حدود التفريغ العاطفي في البودكاست- زياد خداش نموذجاً

بداية عليّ الاعتراف أنّ حلقات البودكاست وفرت لي مادة إثرائية مهمّة، حلت محل القراءة التقليدية، وقد زاد إقبالي عليها كثيراً، فسمعت كثيرا منها، مع شخصيات متعددة، فلسطينية وعربية، في مجالات مختلفة، سياسية وتعليمية وثقافية وفنية. بحقّ إنها طريقة تثقيف بارعة واستثنائية، نظرا للحوار الذي يتحلى فيه الطرفان بقدر كبير من الأريحية والنقاش والتعبير غير المقيّد ببروتوكولات الإعلام الكلاسيكية.

الآن، تعود بي الذاكرة قبل سنتين، وربما أكثر، عندما باغتتني زميلة في العمل بسؤالي عن معنى "البودكاست"، لم أكن سمعت به من قبل، بقليل من البحث فهمت شيئا عنه. إنه التدوين الصوتي، هكذا كان، ثم انتقل ليكون مرئياً. لا أدري بحكم أنني لست خبيرا تكنولوجيا ما الفرق بينه وبين حلقات اليوتيوب، إنهما شكلان متماثلان على ما يبدو، وكلاهما يعرضان على موقع اليوتيوب، ويبثان مباشرة، وينقلان على الفيسبوك وغيره من المواقع الإلكترونية التفاعلية.

في هذه الحرب المشتعلة منذ أكثر من عام، زاد الإقبال على البودكاست، وانتشرت منصات كثيرة له، فالجزيرة لها بودكاست، والعربي لها بودكاست، وكل الدنيا لها هذه البودكاست. الحرب شجعتني على أن أسمع للنقاشات لا أن أقرأ الكتب، لقد غيرت الحرب في أمزجتنا وفي عاداتنا الكثير، لذلك في هذا العام (2024) استمعت إلى الكثير من الحلقات البودكاستية، واستفدت منها، ووظفت ما يلزمني من معلومات وردت فيها في بعض ما كتبت من مقالات، ضمنتها لاحقا في كتب، وخاصة كتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين".

تزداد في هذه الحلقات نزعة التفريغ النفسي، ففي كثير من تلك الحلقات انتبهت كيف يتحدث المتحدثون، مثل غدي فرانسيس الصحفية اللبنانية التي لم تتمالك نفسها فبكت، وهي تتحدث عما جرى ويجري في غزة، وكيف تحدثت أيضاً "أديبة روميرو" عن عائلتها وعن المسلمين في إسبانيا، ومراسل قناة الجزيرة "وائل الدحدوح" الذي خرج من غزة للعلاج بعد إصابة في ساعده، لقد بكى وائل أمام الكاميرا وهو يتحدث عن مصابه الشخصي واستشهاد كثير من أفراد عائلته. وكيف تحدث "بشارة بحبح" المناصر لحملة دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية (2024)، وقال ما معناه إذا خدعنا ترامب "بطخّ حالي"، هذه جملة لا تجدها في الحوارات الأكثر أناقة وأرستقراطية واتزاناً، هذا الاتزان فُقد كثيراً في البودكاست الطويل مع الإعلامي فيصل القاسم الذي أنفق وقتا طويلا في الحديث عن مأساته الاجتماعية وهو فقير معدم في إحدى قرى الريف السوري، الأمر الذي سبب له انتقادات كثيرة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي.

إذاً على ما يبدو أن ثمة اتفاقا بين الطرفين، ليكونا حرّين حرية تامة، الضيف في الحديث عن الآلام والأفكار الشخصية، والمحاور الذي يدفع ضيوفه إلى منطقة من التوتر العاطفي، دافعا لهم أن يحدثوا ما هو مثير للمشاهدين، ليتم منتجة تلك المشاهد لاحقاً لتصبح فيديوهات قصيرة، توظفها إدارة البودكاست وكذلك المشاهدون في تقنيات (Story) أو (Reels) فتروج رواجا كبيراً، وتستقل بذاتها ويتم تداولها على نحو واسع، ما يؤدي أحيانا إلى سوء فهمها لأنها اقتطعت من سياق متصل.

ومؤخرا في الحلقة الخاصة من "بودكاست أرشيف" مع الإعلامية مرام مصاروة التي استضافت فيها الكاتب و(المربي) زياد خداش، وبثت يوم السبت 23/11/2024، وتحدث فيها خداش عن كثير من القضايا الشخصية في صنعة الكتابة، وفي التعليم، والأمور الحياتية. بدا زياد في هذا البودكاست ذلك الشخص الذي أعرفه، ويتحدث بطلاقة وسلاسة، دون أن يتعلثم، تحدث عن أمه وعن أبيه، وعن حبيبته المقدسية التي أحبا بعضهما بجنون كما قال، وهي التي عرفته على القدس وعلى خليل السكاكيني، وتحدث عن تقديم رشوة لحارس مقبرة في مصر القديمة، ليريه قبر خليل السكاكيني، وبالغ له في الدفع ليأخذ عظمة من كتف خليل السكاكيني ليدفنها في فلسطين أو في القدس ليحقق له "عودة رمزية"، تحدث عن التعليم، وعن الطلاب الذين قد "يتواقحون" بسبب ما يعطيه لهم من حرية، وتحدث عن كونه لاجئا، وما سببت له هذه الصفة من حرج، فكل تصرفاته غير الطبيعية، يعيدها إلى كونه لاجئاً، أعتقد أن زيادا هنا خرج من نطاق الحرية إلى الخيال، ليتوهم أشياء هي غير حقيقية.

كما تحدث عن النظام التعليمي وما فيه من مشاكل تربوية، وعلى الرغم من أنه عمم في مسائل كثيرة، منتقدا النظام التعليمي الفلسطيني الذي يقوم على العنف، ووصف نفسه بالمنبوذ من الزملاء ومن الوزارة، على الرغم من أن زياد خداش حصل على امتيازات كثيرة وهو معلم، ولم يتم محاصرته ونبذه، فهو المعلم الوحيد- حسب ما أعرف- الذي سمح له أن يعلم التعبير فقط في المدارس، بخطوة لم يكن ليقبل بها نظام التعليم، فنحن مثلا في الإشراف التربوي نرفض تجزئة مقرر اللغة العربية على معلمين اثنين، حتى لو كان لهذا المقرر كتابين كما هو الحال في الصفين الأول والثاني الثانويين، وعلى الرغم من أنهما غير متصلين، ولكل كتاب حصص خاصة إلا أن العرف التربوي لا يسمح بهذه التجزئة، إلا لزياد خداش، فقد سمح له أن يعلم التعبير في الصفوف الدنيا (5-9) وهي الصفوف التي تبنى فيها مهارة التعبير من خلال المقرر كله بكل فروعه من القراءة حتى الإملاء، مرورا بالقواعد والخط. المشرفون التربويون الذي كانوا يشرفون على زياد يعرفون ذلك، والوزارة كانت تعلم ذلك أيضاً، فكيف كان منبوذا؟ ومن أين جاءه الإحساس بالنبذ والانتباذ؟ يا لهذا البودكاست ما أشد فورانه!

عدا هذا وذاك، فإن زيادا قد انتقل للعمل في وزارة التربية والتعليم، وبلغ سن التقاعد وهو موظف إداريّ في الوزارة/ قسم المسرح المدرسيّ، وليس معلماً، ما يعني أنه ليس منبوذا ولا محاصراً، كما قال متحمساً، رافضا وصفه بالمربي، على الرغم من أن مدلولاتها عظيمة الشأن، مشتقة أو مرتبطة بكونه منتميا لمهنة التعليم ومنضويا تحت لواء وزارة التربية والتعليم، ولم يكن ينظر إليه أو إلى غيره على أنه لاجئ، إطلاقاً، بل إن هذا الوصف تحديدا في رام الله ليس له وجود بأي أثر سلبي اجتماعي أو وظيفي، بل أكثر من هذا فإن زيادا شارك بدورة الكتابة الإبداعية للمشرفين التربويين، ولم تتم محاصرته، وتُرك له أن يعبر عن أفكاره بحرية، ويزور المدارس ويلتقي بالطلاب، ويمارس جنونه معهم، وتم اختياره عضوا لتحكيم جوائز تشرف عليها الوزارة، كما أن إحدى المعلمات في مديرية رام الله (أصبحت مشرفة تربوية متحمسة لزياد) أنجزت عنه دراستها للماجستير، ولم يعترض أحد. زياد خداش كاتب ومعلم وموظف ومتقاعد يحوز الاحترام الكبير بين معارفه وزملائه، ولكن هل كانت أجواء البودكاست تتطلب مثل هذه المظلومية بالشكل الذي تحدث به، وتساوقت معه بفرح غامر "المربية" مرام مصاروة.

لقد ظلم زياد خداش في هذا البودكاست نفسه ومحيطه، ومن عمل معهم، وظلم النظام الذي منحه الحب والتقدير والاحترام، ولم يقدر سوى نفسه بمدحها بالتمرد والجنون، والقفز على الحواجز، على الرغم من أنه لا حواجز تقيّده، لا هو ولا غيره، وأنا أحد الكتاب الذين اتهمت كثيرا بما هو مخالف للذوق والحياء العام، وكانت وزارة التربية والتعليم ووزيرها إحدى الجهات الرسمية المهمة الداعمين لي، وناصروني ضد البلطجية الاجتماعية، وحتى لجنة التحقيق الانضباطية التي شكلت لهذا الغرض كانت لطيفة معي جدا، وقد رويت قصتها في كتاب "اندلاع اللهيب"، لأن هدفها التحقق قبل التحقيق، وها أنا أمارس حريتي على أعلى مستوى، ولم يحدث أن قيدتنا وزارة التربية والتعليم. كان الأولى بزياد خداش الحاصل على جائزة فلسطين التقديرية في الأدب أن يكون أكثر إنصافا لمن أنصفوه ودعموه، ولكن كان للبودكاست هذه القوانين التي تجبر الإنسان على أن يكون حراً أكثر مما تطلبه الحرية ذاتها، ليشطح في خياله الأدبي الصانع للحكايات الفنتازية.

وللإنصاف عليّ أن أعترف أيضاً أنني استفدت كثيرا من هذه الحلقة مع القاص زياد خداش، شأن حلقات البودكاست الأخرى مع مرام مصاروة ومع غيرها من الإعلاميين الجدد في هذا النوع من الإعلام الجديد، ولكن كما قالوا في المثل: "لا تعدم الحسناء ذاماً".

وسوم: العدد 1104