآن: "نُجيد صُنع الآلهة"! فاحبسِي الشكوى، لا يحق لك أن تشتكي؛ فعلت هذا بنفسك، فاحبسِي الشكوى؛ فَلولَاكِ لمَا كَان فِي الحُكمِ عَبِيدُ الدرهَمِ، هلّا وليت عبيد الله، ضحك عليكِ عبيد الدرهم! "أَيُّهَا الْجُنْدِيُّ يَا كَبْشَ الْفِدَا يَا شُعَاعَ الْأَمَلِ الْمُبْتَسِمِ"، آه عليك، أيها الجندي المخلص المظلوم المسكين! عندنا في الجيش شباب يسألون الله الشهادة في سبيله، فيوجهون جهات ضالة! شباب كثيرون من مصر ذهبوا إلى داعش المريبة من أصلها وجبهة النصرة وكذا وكذا، وشاركوا في أعمالها! أي إضلال هذا الذي أحاط بالناس! شباب جميل، شباب باحث عن الجهاد في سبيل الله، يوجَّه هذه التوجيهات الضالة! "مَا عَرَفْتَ الْبُخْلَ بِالرُّوحِ إِذَا طَلَبَتْهَا غُصَصُ الْمَجْدِ الظَّمِي"، حينما قيل لك: حيَّ على الجهاد، كنت أول المتقدمين! "بُورِكَ الْجُرْحُ الَّذِي تَحْمِلُهُ شَرَفًا تَحْتَ ظِلَالِ الْعَلَمِ"، أنت مظلوم، أنا أحييك، أنا لا أقصدك، أنت مظلوم، لكن هل يسوّغ له أن يقتل على الباطل؟ نعى في هذه القصيدة كثيرًا على القادة، نعى عليهم كثيرًا، ومن الشعراء من يسُبهم صراحةً! أدركت من المعاصرين شاعرًا عراقيًا يسبُ القادة وجهًا لوجه، اسمه مُظفّر النواب عراقيّ شيعيّ من أسرة عريقة، كان يسب القادة مواجهةً، حتى قيل لي إنه حضر مرة أُمسية كان في حضورها أحد هؤلاء القادة، فكان يسبهم سبا صريحا: يا أولاد الكذا، في القصيدة، يا أولاد الكذا؛ فنظر إليه هذا القائد كأنه يحذره -قيل- فقال: لا أستثني منكم أحدًا! أي أنت داخل في الموضوع!

مظفر...

مُظفّر النواب.

لكن أحيانًا كان يكتب باللهجة، وهو رسّام أيضا، والناس فيه مختلفون، هناك من يكرهه كراهة شديدة، ومن يتعلَّقُه تعلقا شديدا، ومن كان الناس فيه على هذين الفريقين فهو عبقري بلا ريب، إذا اختلف الناس في الشخص بين رافع إلى السماء وخافض إلى الأرض، فهو عبقريّ!

تُوفي من زمن طويل؟

لا، بل من سنتين تقريبًا. ومن هؤلاء مثلا أبو العلاء المعريّ؛ فمن الناس من قال فيه: "أديبُ الفلاسفةِ وفيلسوفُ الأدباء"، ومنهم من قال فيه: "كلبُ المعرَّة"! منهم من جعله في مُمجِّدي رب العالمين، ومنهم من جعله فيمن يستخفّون بالقرآن الكريم! انظروا إليهم كيف غيروا اسم كتابه "الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ"، إلى "الفصول والغايات في مجاراة الآيات"، وهو عندي باسمه الأول، وسأنقل لكم منه لاحقا -إن شاء الله!- ففيه كلام ممتع جدا في تمجيد ربِّ العالمين بمصطلحات علم العروض! طيب! الآن هذا نص لطيف خفيف والمنافسة فيه مغرية؛ فمن ينافس على خمس درجاتٍ زيادة أو نَقصًا، عندنا شخص حذفنا منه عشر درجاتٍ، من؟ أحمد الناصري؛ فهو يستحق أن نترك له الفرصة لعله يداوي بعض ما جُرحَ به، لكن إذا أخطأ حذفنا منه خمسًا أخرى، فمعنى هذا أن يستقيل من الجامعة أحسن، ويرتاح، ها!

أستقيل، إن شاء الله!

متأكد؟ أكيد، أكيد، متجهز؟

إن شاء الله!

توكل على الله، بِسم الله!

أُمَّتِي هَلْ لَكِ بَيْنَ الْأُمَمِ مِنْبَرٌ لِلسَّيْفِ أَوْ لِلْقَلَمِ

أَتَلَقَّاكِ وَطَرْفِي مُطْرِقٌ خَجِلًا مِنْ أَمْسِكِ الْمُنْصَرِمِ

جميل.

وَيَكَادُ الدَّمْعُ يَهْمِي عَابِثًا بِبَقَايَا كِبْرِيَاءِ الْأَلَمِ

أَيْنَ دُنْيَاكِ الَّتِي أَوْحَتْ إِلَى وَتَرِي كُلَّ يَتِيمِ النَّغَمِ

الله!

كَمْ تَخَطَّيْتُ عَلَى أَصْدَائِهِ مَلْعَبَ الْعِزِّ وَمَغْنَى الشَّمَمِ

وَتَهَادَيْتُ كَأَنِّي سَاحِبٌ مِئْزَرِي فَوْقَ جِبَاهِ الْأَنْجُمِ

الله!

أُمَّتِي كَمْ غُصَّةٍ دَامِيَةٍ خَنَقَتْ نَجْوَى عُلَاكِ فِي فَمِي

أَيُّ جُرْحٍ فِي إِبَائِي رَاعِفٍ فَاتَهُ الْآسِي فَلَمْ يَلْتَئِمِ

أَلِإسْرَائِيلَ تَعْلُو رَايَةٌ فِي حِمَى الْمَهْدِ وَظِلِّ الْحَرَمِ

كَيْفَ أَغْضَيْتِ عَلَى الذُّلِّ وَلَمْ تَنْفُضِي عَنْكِ غُبَارَ التُّهَمِ

أَوَمَا كُنْتِ إِذَا الْبَغْيُ اعْتَدَى مَوْجَةً مِنْ لَهَبٍ أَوْ مِنْ دَمِ 

كَيْفَ أَقْدَمْتِ وَأَحْجَمْتِ وَلَمْ يَشْتَفِ الثَّأْرُ وَلَمْ تَنْتَقِمِي  

اِسْمَعِي نَوْحَ الْحَزَانَى وَاطْرَبِي وَانْظُرِي دَمْعَ الْيَتَامَى وَابْسِمِي

وَدَعِي الْقَادَةَ فِي أَهْوَائِهَا تَتَفَانَى فِي خَسِيسِ الْمَغْنَمِ

رُبَّ وَا مُعْتَصِمَاهُ انْطَلَقَتْ مِلْءَ أَفْوَاهِ الْبَنَاتِ الْيُتَّمِ

لَامَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لَكِنَّهَا لَمْ تُلَامِسْ نَخْوَةَ الْمُعْتَصِمِ

أُمَّتِي كَمْ صَنَمٍ مَجَّدْتِهِ لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ طُهْرَ الصَّنَمِ

لَا يُلَامُ الذِّئْبُ فِي عُدْوَانِهِ إِنْ يَكُ الرَّاعِي عَدُوَّ الْغَنَمِ

فَاحْبِسِي الشَّكْوَى فَلَوْلَاكَ لَمَا كَانَ فِي الْحُكْمِ عَبِيدُ الدِّرْهَمِ

أَيُّهَا الْجُنْدِيُّ يَا كَبْشَ الْفِدَا يَا شُعَاعَ الْأَمَلِ الْمُبْتَسِمِ

مَا عَرَفْتَ الْبُخْلَ بِالرُّوحِ إِذَا طَلَبَتْهَا غُصَصُ الْمَجْدِ الظَّمِي

بُورِكَ الْجُرْحُ الَّذِي تَحْمِلُهُ شَرَفًا تَحْتَ ظِلَالِ الْعَلَمِ

حيوا الناصري!

أشهد أن لا إله إلا الله!

ههه!

الآن نعوّضه عن خمس.

يستحق عشرا.

لا لا خمس بس!

عشان الحسد! سمعتموني أقول له: الله، الله، الله! وكلما قلت: الله! قال عُمر: مصيبة جاية! أحمد الناصري، زائد خمس درجات! أداء جميل، يا ناصري! والناصري هو كما رأيتم طروب أصلًا بطبعه. طيب! نكتب البيتين الأولين، نستطيع أن نكتفي بهما. بسم الله!

أُمَّتِي هَلْ لَكِ بَيْنَ الْأُمَمِ مِنْبَرٌ لِلسَّيْفِ أَوْ لِلْقَلَمِ

أَتَلَقَّاكِ وَطَرْفِي مُطْرِقٌ خَجِلًا مِنْ أَمْسِكِ الْمُنْصَرِمِ

ما شاء الله، يا ناصري، عندك شعبية عند الفتيات!

ههه!

مرة أخرى بحسدك بعدين! طيب! هذا الإملاء ينبغي أن يكون صحيحًا، ثُم نُشكل نتقرب الى الله بحُسن التشكيل، متعة هذه متعة لا يعرفها إلا من عاشها! يا سلام! "أَتَلَقَّاكِ" هذه لم نضع لها نقطتين، هذا خطأ، "أَتَلَقَّاكِ وَطَرْفِي"، ما فرق ما بين الطرْف والطرَف؟ الطرَفُ الجَانب، والطرْف العين. أما طَرَفَةُ الشاعر فمسمى بنبات.

طرف النخلة؟

نعم نعم، مَا الطرف عندك؟ طرْف أم طرَف؟

طرَف.

"مُطْرِقٌ خَجِلًا مِنْ أَمْسِكِ الْمُنْصَرِمِ"، طيب! كتبنا، هل من خطأ؟ نبهوني هل من خطأ؟ لا خطأ؟ طيب! هذا اللحن لا بُد أن نتمسك به، لأنه سينجينا من التباسات قادمة، يلتبس بلحنَيْ بحرين آخرين.

ثم يقطع البيتين وهو يطرق على المكتب قائلًا : أُمتِي هَل/ لكِ بين ل / أممي / منبرن لس / سيفي أو لل / قلمي.

أُمَّتِي هَلْ| لَكِ بَيْنَ الْـ| ـأُمَمِ| مِنْبَرٌ لِلسْـ| ـسَيْفِ أَوْ لِلْـ| ـقَلَمِ

أَتَلَقَّا| كِ وَطَرْفِي| مُطْرِقٌ| خَجِلًا مِنْ| أَمْسِكِ الْمُنْـ| ـصَرِمِ

نضع الخطوط بخط آخر كما فعلتم في الاختبار، كما تأنق منكم من تأنق؛ هذا مقامُ التأنق، ومشكلة هذا الجماعة، نحتاجُ إلى غناء لكل خطوة، لكي لا نُخطئ، لكل خطوة. بعد النون، هذه كأنها قبل النون، هذا إهمال، وضع هذا الخط بهذا الشك إهمال. هنا بوضوح بعد النون ينبغي ألا أكون من المهملين حتى تقتدوا بهذا الأداء، طيب!

طبعًا هذه مشبعة "قَلمِ(ي)، والبيت هنا مطلع القصيدة -لعلكم لاحظتم!- فهذه الميم مشبعة، هذا الجزء مشبهٌ بهذا الجزء وزنًا...

وقافية.

خبن، وطي، وخبل.

حسن، وصالح، وقبيح.

أحسنت! هذه هي المراتب، أما الخبن والطي والخبل -يا سلمى!- فأنواع، لكن مراتبه مستوياته، هناك في الحضيض الزحاف؟

القبيح.

القبيح. وفي الوسط الزحاف؟

الصالح.

الصالح، وفي الأعلى الزحاف؟

الحسن.

الحسن. وإذا طبقنا على ما بين أيدينا جعلنا من الصالح كفّ "فاعلاتن"، ومن الحسن خبنها -يا أخي، سبحان الله!- هذا الخبن دائما ناجح، هو في كل مكان حسن من المرتبة العليا. تحويل "فاعلاتن" إلى "فعلاتن" إذن، لطيف -سبحان الله!- مهما كان مكانه، حتى الكلمة (خبن) تحس أنها فيها رخامة، فيها طرب معين. ها، طيب! "رُبَّ زِحَافٍ أًطْيَبَ فِي السَّمْعِ مِنَ الْأَصْلِ"، أي خبن "فاعلاتن" هذه إلى "فعلاتن" أحيانًا يَكُون رائعًا جدًّا، تأملوا، اسمعوا! مرة أراد شاعر أن يعبر عن مشي الخيل وهي تضرب على الأرض، فقال:

جَرَتِ الْخَيْلُ فَقَالَتْ حَبَطَقْطَقْ حَبَطَقْطَقْ

تشرفنا!

تشرفنا! سأكلّمكم عنه بعد قليل كلامًا عاطفيًّا، هذا يستحق التقدير، تشرفنا حقا، بحر الرمَل هذا بحرٌ مشرّف.

مخبونة.

مخبونة، ما الخبن؟ حذفُ ساكن السبب الخفيف متى كان ثاني حرف في التفعيلة. وهو هذا، تتحول به "فاعلاتن" إلى "فعلاتن"، فتُسرع الحركة؛ لهذا استفاد الشاعر في تمثيل سير الخيل "دددن دن، دددن دن". هناك في المتدارك "دن ددن، دن ددن"، تعبير عن درجة أسرع من هذه، أما هذه "دددن دن، دددن دن"، فأبطأ، أرأيت؟ هذه هي الحساسيةُ العالية!

فاعلن.

أين "فاعلن" هذه؟ ثم "فاعلن" في بحر المتدارك، يا مسكين! "دددن" هنا قطعة من "فاعلاتن"؛ فما هي منها؟

فعلتن.

بل "فَعِلا"، حُذفت من "فاعلاتن" هذه الألف، وهذا خبن، والتفعيلة به مخبونة، وحُذف السبب الخفيف كله من الآخر، وهذا حذف، علّة شديدة، والتفعيلة بها محذوفة؛ فـ"فَعِلا" إذن مخبونة من الأول محذوفةٌ من الآخر، أرأيتم؟ مخبونةٌ من أولها بحذف الألف، ومحذوفةٌ من آخرها بحذف السبب الخفيف "تن" كله. والخبن طبعا زحاف لَطيف، أما الحذف فعلة شديدة؛ لهذا ستجدون هذا الشاعر -انتبهوا إلى الأبيات، انتبهوا!- يخبن ولا يخبن، لكنه يلتزم الحذف، لأنه شديد؛ فلو فعله مرة ولم يفعله مرة لنشّز أي كسر طبعًا، وخرج من الوزن، وأحس الناس باضطراب، وتأذُّوا سمعًا، ولاسيما الموتَّرو الإحساس! فإذن، ها!

كيف؟

فعلاتن.

فعلاتن، أي؟

مخبونة

مخبونة، ها!

مخبونة.

مخبوطة؟

مخبونة.

فاعلن.

فاعلن؟

فاعلا.

فاعلا، ما "فاعلا" ما هذه؟

محذوفة.

النقل.

النقل؛ فما النقل إذن؟ تغيير التعبير عن التفعيلة من رمزها المشوّه بالتغييرات، إلى كلمة أخرى لطيفة النطق مساوية الوزن. طيب، ما فائدة هذا النقل؟ تلطيف التعبير. وما مضرّته؟ قطع الصلة! نعم؛ ففي الوافر مثلًا تعلَّمتم نقل "مُفَاعَلْ" في عروض البيت وضربه، إلى "فعولن" استقباحا لما صار إليه رمز التفعيلة -ما "مفاعل" هذه؟ مُفاعل نووي!- وفرحتم بلطافة "فعولن"، وقطعتم صلتكم بـ"مفاعلتن" أصل "مفاعلْ"؛ فلن تجد طالبًا يصفُ "فعولن" بالقطف الذي تُوصف به "مُفاعَلْ"، بل سيقول لك سالمة، وهي في الحقيقة مغيرة، ها، ماذا تقولون في هذا الإفساد؟ نعم؛ ألم يقطع صلة صور التفعيلة الواحدة بعضها ببعض! وإذا قلتم في "فَعِلا": "فَعِلُنْ"، فبِمَ ستصفونها؟ ستقولون مثلًا: مخبونة، وهي مخبونة محذوفة! فيا جماعة، فائدة نقل التفعيلة من صورة مشوّهة إلى صورة لطيفة سليمة، التخفيف على الناس، والتلطُّف بهم، والتحبُّب إليهم، لكن ما مضرة هذا؟ قطع الصلة بالأصل العَروضي؛ فلهذا لا أفعله أبدًا! على رغم قول ابن الروميّ من مُخلّع البسيط (أشهر صور مجزوئه، والبيت منها على "مستفعلن فاعلن متفعلْ"، مرتين) -وهذا من إغارة الشعراء على كلام العروضيين-:

"مستفعلن فاعلن فعولُ مُستفعلن فاعلن فعولُ

بيت كمعناك لَيس فِيه معنًى سِوى أنه فضولُ"!

يهجو، هذه قصيدة هجاء، يقول للمهجوّ: مُستفعلن فاعلن فعول -يشتمه بالتفعيلات- مستفعلن فاعلن فعولُ، يا ابن الـ...! حُرُوز (ألغاز) -أليس كذلك!- والمعنى في بطن الشاعر! لا، هذا في تفنّن الشاعر وارد، لكنه في علم العَروضي تفريط في الأصل الذي ينبغي أن يتمسك به. طيب!

مخبونة محذوفة

مخبونة محذوفة، لكن انتبهوا –"لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"- كونوا على قلق، على حذر، لا تعمموا الأحكام، احكموا على كل بيت بما فيه، لأن الرجل سيغير، لن يلتزم هذا. طيب! الآن ينبغي أن تشدوا دساتين أعوادكم، وأن تحموا... نعيد إذن: شدوا دساتين أعوادكم، وأحموا طبولكم ودفوفكم، واشربوا، واطربوا - قدمتم في الملفات بعض هذا الكلام على بعض، قلتم: شدوا دساتين أعوادكم، واشربوا، واطربوا، وأحموا طبولكم ودفوفكم! لا، هذا من تخريب الكلام، لا يجوز، هذا من تحريف الكَلِم عن مواضعه؛ فإحماء الطبول والدفوف مناسب لشد الدساتين، أما "اشربوا، واطربوا" فالمراد منهما ابتهجوا. ومن أجمل ما وجدته لكم أنكم فسرتم العبارة صراحة: أي ابتهجوا! هذا مقام البهجة، هذا مقام من مقامات البهجة، لا يجوز أن تكتئب- واشربوا واطربوا ولا يتقدمن عازفٌ عازفًا؛ فإن ظنّ أنه يحسن فإنه يسيء -كنتم تقولون في الملفات: فهو يسيء، خطأ، فإنه يسيء. أما العبارة الأخيرة فلم يخطئ فيها أحد قط- واجعَلوا النغمَةَ أكثرَ زُرقة! لماذا لم يخطئ فيها أحد؟ لأنها غريبة، أنا لا أفهم معناها أصلًا، فنقلناها كما هي، والشيء إذا كان غريبًا حفظناه على هيئته حتى يجد من يفهمه؛ "رُبَّ حَاملِ فقهٍ إلى مَن هُو أَفقَهُ منه"، واجعلوا النغمة أكثرَ زُرقة! ها، أعيدوا.. أعيدوا البيتين ثم أضيفوا ما بعدهما، ها معًا معًا!

أحسنتم!

ها! ما هذا! نُعيد.

ها، لحظة، يقلبون الصفحة، يا للعار، يا للعار! هل سمعتم بعازفين يستمهلون الجمهور: لحظة بَسْ نقلب الصفحة؟ مستحيل! ماذا يفعلون؟ كيف يفعلون؟ كيف؟

لا يقرؤون من النوتة.

لا، بل يقرأون من النوتة، لكن ماذا يفعلون؟ هل رأيتم أيديهم؟ في لمح البصر يقلبون الصفحة، لا يتعطلون أبدًا، مستحيل، أنا أراهم، أتابعهم، ها!

ساحبٌ مئـ - ما شاء الله!- لا يُلدغُ المؤمن من جُحرٍ مرتين، فاتهموا إيمانكم -من الذي أكمل التفعيلة؟- تحتاجون إلى إصلاح النية، وإصلاح العمل، أعيدوا!

آه! سمعنا، سمعنا إضافة، ما هذه العلاوة! أعيدوا، ها!

عندنا هنا شيء جديد أو وحيد في القصيدة، لم يحدث إلا هنا، من انتبه؟

دن دددن.

"دن دددن" هذه في الرجز.

دن ددن.

"دن ددن" حدثت قبل هذا، ها!

دن دن دن.

"ئيل تعـ"، أعيدوا!

"رايتن في"، ما هذه العلاوة؟ أعيدوا!

"ـت على الذلِّ"، ما هذه العلاوة؟ هذا دلالٌ لا أطيقه!

إيليا أبو ماضي.

إيليا أبو ماضي مثلًا جميل -وإن كان في المُهَاجر- قريب من روح هذه المدرسة. منهم محمود حسن إسماعيل العظيم، هذا ابنُ كليتنا، وكذلك علي محمود طه المهندس -شاعر مهندس من كبار الشعراء- وكذلك إبراهيم ناجي شاعرُ الأطلال -كل هؤلاءِ يحبون الرمَل- وأبو القاسم الشابيّ، وهو من عشاق الرمَل، أحسوا أنه بحرهم الذي يُعبّر عن الطبيعة والحياة والجمال وكذا، تجدون هذا كثيرًا في شعرهم، وكذلك قيل في شعر نازك الملائكة قبل أن تتحول إلى الحُر. طيب! ننتقل الآن إلى العمل الفردي؛ فبمن نبدأ؟ بمن؟ سالمة، لأنني أحسست أنها لا تعزف معنا. ابدئي بالحادي عشر، طمئنينا على القراءة، أسرعي لكي لا نتأخر!

أَوَمَا كُنْتِ إِذَا الْبَغْيُ اعْتَدَى مَوْجَةً مِنْ لَهَبٍ أَوْ مِنْ دَمِ 

كنتُ -والله!- ثم قسَتْ قلوبنا!

الله، جميل، جميل، كيف هذا، متى هذا، أنَّى هذا! ثم من؟ ذكّريني، سأحفظ -إن شاء الله!- الأسماء، مريَم، تفضلي!

كَيْفَ أَقْدَمْتِ وَأَحْجَمْتِ وَلَمْ يَشْتَفِ الثَّأْرُ وَلَمْ تَنْتَقِمِي

أعيدي، أعيدي!

خطأ، أعيدي!

أحسنتِ! هو هذا.

أحسنتِ!

خطأ، ما هذه العلاوة؟ أعيدي من الأول!

أحسنتِ!

خطأ!

خطأ!

أحسنتِ! هو هذا، أنوار!

اسْمعِي نُوح الحزانَى...

نُوح!

نَوح.

أعيدي.

اِسْمَعِي نَوْحَ الْحَزَانَى وَاطْرَبِي وَانْظُرِي دَمْعَ الْيَتَامَى وَابْسَمِي

وابسمِي. أظن أن بعض الناس يربط بين اسم سيدنا نوح والنواح؛ فلم تُبعِدي كثيرًا!

اسمعي نو

ح ل حزانى

وطربي

عزف سري، عزف سري، لا، لابد أن يكون العزف من طبقة الغناء كما ترين في الأغاني المعروفة.

خطأ.

أحسنتِ! هذا هو.

خطأ.

جميل!

خطأ!

أحسنتِ!

خطأ!

أحسنتِ!

خطأ!

أحسنتِ!

حصلت أنوار على خمسٍ وعشرين، هناك ناس يحصلون على ممتاز، ولا يعرفون العَروض، ليست منهم أنوار، لكنني أحذرها أن تكون منهم! هناك ناس يحصلون على ممتاز ولا يعرفون العَروض، متى يتورطون؟ في المواقف، فيما بعد يتورطون؛ فأنا أخاف عليها أن تتورط. كان عندنا أستاذ عظيم معروف، محمد أبو الفضل إبراهيم، محقق كامل المبرد وكذا وكذا، فتح عليه المحققون باب جهنم باقتراح أن يضيف إلى الفهارسِ الفهارسَ العَروضية! تورّط، قال: منهم لله! وكان يحصل على "ممتاز" في العَروض، ولا يعرف العَروض! هذه الطريقة التي نمارسها الآن، هي معرفة العَروض؛ فاتبعوها، والتزموها! ها، من؟

منى.

منى.

وَدَعِي الْقَادَةَ فِي أَهْوَائِهَا تَتَفَانَى فِي خَسِيسِ الْمَغْنَم

جميل!

خطأ!

أحسنت، أحسنت! من؟

راية.

راية صاحبة الاسم الجميل.

رُبَّ وَا مُعْتَصَمَاهُ

نعم؟

رُبَّ وَا مُعْتَصَمَاهُ

معتَصَم؟ هو كان يُسمي نفسه المعتصِم بالله، أإذا ناديناه المعتصَم يجيب؟ لا يجيب! هذا مُحمَّد، أإذا قلت: يا مُحمِّد يجيب؟ لا يُجيب! هذا المعتصِم، المعتصِم بالله، لا المعتصَم، وإن كان في "المعتصَم" معني جميل كذلك، هاّ "رُب وا مُعتصِمَاه"، اسمه المعتصِم، هذا اسمه، أعيدي!

رُبَّ وَا مُعْتَصِمَاهُ انْطَلَقَتْ مِلْءَ أَفْوَاهِ الْبَنَاتِ الْيُتَّمِ

جميل، خرِّجي!

انطلقت، أعيدي!

خطأ!

أحسنتِ، أكملي!

جميل، بديع، بديع! في الآخر من؟ لا، في الآخر، ها، من؟

حنان.

حنان، تفضلي!

لَامَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لَكِنَّهَا لَمْ تُلَامِسْ نَخْوَةَ الْمُعْتَصِمِ

ما أكثر القادة طبعًا، وما أقل المعتصمين، ما أكثرَ القادة، والمُعتصِم واحد!

لامست

أين العزف؟ لا أسمع!

لامست

أسمعاهم

لكنها

لم

تلامس

نخوة المعتصم

والله! ما هذا؟ ، لا، لا، أعيدي!

إحم، إحم!

وهل سيغير "إحم، إحم"، في الموضوع! لن يغير في الموضوع شيئا! تتنحنح، وإذا ما تنحنح المُغني عرفنا أنه عنده مشكلة!

فَلَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنَحَتْ فِي حَدِيثِهَا وَمِنْ آيَةِ الصَّرْمِ الْحَدِيثُ الْمُنَحْنَحُ!

ها!

لامست

لا؛ ماعهم لـ(ا)!

لا، لا يجوز، سبحان الله! أين وقفنا؟ عند "أسْـ"، نبدأ بما بعدها: "ماعهم لـ(ا)"!

خطأ، بعد كل هذا! "ـكنها"، فقط، أكملي!

خطأ، "لم تلامس، دن ددن دن، فاعلاتن، سالمة".

لم تلامس، دن ددن دن، فاعلاتن، سالمة

لا، هذه ليست "ـتصَمِ"، بل "ـتصِم"! طيب! نريد منكِ وعدًا أن تجتهدي أكثر، اتفقنا، وعد؟

وعد.

والناس عند وعودهم! ها، من؟

هاجر.

هاجر، تفضلي!

أحسنتِ!

أحسنتِ، جميل! ثم من؟ من؟ لميس!

خطأ! ابدأي من الأول، أعيدي!

خطأ، أخطأت العزف، ثم تعزفين بآلة حادة، لا بالممحاة، سبحان الله! ما هذا؟ هذا عزف يريد أن يهرُب من العزف، ها!

من؟

كاذية.

كاذية.

لا، أضيفي التاسع عشر!

فَاحْبِسِي الشَّكْوَى فَلَوْلَاكَ لَمَا كَانَ فِي الْحُكْمِ عَبِيدُ الدِّرْهَمِ

فَاحْبِسِي الشَّكْـ

جميل!

وَى فَلَوْ

فرصة، براحتك!

ههه!

أَيُّهَا الْجُنْدِيُّ يَا كَبْشَ الْفِدَا يَا شُعَاعَ الْأَمَلِ الْمُبْتَسِمِ

ها!

خطأ!

أحسنت! عمر!

مَا عَرَفْتَ الْبُخْلَ بِالرُّوحِ إِذَا طَلَبَتْهَا غُصَصُ الْمَجْدِ الظَّمِي

أحسنت، خرِّج بآلة حادة!

"ـد الظٌّلًّمي"! ـد الظمي.

أحسنت! "مِسعد يا تنور يا مجمع الزينات"، هذه أغنية شعبية -يا جماعة!- جميلة، أحبها جدًّا جدًّا، أغنية سورية شعبية، والتنور طبعًا الفرن، معروف، يجتمع حوله الناس البسطاء في القرى، جميل، مجلس جميل، مجلس الطهي والخبز، فيغني يقول: "مِسعد يا تنور يا مجمع الزيادات"، مجمع الأحباب والناس الحلوين، هكذا نفعل في قريتنا؛ كان عندنا فرن في الشارع، وفرن في الدار، وفرن في كل غرفة من غُرف الدار! كتبت عن هذا قصتي " مهرجان الفرن الأكبر"، أعني فرن الشارع، وهو لابُد أن يقف عنده الناس جميعًا، ويُحيّ بعضهم بعضًا، وإذا كان عندنا عرس نزلوا عنده، ومشوا على الأرجل إلى الدار، يا سلام! اقرأوا هذه القصة حصلت بها على جائزة القصة الأولى.

ما اسمها؟

اسمها "مهرجان الفرن الأكبر". مِسعد يا تنور يا مجمع الزينات، ها!

بُورِكَ الْجُرْحُ الَّذِي تَحْمِلُهُ شَرَفًا تَحْتَ ظِلَالِ الْعَلَمِ

خَرِّج!

جميل، لكن مع سرعة في بعض الأحيان! عودوا إلى البيت الأول، ما قافيته؟ مضى الوقت، مضى الوقت، عندي شغل.

لِلْقَلَمِ.

لماذا؟ قدمت لك ما تريد، وما الذي أريد؟

أول ساكنين.

آخرُ ساكنين، آخرُ ساكنين، أين هما؟ أين؟

اللام.

من الآخر إلى الأول: الياء غير المكتوبة، واللام، بينهما القاف المفتوحة واللام المفتوحة والميم المكسورة، وقبلهما اللام المكسورة. هي إذن "للقلم"، لا تنخدعوا بإيقاعها! سيخدعكم بعد قليل، ها!

منصرم.

منصرم، ها!

ء الألم.

ء الألم، ها!

م النغم.

م النغم، ها!

نى الشمم.

نى الشمم. ها!

ه الأنجم.

انخدعتم! قلت لكم من قبل: لا تنخدعوا بإيقاع القافية؛ فربما اختل، تغير! هي "أنجم"، ها!

في فمي.

في فمي، ها!

يلتئم.

عاد "يلتئم"، ها!

لِ الحرم، من الذي قال: وظل الحرم، لا -يا عمر!- بل "لِ الحرم"، ها!

ر التهم.

ر التهم، ها!

من دم.

من دم، أرأيتتم! لا تطمئنوا إليه، لا تسلموا له زمامكم، ها!

تنتقمي.

تنتقمي، ها!

وابسَمي.

وابسِمي، ها!

س المغنم.

"س المغنم"! خطأ، خدعك! "مغنم"، فقط، ها!

تَمِ.

"تَمِ"! ما "تَمِ" هذه؟

يُتَّمِ.

يُتَّمِ، صحيح، ها!

مُعْتَصِمِ.

مُعْتَصِمِ، ها!

ـرَ الصنم.

ـرَ الصنم، ها!

ـدَ الْغَنَمِ.

أين "دَ الْـ" هذه؟ أين "دَ الْـ"؟ دلّني على "دَ الْـ"، بل "وَ الْغَنَمِ"، ها!

درهم.

درهم، ها!

ـمبتسم.

ـمبتسم، ها!

دِ الظمي.

دِ الظمي، ها!

لِ الْعَلَمِ.

لِ الْعَلَمِ؛ أرأيتم؟ خدَّاعة، قافية خدَّاعة! طيب، ما أقوى المكرّرات؟

الميم.

طبعا، وما حركتها؟

مكسورة.

قبلها ألف أو واو أو ياء ساكنات؟

لا.

قبل الذي قبلها ألف؟

لا.

ما الذي بعدها؟

ياء.

ياء مد؛ هيا، أضيفوا بيانات القصيدة إلى بطاقتها الشخصية كما تفعلون في كل مكان، ها! هذه القصيدة...

رملية الأبيات.

رملية الأبيات؛ ما طول البيت؟ أتام أم وافٍ؟

واف.

طبعًا وافٍ، لأن عندك مثلًا بعض التفعيلات أصابها حذف يستحيل أن يصيب غيرها؛ فهي غير متساوية؛ فهذه القصيدة إذن رملية الأبيات الوافية، ها!

الصحيحة.

كيف تصح؟ هل جاءت العَروض "فاعلاتن" مرة؟ هل جاء الضرب "فاعلاتن" مرة؟ فكيف تذكر الصحة؟ لا سبيل إلى الصحة، لكن المشكلة هنا في خبنها مع حذفها؛ فقد وقع حينا، ولم يقع حينا؛ لهذا لن نذكره في التصوير، لأنه لم يلتزمه؛ فماذا نقول؟ المحذوفة العَروض والضَرب. ننتقل إلى القافية، ها؟

ميمية.

ميمية القوافي، ها!

المكسورة.

المكسورة، ها!

الموصولة.

الموصولة؟ بل قبل هذا؟

المجردة.

المجردة، ها!

الموصولة بالياء.

الموصولة بالياء -نعم- لأن هذه الياء لا تكون هنا إلا مدًّا أصلًا؛ فيكفي أن نقول: الموصولة بالياء. ممتع هذا -أليس كذلك!- ممتع أن نفك الخط هكذا، وأن نضيف هذه البيانات على حسب الظروف. ماذا قلتم على وجه العموم؟ هذه القصيدة...

رملية الأبيات الوافية المحذوفة العَروض والضرب، ميمية القوافي المكسورة المُجردة الموصولة بالياء.

بَاركَ الله فِيكُم، وشكرَ لَكُم، وَأَحْسَنَ إِليكُم، والسَّلام عَليكُم!

**************************************

نديم العروضيين المجلس الرابع عشر

سلام عليكم!

وعليكم السلام!

طبتم صباحا -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا! بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاة على رسوله وسلاما، ورضوانا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم، آمين! كيف حالكم، كيف أصبحتم؟

بخير.

لله الحمد والشكر، بارك الله فيكم -هذه نقلد فيها الشيخ حمودًا الصوافي- بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب! اليوم نستمتع استمتاعا كبيرا جدا بقصيدة ملحمية، ننظر من خلالها في نمطين جديدين من الوزن ومن القافية هذه القصيدة رائية أبي فهر محمود محمد شاكر ، أستاذنا أستاذ الدنيا، الذي جلسنا إليه تسع السنوات الأخيرة من عمره، رحمه الله، وطيب ثراه! ولد سنة تسع، وتوفي سنة سبع وتسعين؛ عاش قريبا من تسعين عاما، وكان يحسب عمره بالهجري لا الميلادي، فبالهجري بلغ التسعين وتجاوزها، أما بالميلادي فمات في الثامنة والثمانين، كان معمرا كما ترون ببركة بره، وبركة حرصه على صلة الرحم، وبره بأهله وبأصحابه. رجل معروف بالعلم أكثر من معرفته بالشعر، تشرفت بأنني اتصلت به سنة تسع وثمانين، وبقيت إلى أن توفي سنة سبع وتسعين. وقد حاولت قناة الجزيرة الفضائية أن تعرفه للناس بفِلم رفعته على موقعي.

هذه -يا جماعة!- صورتي معه في أيام الماجستير، ولا حول ولا قوة إلا بالله -ههه!- كنت في تلك الأيام قريب العمر منكم، كنت في العشرينيات، وكان هو كما ترون -انظروا!- شيخًا كبيرًا، وعلى رغم هذه السن جاء قبل الوقت، وذهب بعده، لم يأت ليمر سريعا، لا، بل جاء قبل الوقت، وبقي الوقت كله، ثم مضى بعدما فرغنا من كل شيء. وهذا في الصورة معي عن يمين أستاذنا هو الدكتور محمد أشرف المشد، أستاذ الآن بجامعة الإمام، كنا صغارا طبعا، وهذا الرجل خلفي هو الدكتور إبراهيم ضوة، كان أستاذا هنا بالقسم، وأبَّنه القسم قريبا أي أقام له حفل تأبين إكراما للمدة التي خدم بها القسم. وهذه السيدة خلفي هي أم فِهْر زوج أستاذنا، يَكْتَنِيان بفِهْر ابنهما الأستاذ الآن بقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة القاهرة. سماه أبوه فِهْرا، وذهب ليسجله؛ فاستغرب الاسمَ أحدُ الموظفين المسلمين، واستنكره، وقدره كثيرا أحدُ الموظفين النصارى، بعدما ذكر لهما أستاذنا أن فهرًا هذا هو قريش، وأستاذنا شريف النسب أبا وأما، يحفظ باسم ابنه نَسَبَه. وعلى رغم غرابة الاسم آنذاك سماه الناس بعده تقليدا له، كما سمَّوا اسم ابنته وحبة قلبه "زُلْفى" -وعندكم "مسجد الزُّلْفى"- وليس له غيرهما، بارك الله فيهما وفي ذريّتهما! وهذا المكان في الصورة، هو مدرج "علي مبارك باشا "مؤسس كليتنا -وكان أحد كبار رجال مصر المعدودين، في دولة أبناء محمد على باشا الكبير- سمينا باسمه هذا المدرج إكراما لمن أنشأ كليتنا سنة اثنتين وسبعين وثمانمئة وألف -وانظروا إلى الزمان البعيد- لتكون أكبر من جامعة القاهرة بثلاثين عاما، بنتا أكبر من أمها الجامعة التي تضمها، كانت قبلها تسمى كغيرها "مدرسة"، لا "كلية"! وهذا فيلم "قناة الجزيرة"، فشاهدوا معي:

https://www.bing.com/videos/riverview/relatedvideo?&q=%d9%82%d9%86%d8%a7%d8%a9+%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d9%8a%d8%b1%d8%a9+%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%85+%d9%85%d8%ad%d9%85%d9%88%d8%af+%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af+%d8%b4%d8%a7%d9%83%d8%b1&&mid=7BD0035CB9947631E2157BD0035CB9947631E215&&mcid=EC68EE01D9794539AF9ED2A6EDBD1511&FORM=VRDGAR

سنمر به سريعا إلى أن نصل إلى...، تأملوا الكلمة التي بدأ بها، "طريق الحرية شاق طويل، ولكنه وحده هو الطريق"، اختاروا هذه لتكون مفتَتح الفِلم! أين الصوت؟ أين الأصوات؟

لا يوجد صوت!

سبحان الله، آه، هذا! هذه الجزيرة الوثائقية. هذه الإسكندرية -يا جماعة!- هذه خادمتهم -تمثيل، هذا تمثيل طبعا- وهذا شاكر -ههه!- هذا الشيطان الذي سيقلب الدنيا رأسا لعقب. هذا الغناء القديم! في أوائل القرن موسيقى قديمة! هذا أبوه جاء ليراه، يمسك بمسبحة، لم يكونوا يستعملونها، لم يكونوا يستعملون المسابح، ليست من السُّنّة، استعمال المسابح ليس من السنة، الناس متمسكون إلى حد بعيد، هذا كلام فارغ حدث فيما بعد. من يومه كانوا يسمونه الفاتك، لأنه مدمر، هذا محمود محمد شاكر المدمر الفاتك، يسمونه الأديب الفاتك؛ فكم فتك بعلماء ونقاد سيئين مسيئين فسدة مفسدين في الأرض، وله في هذا كتابه "أباطيل واسمار"، تدمير، اكتساح، ما قام له شيء إلا أقعده. هذا الطفل المسكين، هذا الوالد -يا سلام!- تأملوا، يتكلم عن طفله، سماه محمود سعد الدين، ثم لما كره الأستاذ سعد زغلول، ذهب فحذف من اسمه "سعد الدين"، ههه! اقرؤوا هذه كلمة نجيب محفوظ: "خشيت الذهاب لندوته، حتى لا تتأثر لغتي بأسلوبه"، هذه معروفة عن نجيب محفوظ، طيب! هذا الغنيم الأستاذ الكويتي الكبير، يقول -اقرؤوا!-: "إذا كنتم لا تعرفون قيمة هذا الرجل فامنحوه إذنا بالسفر، وسنحمله على رؤوسنا في الكويت"! ونعم؛ حين كنت في مجلسه جاءه سلام أمير الكويت، ودخل علينا في مجلسه الدكتور عبد الله تركي الوزير السعودي، وظنني ابنه لما فتحت له الباب! وأستاذنا مُقدّر محبوب عند سماحة مفتي عمان الشيخ "أحمد الخليلي"، هذا رجل عظيم، اقرؤوا قول مالك بن نبي المفكر الجزائري العظيم: "لو أدرك الجاحظ زمانه لترك له مكانه"، ومالك بن نبي هذا رجل خطير جدا! وهذا بلال فضل الصحفي والإعلامي المصري، الذي نوافقه ونخالفه، يقول فيه وهو من واد غير واديه: "أي تعريف لهذا الرجل سيخل حتما بعظمته وقدره"! صار أستاذنا بعد أستاذه مصطفى صادق الرافعي، يُلقّب عند المشتغلين بالعربية بشيخ العربية، مدرسة بعضها من بعض، تلميذ الرافعي الذي تمكن بعده في مكانه، وأفضى الأمر إليه بعده.

أحب أن تنظروا إلى الأماكن، انظروا إلى المكتبة -يا جماعة!- البيت كله مكتبة، كله -وهو كبير- مكتبة من الأرض إلى السقف، إلا المطبخ والحمام فقط! الأماكن كلها والحجرات كلها -وهي كثيرة- والممرات، كل ذلك كتب، وأهم ما في هذه الكتب أنه قرأها كلها، وهذا كالمستحيل طبعا؛ أكثرنا يحشد الكتب ولا يقرؤها، والدليل أنك إذا ما ذهبت إلى أي كتاب فأخذته وفتحته وجدت تعليقات أستاذنا على الحواشي، شيء كالمستحيل هذا، بركة، هذه بركة الوقت، كان أحيانا يعمل ثماني عشرة ساعة كل يوم! هذا ابنه الدكتور فهر. هذا هو الدكتور محمد أبو موسى أحد تلامذته، وهو الآن الفيلسوف البلاغي المعروف، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، يتكلم عن الشيخ محمد شاكر أبي أستاذنا؛ هذه عائلة شريفة -يا جماعة!- من آل أبي العلياء أشراف جرجا من محافظة سوهاج بصعيد مصر، عرب أقحاح طبعا، كان أبوه الشيخ محمد شاكر من طبقة شيخ الأزهر، أحد كبار مصر، يفد عليهم في بيتهم الكبراء والثوار والقادة من كل مكان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وكما كان الأب كان الابن، وقد أدركت بعض هؤلاء دون بعض. هذا المجلس الذي يجلس فيه الدكتور فهر، صنعة أحد اليهود المصريين -انظروا!- هذه نجمة داوود -ولليهود كيان بمصر، وقد قلوا كثيرا بعد البغي الإسرائيلي، لعنة الله على الظالمين!- وقد حفر هذا اليهودي على الخشب عبارات من الأدب العالي -لا كما يفعلون هذه الأيام، يزخرفون بالحروف الأجنبية- عبارة "زينة الرجال الأدب"، وعبارة "زينة النساء الجواهر والذهب"! انظروا؛ هذا مكتبه، هذه كتب، كتب، كتب! وعلى الأرض كنا نرى حقائب مغلقة، ماذا فيها؟ أشياء أخرى كثيرة لم يجد لها مكانا! وهنا بجوار مكتبه مكتبة دوارة، فيها لسان العرب بطبعة بولاق التي لا وجود لها الآن طبعا، وكل جزء في مجلد، وكل هذه المكتبة مجلدة باسمه، حفر على الجلد من تحت "أبو فهر محمود محمد شاكر"، بخط من؟ بخط سيد إبراهيم (سيد الخطاطين)! كتب، كتب، كتب حتى على باب البيت من داخل، فأما من خارج فعليه بطاقة نحاسية فيها اسمه الكريم بخط سيد إبراهيم على النحو نفسه الذي عممه على أغلفة كتبه! هذه صورة أخيه الشيخ أحمد محدث العصر، أستاذه الذي علمه وكلفه في أوليته حفظ المتون وحدد له منها أوراد ما يحفظه: احفظ من هنا إلى هنا، ثم من هنا إلى هنا، افعل كذا ثم كذا ثم كذا- نعمة كبيرة طبعا. صورة من هذه؟ صورة مصطفى صادق الرافعي، أمير البيان الحديث. وهذا الدكتور حسان عقل، شاب جميل من جامعة عين شمس، يحسن الكلام.

هذا تمثيلٌ للمشكلة التي حدثت بجامعة القاهرة حينما كان وهو العالِم الصغير طالبا في السنة الأولى بقسم اللغة العربية من كلية الآداب، يسمع طه حسين يدعي ما ليس له -وأصل ما يدعيه كذبٌ على العروبة والإسلام- فيقف له ملجما بلجام جميل الدكتور طه حسين الذي شفع له في دخول قسم اللغة العربية وهو خريج القسم العلمي في الثانوية، لكنه كان يعرفه ويزور أباه فيمن يزوره، فشفع له عند صديقه أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة! جلس مقيدا بإحسانه إليه، ثم ذهب إليه وحده يكلمه عبثا: يا أستاذ، هذا كلام مرجليوث لا كلامك! ثم لما وجد إصرار الدكتور طه حسين قام، فتكلم، فغضب منه الدكتور طه حسين، فترك له الجامعة وهو في السنة الثانية غير مأسوف عليها: هذه جامعة لا قيمة لها، ما دام الأساتذة فيها يكذبون ويدعون ما ليس لهم هذا الادعاء! وسقط في عينه معنى الجامعة، وكان في السابعة عشرة! يمثلون، انظروا إلى ملابس المصريين! هذا تمثيل الدكتور طه حسين وهو منزعج، - هذا ممثل أستاذنا، شاب قريب الشبه، يقول: ما هذا الهراء، ما هذا العبث ! الدكتور طه حسين أديب كبير، لكنه مُدَّعٍ مشغوف بإثارة الانتباه وتفجير الساحة وقلب الدنيا المستقرة، هكذا كان طوال عمره، هذه أسلوبه في تحريك الساحة الثقافية- فلما وقف وقال له ذلك الكلام وفيه يده المجلة الأجنبية التي فيها مقال مرجليوث نفسه، أحرجه، وأضحك عليه زملاءه!

ماذا نريد الآن؟ نريد أن نصل إلى حفل كان ببيته. هذا المتكلم عن أستاذنا الآن رجل عظيم -يا جماعة!- فاعرفوه، وابحثوا عنه! كنت أريد أن يأتي إلى قسمنا هنا، اسمه الدكتور إبراهيم عوض، أستاذ بجامعة عين شمس، درس بأوربة، وأحاط بالنقد والأدب من أطرافه، رجل عظيم، قلت له: ما رأيك في أن تأتي عُمان؟ قال: أنا مستعد، واستبشَر! لم أره إلى الآن، ولا علاقة لي به أصلا، عرفته بالإنترنت فقط، وقدَّرت ما عرفته عنه، فرجوت أن يكون هنا، لولا جدول الاستقطاب الصارم! علاقتهم بالكبار، الكبار طبقة واحدة، طبقة واحدة. ما هذا؟ يا سلام! هذا شعر من شعره:

"وَلَسْتُ أَبُوحُ بِمَا قَدْ كَتَمْتُ وَلَوْ حَزَّ فِي النَّفْسِ حَدُّ الْأَلَمْ

تُمَزِّقُنِي مَا حَيِيتُ الْمُنَى فَأَرْقَعُ مَا مَزَّقَتْ بِالظُّلَمْ

فَكَمْ كَتَمَ اللَّيْلُ مِنْ سِرِّنَا وَفِي اللَّيْلِ أَسْرَارُ مَنْ قَدْ كَتَمْ"!

لكن هذا الخط أحسن من خط الأستاذ محمود؛ خط أستاذ محمود سيء! ما هذا؟ تأملوا الطباعة القديمة، هذه الطباعة بالحجر. حين كان أستاذنا صغيرا كتب كتابا عن المتنبي فقلب به الدنيا رأسا لعقب! أعرف هذه السيدة، مهندسة من شباب الأقارب. انتبهوا! من هذا؟ من يعرف هذا؟ هذا الأستاذ يحيى حقي الأديب العظيم -وهو تركي الأصل!- يسلم عليه رجل سأدرس لكم أحد نصوصه فيما يأتي من هذه المحاضرات، هو الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم، يعرف له نفسه، فيحييه. من هذا؟ هذا أستاذ الأندلسيات الدكتور محمود مكي، يسلم عليه، اسمعوا ما يقول له: اسمحْ لي أملّس عليك! كأنه مقام من مقامات الصالحين، يرى الأستاذ يحيى حقي كمقام إبراهيم مثلا -ها!- يريد أن يتمسح به تبركًا، ههه! وهذا الدكتور محمود محمد الطناحي العالم الكبير يقدم له نفسه، فرحوا بحضور يحيى حقي كثيرا! وهذا أحد تلامذة الأستاذ. يلتقي في بيته العرب والعجم، مسلمين وغير مسلمين؛ بيته مفتوح لهم جميعا، يجلسون ويأكلون ويقرؤون ويكتبون، ومن شاء أقام في البيت، لكنه لا يقبل أن يُخرِج كتابا من المكتبة، من أراد فليذهب وليقم، أما أن يأخذ كتابا فلا! هؤلاء من الكويت، هذا الرجل كويتي، أنتظر عبارة معينة قالها الأستاذ يحيى حقي! هذا مقعد أستاذنا في الصدر هنا، لا يغيره، والكتب كما ترون في كل مكان، والباب من هنا، يدخل منه الزوار، ليتحلقوا هنا حول أستاذنا. هذا رجل كبير كذلك عظيم، الدكتور حسين نصار، توفي قريبا، أستاذ كبير جدا. اسمعوا كلام الأستاذ يحيى حقي عن أستاذنا -اسمعوا!-: "لِأَوِّلِ مَرَّةٍ أَسْمَعُ مِنْ مَحْمُودٍ أَنَّ الْحَرْفَ الْعَرَبِيَّ لَهُ مَعْنًى، وَيَجِبُ أَنْ يَتَبَصَّرَ بِهِ الْكَاتِبُ وفِي كِتَابَتِهِ، ثُمَّ قَرَأْتُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الشِّعْرِ الْجَاهِلِيِّ وَالْعَبَّاسِيِّ وَالْأُمَوِيِّ وَالْمُعَاصِرِ، مَا هُوَ جِدٌّ وَمَا هُوَ هَزْلٌ، وَكَمْ ضَحِكْنَا ضَحِكًا شَدِيدًا! مَحْمُودْ شَاكِرْ شَاعِرٌ لَا تَدْرِي لِمَاذَا لَمْ يَنَلْ حَقَّهُ مِنَ الذِّكْرِ كَشَاعِرٍ إِلَى الْآنَ"! الآن نقف: سنعطيه حقه -يا أستاذ!- نحن هنا لنعطيه حقه بالنظر معا في هذه الملحمة! هذه القصيدة من أربعة ومئة بيت، قبل ربع قرن حينما كنت هنا في الزمان الأول، قررتها هي فقط بدل كتاب المتطلب، على طلاب هذه الجامعة، ومنهم طلاب الهندسة والطب والعلوم والزراعة، قررتها، وكنا ننظر فيها صوتا وصرفا ونحوا ومعجما ودلالة وبلاغة وغير ذلك، وأوجبتُ عليهم حفظها، فحفظوها وهي أربعة ومئة بيت! وما زال الشباب يسمعون تلك الحكاية ممن يلقونه من أولئك الطلاب! نعم؛ درستُ قريبًا لنوح اللويهي وزملائه -لعلكم تعرفونه!- فجاءني يحكي عن أخيه الطبيب الذي كان في أولئك الطلاب الذين درست لهم القصيدة وأوجبت عليهم حفظها، أنهم مازالوا يذكرون تلك الأيام الطيبة، وأنهم استوعبوا آنئذ الأمر، وقدروه، على رغم أننا ألغينا الكتاب كله، واكتفينا بالقصيدة طوال المقرر، لا ننظر إلا فيها، ولا نتكلم إلا عنه! هذه القصيدة "اعصفي يا رياح"، وقد خرج بها وبغيرها معها بعد وفاة أستاذنا -رحمه الله، وطيب ثراه!- كتاب باسمها، "اعصفي يا رياح وقصائد أخرى"، فابحثوا عنه على الإنترنت! يكفيكم أنهم سمَّوا الكتاب باسمها تقديرا لها! اسمعوا الكلام الجميل، وهي كما قلت لكم أربعة ومئة بيت، مقسمة على مقاطع، المقطع ثلاثة عشر بيتا، اخترت لكم منها مقطعين، أي ستة وعشرين بيتا، وهو حريص في آخر كل مقطع على إيراد حكمة يغلق بها دائرته؛ فتأملوا ماذا يريد هذا الرجل؟ أنا أدعي أنه يتتبع مسيرة الإنسان منذ أن نزل إلى الأرض إلى وقته حتى تقوم الساعة. طيب، ما هذه الرياح؟

اُنْظُرِي يَا رِيَاحُ يَا وَحْشَةَ الطَّرْفِ إِذَا دَارَ يَمْنَةً أَوْ يَسَارَا

مَا الَّذِي تُبْصِرِينَ أَشْبَاحَ فَانِينَ مِرَارًا تُرَى وَتَخْفَى مِرَارَا

وُجِدُوا ثُمَّ أَوْجَدُوا ثُمَّ بَادُوا وَاحْتَذَى نَسْلُهُمْ فَزَادَ انْتِشَارَا

وَتَمادَى الْبَقَاءُ فِيهِمْ دَوالَيْكَ فَشَيْءٌ بَدَا وَشَيْءٌ تَوَارَى

أَوْغَلُوا فِي الْحَياةِ جِيلًا فَجِيلًا وَتَجَلَّى طَرِيقُهُمْ وَأَنَارَا

فَمَضَوْا يُبْدِعُونَ فِي حَيْثُ حَلُّوا وَتَبَارَوْا حِضَارَةً وَابْتِكَارَا

الحِضارة بكسر الحاء، علم الحَضارة.

مَا كَفَاهُمْ مَا بُلِّغُوا فَاسْتَطَالُوا ثَمُّ خَالُوا فَأَسْرَفُوا إِصْرَارَا

ما "استطالوا"؟ تكبروا. و"خالوا" اختالوا.

شُغِفُوا بِالْخُلُودِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فَأَعْطَتْهُمُ الْخُلُودَ الْمُعَارَا

خدعتهم!

عَمَرُوا الْأَرْضَ زِينَةً وَمَتَاعًا ثُمَّ نُودُوا كَفَى الْبِدَارَ الْبِدَارَا

أسرعوا، أسرعوا، حانت الساعة، دقت الساعة المتعبة!

ثُمَّ مَرُّوا أَشْبَاحَ فَانِينَ مَا تَمْلِكُ فِي حَوْمَةِ الزَّوَالِ قَرَارَا

نحن جميعا أشباح فانين؛ فكيف تستقر في الزوال، كيف؟ "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ"؛ صدق الله العظيم!

لَمْ يكُنْ غَيْرَ خَطْفَةِ الْبَرْقِ إِذْ تَبْنِي وَتُعْلِي وَلَمْ يَكَدْ فَانْهَارَا

كل ما أسسوه لم يكن غير خطفة البرق إذ تبني وتعلي، في لحظة تجد البرق يكنس السماء من شرقها إلى غربها، ثم يختفي!

ذَهَبَتْ رِيحُهُم وَهَبَّتْ رِيَاحٌ فَأَقَامَتْ عَلَى الْقُبُورِ الدِّيَارَا

في قريتنا كانوا يهيئون مكانًا ما، فانهارت الأرض، فإذا تحت المكان قبور قديمة لم يعرفوها! صدق حكيم المعرة إذن:

"خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ"!

أي كل ما تدوسونه من الأرض قبور سابقة، ها!

ولْتتأملوا إلى ختام المقطع:

ضَلَّ هَذَا الْإِنْسَانُ يَكْدَحُ لِلْخُلْدِ وَأَقْصَى الْخُلُودِ كَانَ فَصَارَا

ها!

"كَأَنَّمَا قَدْ قِيلَ فِي مَجْلِسٍ قَدْ كُنْتُ آتِيهِ وَأَغْشَاهُ

صَارَ الْبَشِيرِيُّ إِلَى رَبِّهِ يَرْحَمُنَا اللهُ وَإِيَّاهُ"!

بينما يراه الناس في مجلسهم، ويعجبون له، يموت فجأة فيقولون في المجلس نفسه: رحمه الله، وألحقنا به على خير!

اُنْظُري يَا رِيَاحُ ذا القَبَسُ الوَهّاجُ قدْ رَاوَغَ الْفَنَاءَ اقْتِدَارَا

ما القبس الوهاج؟ إذا تكلمنا عن الإنسان، فما القبس الوهاج فيه؟

العقل.      

عقله، أحسنت!

عَاشَ تَحْتَ اْلأَطْباقِ دَهْرًا فَدَهْرًا يَتَلَوَّى بثِقْلِهِنَّ انْبِهَارَا

ما هذه الأطباق التي على العقل؟ أطباق الجهل -ها!- بعضها فوق بعض، "إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نّورٍ"؛ صدق الله العظيم!

كُلَّمَا رَامَ مَنْفَذًا رَدَّدَتْـهُ فِي ظَلَامِ الْأَعْمَاقِ يَعْنُو صَغَارَا

رددته هذه الأطباق!

لَمْ يَزَلْ دَائِبًا يُنَقِّبُ مُلْتَاعًا وَيَحْتَال فِي صَفَاهَا احْتِفَارَا

ما الصفا؟ الصخر. يحتال في هذا الصخر حفرا حفرا؛ تُرى عن أي شيء يبحث؟

صَدَعَ الصَّخْرَةَ المُلَمْلَمَةَ الْكُبْرَى وَأَسْرَى حَتَّى نَمَا فَاسْتَطَارَا

و"أسرى" هذا مطلوب؛ أسرى أي سار ليلا، فهي مناسبة لظلمة الجهل! ما هذه الصخرة الململمة الكبرى؟ لقد اخترق الإنسان في سعيه بعض الحواجز من غير شك؛ فالآن اخترق حجاب الصوت، وحجاب كذا، فسار في ليل الجهل هذا حتى نما فاستطار أي انتشر، ورأى نوره هذا العقل!

وَرَأَى نُورَهُ فَجُنَّ مِنَ الْفَرْحَةِ أَعْمَى رَأَى الظَّلَامَ نَهَارَا

"رأى" أفضل أن يكون من إخوة "ظن"، بمعنى "علم"، وهكذا رأى الظلام، أي علمه، تيقن به، هكذا عَدَّه، وهذا طبعا من مخدوعيَّته وجهله وتسرعه! قبل قرن من الزمان سُئل أحد الحاصلين على نوبل: كم صرنا نعرف عن العالم؟ فقال: تسعين من المئة. ما شاء الله، أنجَزنا! وبعد عشرين عامًا من البحث والعلم سئل آخر، فقال: سبعين من المئة! بعدما ازددنا علما صرنا نعرف سبعين، وبعد عشرين سئل آخر، فقال: خمسين! بعدما ازددنا علما صرنا نعرف أقل؛ تأملوا الانعكاس -ههه!- حتى سئل أخيرًا أحمد زويل العالم المصري الحاصل على نوبل، فقال: خَمْسًا من المئة! وأنا أتوقع أنه لو سئل أحد الآن الحاصلين على نوبل، لقال: صِفْرًا، لا شيء، ولو سئل بعد عشرين، لقال: أقل من الصِّفر بكذا، إلى أن نصل إلى الحضيض طبعا! نعم؛ كنت تظن أنك تعرف، فلما اكتُشفت مليارات المجرات -والمجرة نفسها مليارات النجوم والكواكب- تَبيّن لك أنك أجهل مما كنت؛ قال الشافعي الإمام -رضي الله عنه!-:

"كُلَّمَا أَدَّبَنِي الدَّهْرُ أَرَانِي ضَعْفَ عَقْلِي

وَإِذَا مَا ازْدَدتُّ عِلْمًا زَادَنِي عِلْمًا بِجَهْلِي"!

ولهذا تقل النسبة، ولكن هيهات أن تحترم نفسك أيها الإنسان المغرور:

"عَزَّ عِلْمُ الذَّوْقِ أَنْ يَعْرِفَهُ عَالِمٌ جَانِـَـــبَنَا مَا احْتَرَمَا "!

أو كما قال ابن عربي. رأى نوره هذا العقل، فجن من الفرحة، مسكين، أعمى، رأى الظلام نهارا؛ فماذا فعل؟ جلس يكلم نفسه المسكين، كأنه مجنون!

أيُّ شَيْءٍ هَذَا وَمَا ذَاكَ بَلْ هَذَا وَزَاغَتْ لِحَاظُهُ اسْتِكْبَارَا

قَدْ رَأَى عَالَمًا مَهُولًا مِنَ الْمَجْهُولِ غَشَّاهُ نُورُهُ فَاسْتَنَارَا

لَيْسَ يَدْرِي أَهُمْ عِدًى أَمْ صَدِيقٌ أَيُبِينُونَ لَوْ أَرَادَ حِوَارَا

صاروا يتكلمون عن كائنات أخرى في كواكب، منهم استيفن هوكينج، عالم الفيزياء الإنجليزي، الذي توفي حديثا، الذي يقول: "طبعا هناك كائنات أخرى، وهي أكثر منا تطورا، وليس من المصلحة أن نتصل بها لكي لا نهلك"، هكذا يرى!

أَمْ صُمُوتٌ لَا يَنْطِقُونَ ازْدِرَاءً لِغَرِيبٍ عَنْهُمْ أَسَاءَ الْجِوَارَا

تظل تنقب في الجبل والجبل صامت طبعا، لا يتكلم، لأنك مقتحم عليه متطفل!

وَاغِلٌ يَعْتَدِي يُسَائِلُ عَنْ أَسْرَارِ خَلْقٍ أَجَلَّ مِنْ أَنْ تُثَارَا

من الواغل؟ الذي يقتحم على الناس شرابهم من غير أن يعرفهم، يكونون في مجلس القهوة، فيدخل عليهم، ويجلس يَتَقَهْوَى، فيسأله أحدهم: أتعرف منا أحدًا؟ فيقول: أعرف هذه، يشير إلى القهوة، ههه! هكذا فعل أشعب الطماع، اقتحم على المتطاعمين، فسألوه ذلك السؤال نفسه، فقال: أعرف هذا، يشير إلى الطعام! ولو أطال لقال: معرفة قديمة، هو من أعز أصدقائي، نحن أهل، يعرفني وأعرفه حق المعرفة! فما اسم الذي يقتحم على الناس شرابهم إذن؟

واغِل.

والذي يقتحم عليهم طعامهم وارِش، على ما أذكر، وهو مشهور بالطفيلي، فلان هذا طفيلي -ومنه المتطفل- نسبة إلى طفيل، رأس هذه الطائفة، كان مشهورا بالحضور دون دعوة حتى سمي طفيل الأعراس، نسبة إلى الأعراس التي يحضرها دون دعوة، فرصة أن يأكل -ما شاء الله!- والناس كلهم سعداء لا يلتفتون إليه، يظنه أهل كلا العروسين من أهل الآخر، منتهى الذكاء! وقد استفاد من هذه الفكرة أحد المعاصرين، فقدم بها فِلمًا عن رجل يحضر الأعراس دون دعوة، ويلتهم من أطيب الطعام، فيقول أهل كلا العروسين ممتعضين: انظروا إلى جشع هذا الرجل من أصهاركم! وهو مشغول بالطعام عن هؤلاء وهؤلاء، شيطان!

كَيْفَ غَرَّتْهُ نَفْسُهُ كَيْفَ ظَنَّ الْغَيْبَ يُلْقِي لِثَامَه والْخِمَارَا

يا للمغرور المسكين! كيف توقع بضآلة ما عرف، أن الغيب ينكشف!

أَمَلٌ بَاطِلٌ فَلَوْ أَسْفَرَ الْغَيْبُ َلأَعْمَى بِنُورِهِ اْلأَنْوَارَا

ماذا قال سيدنا موسى -عليه السلام!- لربه، سبحانه، وتعالى؟ قال: "رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَـكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا"؛ صدق الله العظيم!

في بعض القراءات "دَكّاءَ"، بالهمزة الممدودة.

"دَكَّاءَ"، صفة طبعا، و"دَكَّا" اسم -أحسنت، بارك الله فيك!- وفي كلٍّ معنى لطيف؛ فسيدنا موسى سأل ما ليس له، فتلطف به ربه، والمسلمون طبعا مختلفون في مسألة الرؤية، وهذا كله يؤكد الفكرة. "أَمَلٌ بَاطِلٌ"، ما هذا الأمل؟ أن تعرف الغيب الذي لا ينكشف؛ "فَلَوْ أَسْفَرَ الْغَيْبُ لَأَعْمَى بِنُورِهِ الْأَنْوَارَا"، لخررنا مغشيا علينا، لو نزل علينا الآن أحد الكائنات الأخرى التي تخيلها استيفن هوكنج، لخررنا جميعا مغشيا علينا؛ ماذا قال ربنا، سبحانه، وتعالى؟ "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)؛ صدق الله العظيم! طيب! قصيدة جميلة جدا، وهذا غيض من فيضها؛ فمن ينافس على خمس درجات زيادة أو نقصا؟ قلت هذا في المحاضرة السابقة؛ فقال مسعود: أو طردا -تأملوا بلاغة العطف!- فضحكت، ثم أَتَحْتُ له الفرصة، فطرد في الآخر ، جنى على نفسه! يا أخي، تفاءل -سبحان الله!- "تَفَاءَلُوا بِالْخَيْرِ تَجِدُوهُ"! تشاءم بالطرد، فطُرد، تعثر في شيء فطرد، وحصلت كاذية على خمس درجات كاملة! من ينافس؟ لا أحد، ها! ننتقل إلى المجانية، أنتم أحرارا، أين الجرأة؟ ريان غير جريئة، خوافة، الآن ننتقل إلى الأداء المجاني من غير فلوس.

أنا أنافس!

تنافسين!

نعم.

على خمس درجات زيادة أو نقصا أو طردا! تفضلي ريان، لا تنطقي، يا أسماء! ريان ممتازة طبعا، هي في نفسها ممتازة، قد عرفناها، ها!

اُنْظُرِي يَا رِيَاحُ يَا وَحْشَةَ الطَّرْفِ يَا دَارَ يَمْنَةً أَوْ يَسَارَا

نعم، نعم! مع السلامة، نقص خمس درجات! والله! عندك مشجعون من الشباب، عندك ناس!

دكتور، أعطها فرصة!

لا!

ما زالت في البداية!

لا!

خذ من درجاتنا!

والله! ما شاء الله! منتهى الـ...كذا! ها، ماذا تختارين؟ نقص خمس درجات؟

أن أعيد.

تعيدين! إذا أخطأت خطأ نقصتك عشر درجات! خوافة.

الطرد!

الطرد! ما شاء الله، عندك شعبية عند الشباب -ههه!- أعيدي، وأكملي، أخطئي!

اُنْظُرِي يَا رِيَاحُ يَا وَحْشَةَ الطَّرْفِ إِذَا دَارَ يَمْنَةً أَوْ يَسَارَا

مَا الَّذِي تُبْصِرِينَ أَشْبَاحَ فَانِينَ مِرَارًا تُرَى وَتَخْفَى مِرَارَا

وُجِدُوا ثُمَّ أَوْجَدُوا ثُمَّ بَادُوا وَاحْتَذَى نَسْلُهُمْ فَزَادَ انْتِشَارَا

وَتَمادَى الْبَقَاءُ فِيهِمْ دَوالِيكَ...

"دَوالِيكَ"! مع السلامة! أنصفنا -ها!- قد أنصفنا، تقول "دَوَالِيكَ"، ما "دَوَالِيكَ" هذه! هندية! "دَواليك"، مثل "حَنانَيْك"، و"لَبَّيْك"، و"سَعْدَيْك"، بالتثنية، مفعول مطلق. ها، ماذا تختارين؟ رأت كلامنا وتقديرنا لمن يجلس ويقبل أن ينقص منه خمس درجات؛ فهي الآن في عذاب -ههه!- تقول: ماذا أفعل، يا ربي؟ هذا الوضع مقدر تقديرا كبيرا، ولكنني أخاف أن تنقص مني خمس درجات.

لن أخاف.

نقص خمس درجات مع التقدير الشديد (وماذا سأستفيد بتقديرك -كأنها تقول، ههه!- تقديرك لا قيمة له)! ريان، ناقص خمس درجات، وأنا في هذه الأمور لا تراجع ولا استسلام، تجدين في آخر المطاف بعد ممتاز، ممتاز- تقدير جيد (ج)! بعد كل هذا العذاب – س، والعكس، يجد ألفا، كيف وأنا قد أخطأت؟ نفعته الدرجات التي حصلها، كان عندي محمد الشحي، كاد يرسب لولا فائدة مثل هذه الدرجات المضافة! ها، من؟ من؟ ها! بالفلوس، بالفلوس، لا أحد! من؟ خوافون، ها، يوسف، اقرأ مجانا!

نعم

اُنْظُرِي يَا رِيَاحُ يَا وَحْشَةَ الطَّرْفِ إِذَا دَارَ يَمْنَةً أَوْ يَسَارَا

مَا الَّذِي تُبْصِرِينَ أَشْبَاحَ فَانِيـنَ مِرَارًا تُرَى وَتَخْفَى مِرَارَا

وُجِدُوا ثُمَّ أَوْجَدُوا ثُمَّ بَادُوا وَاحْتَذَى نَسْلُهُمْ فَزَادَ انْتِشَارَا

وَتَمادَى الْبَقَاءُ فِيهِمْ دَوالَيْكَ فَشَيْءٌ بَادَ وَشَيْءٌ تَوَارَى

هذه خمسون درجة ضاعت -ههه!- فشيء باد! فشيء بدا.

وَتَمادَى الْبَقَاءُ فِيهِمْ دَوالَيْكَ فَشَيْءٌ بَدَا وَشَيْءٌ تَوَارَى

ها!

أَوْغَلُوا فِي الْحَياةِ جِيلًا فَجِيلًا وَتَجَلَّى طَرِيقُهُمْ وَأَنَارَا

فَمَضَوْا يُبْدِعُونَ فِي حَيْثُ حَلُّوا وَتَبَارُوا حِضَارَةً وَابْتِكَارَا

"وَتَبَارَوْا حِضَارَةً"، هكذا كان يقول، والقصيدة بصوته على النت، بصوته -ها!- وصوتها أجش، ها!

فَمَضَوْا يُبْدِعُونَ فِي حَيْثُ حَلُّوا وَتَبَارَوْا حِضَارَةً وَابْتِكَارَا

مَا كَفَاهُمْ مَا بُلِّغُوا فَاسْتَطَالُوا ثَمُّ خَالُوا فَأَسْرَفُوا إِصْرَارَا

ما معنى "خالوا"؟

اختالوا.

سئل بدوي: لم سميتم الخيل خيلا؟ قال: أما تراها تختال -ههه!- ها!

شُغِفُوا بِالْخُلُودِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فَأَعْطَتْهُمُ الْخُلُودٌ الْمُعَارَا

الخلودٌ! ما الخلودٌ هذه؟                

شُغِفُوا بِالْخُلُودِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فَأَعْطَتْهُمُ الْخُلُودَ الْمُعَارَا

ها!

عَمَرُوا الْأَرْضَ زِينَةً وَمَتَاعًا ثُمَّ نُودُوا كَفَى الْبِدَارَ الْبِدَارَا

ها، أسرعوا، أسرعوا!

ثُمَّ مَرُّوا أَشْبَاحَ فَانِينَ مَا تَمْلِكُ فِي حَوْمَةِ الزَّوَالِ قَرَارَا

لَمْ يكُنْ غَيْرَ خَطْفَةِ الْبَرْقِ إِذْ تَبْنِي وَتُعْلِي...

"إِذْ تبني وتعلي"، من شرق السماء إلى غربها في ثانية، ولم يكد...

... وَلَمْ يَكَدْ فَانْهَارَا

ذَهَبَتْ رِيحُهُم وَهَبَّتْ رِيَاحٌ فَأَقَامَتْ عَلَى الْقُبُورِ الدِّيَارَا

يا سلام، ها!

ضَلَّ هَذَا الْإِنْسَانُ يَكْدَحُ لِلْخُلْدِ وَأَقْصَى الْخُلُودِ كَانَ فَصَارَا

ها -يرحمنا الله وإياهم!- ها!

اُنْظُري يَا رِيَاحُ ذا القَبَسُ الوَهّاجُ قدْ رَاوَغَ الْفَنَا اقْتِدَارَا

"قدْ رَاوَغَ الْفَنَاءَ اقْتِدَارَا"، ها!

عَاشَ تَحْتَ اْلأَطْباقِ دَهْرًا فَدَهْرًا يَتَلَوَّى بثُقْلِهِنَّ انْبِهَارَا

... بثِقْلِهِنَّ انْبِهَارَا

كُلَّمَا رَامَ مَنْفَذًا...

... رَدَّدَتْـهُ...

... رَدَّدَتْـهُ فِي ظَلَامِ الْأَعْمَاقِ يَعْنُو صَغَارَا

الصغار الذل -ها!- و"يعنو" يذل، يخضع ذلا، ها!

لَمْ يَزَلْ دَائِبًا يُنَقِّبُ مُلْتَاعًا وَيَحْتَال فِي صَفَائِهَا احْتِفَارَا

في صفائها! ما شاء الله! هذه خمسون أخرى! "فِي صَفَاهَا"، "الصفاء" في واد، و"الصفا" في واد، ها!

صَدَعَ الصَّخْرَةَ المُلَمْلَمَةَ الْكُبْرَى وَأَسْرَى حَتَّى نَمَا فَاسْتَطَارَا

أي انتشر.

وَرَأَى نُورَهُ فَجُنَّ مِنَ الْفَرْحَةِ أَعْمَى رَأَى الظَّلَامَ نَهَارَا

يا سلام، ثم البيت المعجز:

أيُّ شَيْءٍ هَذَا وَمَا ذَاكَ بَلْ هَذَا وَزَاغَتْ لِحَاظُهُ اسْتِكْبَارَا

قَدْ رَأَى عَالَمًا مَهُولًا مِنَ الْمَجْهُولِ غَشَاهُ...

"غَشَّاهُ"، أي غطاه.

... غَشَّاهُ نُورُهُ فَاسْتَنَارَا

"فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى؛ صدق الله العظيم!

لَيْسَ يَدْرِي أَهُمْ عِدًى أَمْ صَدِيقٌ أَيَبِينُونَ...

"أَيَبِينُون"!

... أَيُبِينُونَ لَوْ أَرَادَ حِوَارَا

بان يَبين أي ظَهر يَظهر، أَبان يُبين أي أظهر يُظهر.

حتى في الآية "وَلَا يَكَادُ يُبِينُ"؛ صدق الله العظيم!

"وَلَا يَكَادُ يُبِينُ"، هل قرئت "يَبين"؟

سأبحث، وأسأل.

"يبين" لا تخلو طبعا من احتقار كذلك، فلان هذا لا يظهر من الأرض.

سيدنا موسى "لا يكاد يبين".

نعم؛ معروف عن سيدنا موسى أنه كانت عنده مشكلة، ها!

أَمْ صُمُوتٌ لَا يَنْطِقُونَ ازْدِرَاءً لِغَرِيبٍ عَنْهُمْ أَسَاءَ الْجِوَارَا

وَاغِلٌ يَعْتَدِي يُسَائِلْ...

... يُسَائِلُ...

... يُسَائِلُ عَنْ أَسْرَارِ خَلْقٍ...

... أَجَلَّ مِنْ أَنْ تُثَارَا

كَيْفَ غَرَّتْهُ نَفْسُهُ كَيْفَ ظَنَّ الْغَيْبَ يُلْقِي لِثَامَه والْخِمَارَا

أَمَلٌ بَاطِلٌ فَلَوْ أَسْفَرَ الْغَيْبُ َلأَعْمَى بِنُورِهِ اْلأَنْوَارَا

الله أكبر! هذان مقطعان فقط، بستة وعشرين بيتا. نأخذ الآن المطلع والذي بعده، أظن أنهما مقطعان من الوسط، استحسنتُهما؛ فليس أولُ أولِهما بمطلع إلا مجازا! بسم الله!

اُنْظُرِي يَا رِيَاحُ

يا سلام! ولأنه قال لها: "اُنْظُرِي يَا رِيَاحُ"، قال: "يَا وَحْشَةَ الطَّرْفِ"، أي إذا نظرتِ أحسستِ بالوحشة كما أُحِسُّ!

اُنْظُرِي يَا رِيَاحُ يَا وَحْشَةَ الطَّرْفِ إِذَا دَارَ يَمْنَةً أَوْ يَسَارَا

كما قال: دعبل:

"إِنِّي لَأَفْتَحُ عَيْنِي حِينَ أَفْتَحُهَا عَلَى كَثِيرٍ وَلَكِنْ لَا أَرَى أَحَدَا"!

مَا الَّذِي تُبْصِرِينَ أَشْبَاحَ فَانِيـنَ مِرَارًا تُرَى وَتَخْفَى مِرَارَا

"مَا الَّذِي تُبْصِرِينَ"، ونقف قليلا هنا، يا سلام، يا سلام، إن كنت أخطأت فنبهوني! ينبغي ألا نخطئ الإملاء لكيلا نخطئ التشكيل؛ فهذا محمول على ذاك، نتقرب إلى الله بتدقيق التشكيل. طيب! هذان البيتان، اخترت المطلع المجازي وبيتا بعده، وأسأل الله ألا يخذلاني!

آمين!

هكذا ألحن:

اُنْظُرِي يَا| رِيَاحُ يَا| وَحْشَةَ الطَّرْ| فِ إِذَا دَا| رَ يَمْنَةً| أَوْ يَسَارَا

دن ددن دن| ددن ددن| دن ددن دن| دددن دن| ددن ددن| دن ددن دن

مَا الَّذِي تُبْـ| ـصِرِينَ أَشْـ| ـبَاحَ فَانِيـ| ـنَ مِرَارًا| تُرَى وَتَخْـ| ـفَى مِرَارَا

دن ددن دن| ددن ددن| دن ددن دن| دددن دن| ددن ددن| دن ددن دن

ننزل هذا بالفواصل، والخط من أعلى المكتوب إلى أسفله، لا من تحت كما تفعلون، وإلا فليس غير الصفر! بل من أعلى إلى أسفل، لا نقبل أن نبدأ من أسفل المكتوب! وأستطيع أن أكتب الدندنة في وقت نطقها، لكن لا أستطيع أكثر من هذا في وقت واحد -تأملوا!- لا أستطيع أن أعزفها أيضا، صعبة، لم أتقنها بعد، سَلُوا الله أن نتقنها! ولو فعلنا لشكَّ الناس فينا؛ كان العرب إذا ما وجدوا الشخص متقنا فوق العادة، قالوا: له قرين من الجن! وأنا على كل حال لي قرين من الجن،

"وَلِي صَاحِبٌ مِنْ بَنِي الشَّيْصَبَانِ فَطَوْرًا أَقُولُ وَطَوْرًا هُوَهْ"!

تمام.

نعم.

هذا بحر الخفيف، يا بحر الخفيف، هؤلاء جماعة من نجباء قسم اللغة العربية، تعارفوا، يا جماعة -ههه!- تشرفنا، طبعا تشرفنا، هذا بحر مشرِّف، كيف؟ دعوني أشرح لكم! هذا من أكثر البحور استعمالا بعد الطبقة الأولى؛ فهو في الطبقة الثانية، أما أكثر البحور استعمالا على الإطلاق فهو الطويل والبسيط والكامل والوافر، يأتي بعدها الخفيف وغيره، ألا تكفيكم المعلقة -أتذكرون المعلقات؟-

"آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ"!

"خَدَعُوهَا بِقَوْلِهِمْ حَسْنَاءُ وَالْغَوَانِي يَغُرُّهُنَّ الثَّنَاءُ"!

"نَظْرَةٌ فَابْتِسَامَةٌ فَسَلَامٌ فَكَلَامٌ فَمَوْعِدٌ فَلِقَاءُ"!

"أَتُرَاهَا تَنَاسَتِ اسْمِيَ لَمَّا كَثُرَتْ فِي غَرَامِهَا الْأَسْمَاءُ"!

"عَذْبَةٌ أَنْتِ كَالطُّفُولَةِ كَالْأَحْلَامِ كَاللَّحْنِ كَالصَّبَاحِ الْجَدِيدِ

كَالسَّمَاءِ الضَّحُوكِ كَاللَّيْلَةِ الْقَمْرَاءِ كَالْوَرْدِ كَابْتِسَامِ الْوَلِيدِ"!

وهذا الخفيف، ومنه قصائد كثيرة لمحمود حسن إسماعيل صاحب أستاذنا، حتى خطر لي مرة أن أوازن بين قصيدة اليوم ومثيلة لها من شعر محمود حسن إسماعيل؛ فقد كان يقال: إن الأستاذ شاكرا تَرَكَ الشعرَ لمحمود حسن إسماعيل، لما رآه فَذًّا فَحْلًا -قال لي فيه مرة: شاعر فحل- وكان صديقه وتلميذه، وكأنه يقول له: سد أنت هذا المسد، لأتفرغ لمسدات أخرى! هذا بحر الخفيف نتشرف به جميعا. هيا -يا جماعة!- فلتشدوا الآن دساتين أعوادكم، ولتحموا طبولكم ودفوفكم -أي فلتتجهزوا!- ولتشربوا ولتطربوا -أي فلتجتهدوا!- ولا يتقدمن عازف منكم عازفا؛ فإن ظن أنه يحسن فإنه يسيء -أي فلتعملوا عملا جماعيا لا يختل!- ولتجعلوا النغمة أكثر زرقة -أي فلتتقنوا، لا نعرف لها معنى لكنها توحي بالإتقان!- معا معا، من البيتين إلى ما بعدهما، ها!

انظري يا| رياح يا| وحشة الطر| ف إذا دا| ر يمنة| أو يسارا

ما الذي تبـ| ـصرين أشـ| باح فانيـ| ـن مرارا| ترى وتخـ| ـفى مرارا

وجدوا ثم| م أوجدوا| ثم بادوا| واحتذى نسـ/ ـلهم فزا| د انتشارا

وتمادى الـ| ـبقاء فيـ| ـهم دواليـ| ـك فشيء| بدا وشيـ| ء توارى

أوغلوا في الـ| ـحياة جيـ| لا فجيلا| وتجلى| طريقهم| وأنارا

فمضوا يبـ| ـدعون في| حيث حلوا| وتباروا| حضارة| وابتكارا

لحظة يقلبوا الصفحة!

ما كفاهم| ما بلغوا| فاستطالوا| ثم خالوا| فأسرفوا| إصرارا

جرت مجرى الزحاف.

جرت مجرى الزحاف -أحسنت يا مُرشدي!- جرت مجرى الزحاف. أضيفوا إذن هذا الموضع إلى ما ذكرناه من قبل، أتذكرون الحذف في المتقارب -فعولن فعولن فعولن فعو"، ثم عاد إلى "فعولن"، علة جرت مجرى الزحاف؛ فلم لا تصنعون هامشا بالعلل التي جرت مجرى الزحاف؟ اكتبوا، واجعلوا منها مع الحذف في المتقارب التشعيث في الخفيف، وهكذا! سبحان الله! ربما قلتَ لي: هذا تغيير شديد -يا أستاذ!- كيف يفعل هذا! ما لي أنا! فعلها، وتابعه عليها الشعراء، وقبلها الناس؛ فأنا مضطر إلى اعتمادها، أرأيتم! متى إذن يُضطر العالم طالب العلم إلى اعتماد الشيء؟ إذا تواتر على استعماله أصحابه وتواتر على قبوله متلقوه؛ فعلى رغمي أضيف هذا إلى العلم، لابد أن أضيف -وإن كرهته!- لأن العالم هذا طالب علم، لا فنان، لست الآن فنانا، ونعم؛ أنا أخلط العلم بالفن، لكنني الآن طالب علم، وطالب العلم غير طالب الفن؛ طالب الفن يجوز له أن يتعصب كما يشاء، يقول لك: هذا قبيح، هذا كلام فارغ، أنا لا أقبل هذا، كما يشاء- أما طالب العلم فلا، بل لابد أن يعترف ويضيف إلى العلم ما حدث على الحقيقة! يقول الفنانون: هذا كلام فارغ، كل ما يكتبه فلان كلام فارغ، كل ما ينظمه فلان كلام فارغ، هذا الفيلم هابط، هذا المسلسل تافه، هذه القصيدة رائعة -وربما رأيتها أنت تافهة- وهذا مقبول من الفنانين، فأما العلماء فلا، بل يجمعون كل ما نجح، كل ما أثبت وجوده، يجمعونه إلى العلم، ويضعونه في موضعه المناسب، وإلا خانوا العلم! الفنان متعصب، بل ينبغي أن يكون متعصبا لفنه. كان عبد اللطيف عبد الحليم الذي سأدرس لكم بعض نصوصه، شاعرا متعصبا، يقبل نوعا واحد، ويلغي الأنواع الأخرى من الوجود -ها!- يقول في بعض شعره:

"مَا عَرَفْتُ الشِّعْرَ حُرًّا لَا وَلَنْ أَرْكَبَ الْبَحْرَ الْمُسَمَّى خَبَبَا"!

حتى الخبب العمودي كرهه من أجل أن شعراء الحر أكثروا منه؛ فكرهه من أجلهم. طيب! عندنا شيء آخر أحب أن أقوله لكم من خصائص البيت من الخفيف، أنه يغلب عليه التدوير، أتعرفون التدوير؟ ما التدوير؟ اشتراك شطري البيت في كلمة، يكون أولها آخر الصدر، وآخرها أول العجز؛ كتبتم؟             

لا.

اكتبوا: التدوير ظاهرة عروضية وزنية، هي اشتراك شطري البيت في كلمة واحدة، يكون أولها آخر الصدر، وآخرها أول العجز، كما ترون على السبورة كلمة "الطرف" هذه، ينتهي صدر البيت برائها، ويبدأ عجزه بفائها- وكلمة "فانين"، ينتهي صدر البيت بيائها، ويبدأ عجزه بنونها! وقد كثر هذا جدا في الخفيف، واحتاج إلى تأمل. وإذا وجدتم وقتا فاذهبوا إلى المكتبة، وابحثوا عن كتاب "التدوير"، للدكتور أحمد كشك، الذي استطاع أن يلتقط الفكرة ويضع فيها كتابا -وهذه هي العبقرية- التقط الفكرة قبل غيره، ووضع فيها كتابا مستقلا، وتتبع التدوير في البحور، واعترف بأنه شائع كثير جدا في الخفيف، وأظن أنه حاول أن يفسر الظاهرة، شيء بديع!

أولها آخر الصدر؟

نعم، وآخرها أول العجز؛ فهي منقسمة على شطرين. طيب، أكملوا -ها!- معي معي، هاه!

شغفوا بالـ| ـخلود في| هذه الدنـ| ـيا فأعطتـ| ـهم الخلو| د المعارا

عمروا الأر/ ض زينة| ومتاعا| ثم نودوا| كفى البدا| ر البدارا

لحظة! انتبهتُ إلى أنكم تخلطون وتخطئون عملَ الجماعة. يد الله مع الجماعة -نعم- ولكنه يختفي فيه المخربون والمفسدون في الأرض والمخطئون؛ فالآن أقسم التفعيلات عليّ وعليكم -عليَّ وعلى أعدائي!- آخذ تفعيلة، وتأخذون تفعيلة، بشرط أن تنقطع أنفاسنا عند الحدود، من غير زيادة، كأننا لا نعرف النطق أبدا؟

"ني"! من الذي قال: "ني"؟ عندنا "ني"، صفية هي السبب، أفسدت علينا، وكلما أخطأتم عدنا -وإن بقينا للساعة الواحدة- كلما أخطأتم عدنا؛ فانتبهوا –"وإن عدتم عدنا"، ها! و"من عاد فينتقم الله منه"!

"لك في"؟ لا، ما لناش فيه! أعيدوا!

أرأيت؟ "لك في حو"، لا "لك في"، ها!

سهلة طبعا، مرتاحون؛ فهي التفعيلة الأخيرة، لكن بعد قليل سنغير، لا بأس؛ "على الباغي تدور الدوائر"!

لها سلبية هنا.

العمل جماعي -يا جماعة!- تذكروا أن العمل جماعي!

ـد وأقصى!

أخطأ ليث، نعيد!

نعم؟               

لا، عندنا ضربة زائدة، نعيد، أعيدوا!

لا تسرع، وحدوا العمل؛ العمل جماعي -يا ليث!- جماعي!

لا، عندنا زيادة "رًا" هنا ، منى هي السبب، نعيد:

اضرب على الخشب!

نعم؟

العمل جماعي، يا جماعة، لا تنسوا هذا!

نعم؟               

لا حول ولا قوة إلا بالله! أنا أحفظ لكن لا أريد أن أعتمد على حفظي، إلى أين وصلنا؟ إلى العشرين؟               

إلى السادس عشر.

لا، عندنا إضافة، أعيدوا!

والآن نعكس؛ فابدؤوا، وتحملوا ما تحملت، ابدؤوا، وعيشوا، تعذبوا، ها!

والله! أعيدوا، أعيدوا، هو ليث، معه آلة حادة -ههه!- وصوته -ما شاء الله!- يخرب علينا كل شيء! أعيدوا -أقصد العكس طبعا، لكنني أريد أن أستفزه لإتقان أكثر- ها، أعيدوا!

نعم!

ههه! أنا معذور؛ كل واحد في واد، أعيدوا -ها!- أرأيتم فائدة القائد؟ في العزف القائد هو الذي يوحد، وإلا تفرق العازفون؛ أعيدوا!

والله!

ما شاء الله! أعوذ بالله من غضب الله! أعيدوا من الأول!

من الأول!

من الأول!

أعيدوا!

أعيدوا -ها!- أعيدوا!

نعم!

نعم! 

"ليس يد"! أعيدوا!

عن... أي شرود مفسدة، أنا إذا شردت أفسدت!

والله! مع نفسك! عازف مستقل يغرد خارج السرب، أعيدوا!

خطأ، أعيدوا من الأول، ها!

أعيدوا!

نعم!

نعم!

نعود إلى البيت الأول سنَخْرُج الآن، إن شاء الله!- ما قافيته؟

أو يسارا

نعم! "أو يسارا" -ما شاء الله!- لا "أو يسارا" ولا "يسارا"!

سارا

"سارا" فقط، لماذا؟ هذه الألف الساكن الأول، وهذه الألف الساكن الثاني، وبينهما الراء، وقبلهما السين؛ فهي إذن "سارا"، وعلى هذا تسير إلى آخر القصيدة، وهذه من أسهل القوافي، على مثل قافية القصيدة الأولى "بيحة"، و"ضيحة"، وكذا! وهذه كلها تدليلات للفتيات، كلها تدليلات، هاه!

سارا

رارا

شارا

وارى

نارا

كارا

رارا

عارا

دارا

رارا

هارا

يارا

"يارا" هذه بنت فيروز المغنية، ها!

صارا

دارا

هارا

غارا

"غارا"، في داهية، ها!

فارا

طارا

هارا

بارا

نارا

وارا

وارا

ثارا

مارا

وارى

مارا

وارا

ما شاء الله، منتهى الروعة! ما أقوى المكررات؟

حرف الراء.

طبعا، بلا تفكير كثير؛ أما الألف فهواء مفتوح -تذكرون مشكلة المقصورة التي أتعبتنا ومازلنا منها على قلق، لأنها لا تكرر شيئا غير الألف؟ وهل الألف مُمْسَكة! هذه الألف انطلاق هواء- وأما الراء فسيد الحروف -اللهم، اقبل من عبدك حرف الراء، اللٰهم، قنا همس المجهور وجهر المهموس، ولا تفتنا بعد ذهاب الفصحاء، اللٰهم اقبل من عبدك حرف الراء"! حرف الراء سيد الحروف: قرآن، رحمن، رسول -ها!- سيد الحروف، وهو في حروف أبنائي جميعا، تعمدت أن أجعل فيهم حرف الراء سيد الحروف! طيب، وحركة الراء؟

الفتحة.

هل قبلها ألف أو واو أو ياء؟

ألف.

هي إذن مردفة بالألف، يستحيل أن يكون معها تأسيس؛ فإما هذا وإما ذاك. طيب، هل أُشبعت فتحة هذه الراء، أم جاء بدلا من إشباعها شيء آخر؟

أشبِعت.

أشبعت؛ فهذه القصيدة إذن -ها، هذه هي البيانات، أسرعوا!- هذه القصيدة خفيفية الأبيات، الوافية أم التامة؟

الوافية

الوافية؛ لماذا؟ لأن بعض تفعيلات البيت تميزت من بعض بأشياء لا يجوز أن تكون في غيرها؛ فالتشعيث مثلا يستحيل أن يكون في الأولى، ويستحيل أن يكون في الرابعة، ويمكن أن يكون في الثالثة أحيانا ولاسيما عند التصريع، حينما تُشبَّه هذه التفعيلة الثالثة بالسادسة؛ فإذن تميزت تفعيلات من تفعيلات، فامتنع التمام؛ فهذه قصيدة خفيفية الأبيات الوافية، ها، صوروا العروض والضرب، ها! الصحيحة العروض والضرب، على الرغم من أنها خبنت وشعثت؛ فالخبن زحاف لطيف جدا، والتشعيث علة، ولكنها جرت مجرى الزحاف، فكنا نرجع، فكانت تتغير، ثم تعود إلى السلامة، بهذا نثبت السلامة في التعريف، فنسميها بالصحة، أو نغلب عليها كلمة الصحة، لتتردد بين الصحة والسلامة، والصحيح طبعا هو غير العليل، والصحيحة خالية من العلة، لكن عممنا هذا على السلامة كذلك؛ فهذه إذن قصيدة خفيفية الأبيات الوافية الصحيحة العروض والضرب، انتقلوا!

رائية القوافي.

رائية القوافي المفتوحة المردفة.

الموصولة.

بأي شيء يمكن أن تردف؟ بالألف أم بالواو أم بالياء؟ وإذا أردفت بالواو جاز أن تكون واو المد وأن تكون واو اللين، كل هذا وارد؛ فلابد إذن من أن نحدد: رائية القوافي المفتوحة المردفة بالألف -والألف لا تكون إلا مدًّا، يكفي أن نقول: المردفة بالألف- ها!

الموصولة.

الموصولة بالألف، وإذا قلنا: الموصولة بالألف كفانا هذا، لأنها لا تكون إلا مدا، وعندما نقول الموصولة بالياء أو الواو في هذا الموضع، نكتفي؛ فكلاهما لن تكون هنا إلا مدا، يمتنع، يا أخي. بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!

فيما بعد أرجو أن تشاهدوا فِلم الجزيرة عن أستاذنا كاملا؛ فهو جميل، وإن كان أقل من مقام أستاذنا، لكن فيه ذكريات طيبة.

دكتور، خطر لي سؤال.

ما شاء الله، سمعتنا من الخارج!

نعم! إذا كانت مردفة بالواو والياء فماذا نقول؟

نعم، تقول مردفة بواو المد أو يائه، على حسب الأولى منها ورودا في القصيدة.

يعني لو القصيدة بها واو و ياء مع بعض؟

بأي شيء بدأت؟ بالواو؟ بعدها انتقلت إلى الياء؟ نقول: مردفة بواو المد أو يائه، وهذا معروف -يا أخي!- معروف مشهور. وإذا كانت بدأت بالياء وانتقلت إلى الواو قلت: مردفة بياء المد أو واوه -هذا أمر عادي- أما الردف بواو المد أو يائه مع الألف فهذه مشكلة، عيب قافويّ، لأن ذبذبات الألف أعلى من ذبذبات الواو والياء جميعا معا؛ فتختل القافية.

قرأت في بعض القصائد: "طبيبي"، و"خطوبي".

أحسنت -صحيح، صحيح- أحسنت! لكنك لم تقرأ "خطابي" مع "خطوبي"، صعبة هذه جدا، صعبة، لبعد ما بين المشرقين.         

هذه المرة -ما شاء الله!- جميلة.

حسيتك دكتور متحمس أكتر!

عشان خاطرك، أسجل لك حاجة كده تليق بمقامك

الله يخليك!

وسوم: العدد 1100