نديم العروضيين المجلس العشرون والحادي والعشرين
سلامٌ عليكم!
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!
طبتم مساءً -يا أبنائي!- وطاب مسعاكُم إلينا!
بسم الله -سبحانَه، وتعالى!- وبحمدِه، وصلاةً على رسوله وسلامًا، ورضوانًا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم!
كيف حالكم؟ كيف أمسيتم؟
الحمْدُ لله!
للهِ الحمدُ والشكر! بارك الله فيكم، وشكرَ لكم، وأحسن إليكم، و يسّر لنا ولكم كلَّ عسِير، وسهّل كل صعب!
اليوم نستمتع بتذوقِ قصيدةٍ جديدةٍ نُفتِّشُ فيها عن وزنٍ جديدٍ نزدادُه وقافيةٍ جديدةٍ. هذهِ قصيدةُ أبي همام عبد اللطيف عبد الحليم؛ الذي درسْنَا له من قبل مرثية أبي فِهْر. نحن حريصون على تنويع القصائد والشعراء إلا إذا دعانا إلى غير ذلك داع، وقد دعانا؛ فلأمر ما اخترنا قصيدةً للرجلِ نفسِه الذي درسنا له القصيدةَ السابقةَ، أو حكمةٍ ما، فما هذه الحكمة؟ أنها القصيدة الوحيدة في كتابه "مقام المُنْسَرِح"، التي ليست من المنسرح، فكتابه كلُّه من المنسرح كما قلت لكم في اللقاء السابق -حتى إن أحمد عبد المعطي حجازي اقترح عليه أن يُسَمِّيَه "مقام المنسرح" فسماهُ- كلُّه من المنسرح إلا هذه القصيدة؛ فلماذا يا تُرى؟ لماذا؟ لابد أنَّه يرى أنها كأنها من المنسرح، كأنها منسرحية؛ فلم يجِد فرقًا كبيرًا يدعوه إلى أن يستبعدها، وقصائدُه كثيرة، كتابُه هذا لقصائدِ المنسرح، سماه "مقام المنسرح"، لكي يدل على تَخَصُّصِهِ الشديد. فلماذا أضاف إليه قصيدة ليست من المنسرح؟ لا بد أنه يرى أنها كأنها من المنسرح، وهذا الذي سَنَخْتَبِرُه فيما يأتي. القصيدة لطيفة جدًّا، اسمها "رحلة الحروف"؛ فالرجل شاعرٌ معاصر يعنْوِنُ قصائدَه، تجدون لها عنوانًا واضحًا، هذا "رحلة الحروف"، ماذا يعني بـ"رحلة الحروف"؟ لابد أنه يعني رحلته في نظم الشعر، لابد. بين الحين والحين تجدون الشاعر يكتب في معاناته الخاصة، بين الحين والحين يكتب في معاناته عند إبداع الشعر، وأنا قد اخترت لكم عُنوانًا لملف هذه المحاضرات، بيتين من شعرٍ لسويد بن الكراع في معاناة قولِ الشِّعر، وكان هذا قديمًا شيئًا عجيبًا، لا يتكلم فيه الشعراء، أما الآن فأكثر الشعراء يتناولون هذا بين الحين والحين، وهذا أحدُهم أبو همام عبداللطيف عبدالحليم أستاذُنا، الذي عَمِل بهذه الجامعة في أَوَائِلِهَا أربع سنوات. وعلى ذكر عمله هنا أذكر له قصيدة في ذمِّ هذا العمل -ههه!- لا لأنه كره الجامعة؛ كيف وهو الذي قال لي: اذهب واعمل هناك، فالمكان طَيِّب، والناسُ طيِّبُون، وكذا كذا، ولكن لأنه استثقل الأعباء الرتيبة، وهو الشاعر الطليق، فقال قصيدة في نَقْدِ دُولَاب العمل، اسمها "مرثِيَّةُ أستاذ مُعَار"! ترى، ماذا يقول فيها؟ يَقُول:
"أَدْمَنْتُ لَوْنَ الرَّمْلِ دُونَ سَائِرِ الأَلْوَانْ
أَدْمَنْتُ لَوْنَ النَّقْدِ تَعْشُو نَحْوَهُ العَيْنَانْ
يَصْحَبُنِي الصَّبَاحُ نَحْوَ مَكْتَبِي فِي الجَامِعَةْ
أَسْتَقْبِلُ الْأَصْحَابَ بِابْتِسَامَةٍ مُخَادِعَةْ
أَرُوحُ نَحْوَ قَاعَةِ الدَّرْسِ بِنِصْفِ عَقْلِي
لَا بَاخِلًا بِهِ وَلَكِنِّي حَبَبْتُ جَهْلِي
لِأَنَّنِي أَدُورُ حَيْثُمَا يُرَادُ أَنْ أَدُورْ
تَحْتَرِقُ التُّرُوسُ لَكِنِّي بِلَا مَدًى أَسِيرْ"!
هذا ما قاله -ههه!- "أروح نحو قاعة الدرس بنصف عقلي"، وما بال النصف الآخر، يا أستاذ؟ "لا باخلًا به ولكني حببت جهلي"! لماذا؟ "لأنَّنِي أدور حيث ما يراد أن أدور"، "تحترق التروسُ لكني بلا مدًى أسير"! ولم نكن نتوقع من هذا الأستاذ أن يقبل أن يسافر إعارةً إلى أي مكان، لأنه لم يكن من طبيعته، حتى إنه لما هَمَّ بالسفر قلت له: أتسافر! - لم نكن ننوي أن نسافر إلى أي مكان!- فقال: وماذا أفعل؟ مرِضَ ابني، فعملت له أشعة بكذا جنيها -وذَكَر رقمًا كبيرًا، والمُرَتَّب هنا أكبر- فماذا أفعل؟ كان هذا جوابَه سنةَ سبعٍ وثمانين وتسعمئة وألف الميلادية، وهذه قصيدتُه! عاشَ هنا، وأحَبَّ المكان والناس، أربع سنوات! يا أخي، شيء عظيم جدًّا أن يجلس أربع سنوات؛ مثلُه لا يتحمل أربعة أشهر، فتحمُّلُه أربع سنوات معناه أنه أحَبَّ المكان والناس. ومنذُ جاء إلى هنا قَلَبَ الدُّنْيَا؛ له كتاب اسمه "شُعَرَاء عُمَان" أو كذا، هاجم فيه الشعراء، وقبل، ورفض، وأثنى، وذم، كان صريحًا جدًّا، قال في أحد شعراء عمان: أَدْخَلْتُهُ إِلَى الشُّعَرَاءِ لِأُخْرِجَهُ مِنْهُمْ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله! وَكَانَ من أحبابه طبعًا: هلال الحَجْريّ، ومحمد المحروقيّ، وشريفة اليحيائيّة، ومحمد المَعْشَنيّ، كل هؤلاء وعبدالله الكِنْدِيّ كانُوا من أحبابِه، افْتَتَنُوا بهذا الرَّجُلِ الجرِيء الصريح، صاحب المذهب، وإن خالفوه، هكذا يقول هلال: وإن خَالَفْنَاه، لَكِنَّنَا كُنَّا نجتمع على صدقِه وأهميته وفضله. ماذا يقول؟ اسمعوا الكلام الجميل، اسمعوا كيف الكتابة؟ كيف يعاني نظمَ الشِّعر؟
من "رِحْلَةُ الْحُرُوفِ"، لأبي همام عبد اللطيف عبد الحليم، في "مقام المنسرح":
"كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ
أَحْرُفٌ مُقَطَّعَةٌ يَرْتَعِي بِهَا الْكَسَلُ
لَا أَقُولُ كَاذِبَةٌ أَنْتِ بَلْ بِكِ الْبَخَلُ
أَوْ تَخَوُّفٌ عَجَزَتْ دُونَ مَحْوِهِ الْحِيَلُ
شَرَّدَتْكِ آسِفَةً فِي ضَيَاعِهَا السُّبُلُ
هَلْ أَرَاكِ مُقْبِلَةً زَانَ وَجْهَكِ الْجَذَلُ
أَوْ أَرَاكِ يَصْرُخ فِيكِ الْإِحْجَامُ وَالْوَجَلُ
أَنْتِ غَيْرُ وَاحِدَةٍ فِي الشُّخُوصِ تَنْتَقِلُ
لَا يَرُدُّ غُرْبَتَهَا رُقْيَةٌ وَلَا عَمَلُ
قَدْ صَبَرْتُ مَا صَبَرَتْ مِنْ عَوَاصِفِي ذُلُلُ
وَامْتَطَيْتُ جَامِحَهَا نَافِرًا وَلَا أَمَلُ
وَامْتَثَلْتُ صَاحَ بِيَ الْهَمُّ كَيْفَ تَمْتَثِلُ
مَا الْأَيَّامُ صَابِيَةً كَالْأَيَّامِ تَكْتَهِلُ
لَا تَرُعْكَ صِبْغَتُهَا كُلُّ صِبْغَةٍ دَخَلُ
وَارْتَحِلْ فَقَدْ رَحَلَتْ مِنْ شَبَابِهَا دُوَلُ"!
"كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ"، كل شوقنا في الحياة، أيتكلمُ عن معشر الشعراء، أم يتكلم عن المثقفين؟ أم عن الناس على وجه العموم؟ تقولون تَكَلَّم حتّى أراك -وهذه كلمة أرسطو- تكلم حتى أراك؛ فإذا فتحت فاك عرفناك؛ فالكلام إذن شيْء مهم جدًّا، نقيس به الأشخاص، نعرفهم، نقدرهم، لهذا كانت المقابلات الشخصية حتى نستمع إليهم، ونقدرَهم أقدارَهم. "كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ"، ما الجدل؟ الحوار. يسمى الحوار جدلًا، لماذا؟ لأنه تنجدل بكلامي وكلامك في الحوار جديلة، ضفيرة، ضفيرة من كلامي وكلامِك، ولا يجوز أن يسمى جدلًا إن لم يكن لك فيه مثلُ ما لي، إذا انفردت بالكلام لم يكن جدلًا، كيف يكون؟ من هنا كانت الجديلة، الضفيرة، الضفيرة تنجدل فيها طاقتان، يسمونها الطاقة، هذه طاقة، والضفيرة من أكثر من طاقة، من ثلاث عادة، أو اثنتيْن على الأقل، إذَا كانَت وِتْرًا طبعًا كان أفضل -هاه!- هكذا.
دكتور، هنا يوجه على معنى السلب؟
هذا لا يمنع -"كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ"- وسيأتِي في هذه القصيدة كلام كثير، تستطيع أن توجّهَهُ على هذه الوجهة وعلى تلك. أنا حينما أتكلّم أتكلّم ما أُحِسُّ به الآن، ورُبَّما إذا أَعدت النظر غيرتُ الرأي، أو رجحتُ كلامك، رجحت كلامي، لكن هذا يدل على أن الكلام يتحمل أن يوجه على هذه الوجهة، وعلى تلك. وأنا أرى أنّ الكلام الحمَّال الأوجه كلام فيه من الإعجاز ملمح؛ فَمِنْ معاني الإعجاز كثرة التوجيهات التي يتحملها الكلام، لا عن عبث، بل عن خِصْب، وهذا في القرآن، في القرآن الكريم تتعدد التوجيهات أحيانًا، وهي التي تُفَرِّق بين المذاهب، يأخذ أحد المذاهب هذه الوجهة وغيره تلك الوجهة، لكن كُلُّ هذا في إطار العروبة، في إطار الاحتمالات. "كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ"، هذا الكلام يوجه على السلب وعلى الإيجاب، على الخير وعلى الشر. "أَحْرُفٌ مُقَطَّعَةٌ يَرْتِعِي بِهَا الْكَسَلُ"، رُبَّما قلت لي أنت كذلك: هذا البيت يؤيد معنى السلب، يا أستاذ! ولكن لماذا لا توجهه على أنه ساخط على حال الكسل التي يعيش عليها الآن، وأن القصيدة لا تواتيه؟ من كلام الفرزدق أنه كان يقول: أنَا أشعر تميم عند تميم، وربَّما جاء عليّ وقت وخَلْعُ ضرس أسهل عليّ من قول بيت شعر! وهو أشعر تميم عند تميم! والكلام في "رحلة الحروف" كما ترى؛ فالرجل يرجو أن ينطلقَ بالكلام، فما هذا الذي نراه؟ لابد أنه غاضب على حال الكسل التي تنتاب حروفَهُ، أي تنتابه. "أحرفٌ مقطعةٌ"، لا تتواصل، "يرتعي بها الكسل"، لا النشاط. ما هذا الغضب؟ "لَا أَقُولُ كَاذِبَةٌ أَنْتِ بَلْ بِكِ الْبَخَلُ"، انظر كيف قال: بك البخل، ولم يقل: بخيلة، أي بكِ ملمح من ملامح البخل -والبَخَل هو المصدر: بَخِلَ يبخَل بَخَلًا، أمّا البُخْل فاسمُ مصدر كالحَزَن والُحْزن: حزِن يحزَن حَزَنًا؛ الحَزَن مصدر، والحُزْن اسم مصدر- أي أرى عليك ملمحًا من ملامح البَخَل لم أكن أحب أن يكون. "أَوْ تَخُوُّفٌ عَجَزَتْ دُونَ مَحْوِهِ الْحِيَلُ"؛ لهذا لا تطيعينني، لا تنطلقين على لساني! ها، لماذا لا تنطلقين؟ أبكِ بخل، أم تخوُّف؟ إما هذا أو إما ذاك، إمّا أنّك بخيلة، إما أنك تَرَيْنَ شيئًا من البخل، ألمَّ بكِ مُلِمٌّ من البخل، وإمّا أنّك خائفة. "شَرَّدَتْكِ -يُمْعِن- شَرَّدَتْكِ آسِفَةً فِي ضَيَاعِهَا السُّبُلُ"، ما الأسف؟ الأسفُ الحَزَن. شرَّدَتْكِ آسفةً حزينةً في ضياعها السبل. من هذه الحزينة؟ آلأحرف أم السُّبُل؟ ها! منكم من سيرى أن الأحرف هي المُشَرَّدَة الحزينة، لكن أيلائم هذا أن تمتنع منه كسلَا، أو بخلَا، أو تخوفَا؟ أيلائم هذا ذاك؟ وجه طبعًا قويّ، أو ربّما كان الأقوى أن تكون هي الحزينة، لكن احتمال أن تكون السبل هي التي تشردها وهي حزينةٌ أنها تشردها، تفعل بها هذا وهي حزينةٌ أنها تفعله، وَجْهٌ وَارِد، ومن جمال الكلام أن يتحمل هذا وذاك. "هَلْ أَرَاكِ مُقْبِلَةً زَانَ وَجْهَكِ الْجَذَلُ"، ما الجذل؟ الفرح الشديد. هل سيحدث هذا يومًا من الأيام؟ أو "أَوْ أَرَاكِ يَصْرُخ فِيكِ الْإِحْجَامُ وَالْوَجَلُ"؟ كأنه يُصنِّفُ، يُنَوِّعُ الأحوالَ التي تكون عليها، فكانت تأتيه مرة جذلَى، وتأتيه مرةً وَجْلَى، تأتيه مرَّةً مقبلةً جذلى، ومرةً مُحجمةً وجلى، فيُحبُّها في هذه الحال، كما يُحبُّها في تلك. "أَنْتِ غَيْرُ وَاحِدِةٍ فِي الشُّخُوصِ تَنْتَقِلُ"، أنت غيرُ واحدة، أنت صاحبة أحوال، تبدين في كل حال شخصًا آخر، أنت غير واحدةٍ في الشخوص تنتقل. "لَا يَرُدُّ غُرْبَتَهَا رُقْيَةٌ وَلَا عَمَلُ"، إذا برِحَت وتركتنا، لم يُفلح في إعادتها إلينا شيء، لا رُقية نرقيها بها: جَلَا جلا، جلا جلا، تُقال القصيدة:
"أَنَا ابْنُ جَلَا وأيُّ جَلَا جَلَا عَنِّي جَلَا الْأَجَلَا
أَظَلُّ هَنَاكَ تَحْتَ الْأَرْضِ أَرْقُبُ مَنْفَذِي وَجَلَا
فَيَبْعَثُنِي فَأَنْفُذُ ثُمَّ أَعْجَبُ مَا الَّذِي حَصَلَا"!
ليست هناك رُقية، نرقِي بها الحروف لنقول القصيدة، ليست عندنا رقية، على رغم أن للفنانين عادات تحمّس للإبداع، يقال لك: فلان مثلًا يسمع كذا، يأكل كذا، يخرج إلى المتنزهات. كان أبو تمام يوصِي البحتري: افعل كذا وكذا، إذا أردت أن تقول فافعل كذا، قُمْ قَبْلَ الفجر في السحَر، والبطن خفيف من الطعام، والجو خفيف من الزحام، واخرج إلى كذا! هناك جَوَالِب ربما تُعَدّ في هذا، لكنّ الرجل يتكلم عن الحقيقة، إن لم تكُنْ قديرًا لم توافقك الحروف. "لَا يَرُدُّ غُرْبَتَهَا رُقْيَةٌ وَلَا عَمَلُ"، أمّا الرقية فقد عرفناها، نرقيها بالكلام ليحدث ما نريد، وأما العمل فَفِعْل مُعَيَّن شبيه بالسِّحر والحُرُوز كما تقولون، أفعال معينة: هات لي ذيلَ سمكة مُطَلَّقَة، ومِنقار ديكٍ غَريب، أو مظلوم، أو مهجور -ها!- أشياء عجيبة -يا أخي!- هات كل هذا، واطْحَنْهُ، وانْثُرْهُ مثلًا في مكان الكتابة، تنطلق لك القصيدة، إن شاء الله! "قَدْ صَبَرْتُ مَا صَبَرَتْ مِنْ عَوَاصِفِي ذُلُلُ"، ما إعربُ "ما"؟
ظرفية.
أحسنتِ! ظرفيةٌ زمانية، أي قد صبرتُ طَوالَ صبر عواصفي الذُّلُل، طوال صبر الذلل من عواصفي، كلمة "عواصف" أصلًا لا تلائم الذِّلَّة طبعًا، "عواصف" جبارة في العادة، لكنه قال: أستطيع أحيانًا أن أهدِّئَ من غضبي، حتّى تأتي إليّ -يا حروفي!- ولم تأت! "قَدْ صَبَرْتُ مَا صَبَرَتْ مِنْ عَوَاصِفِي ذُلُلُ"، ما صيغة "ذُلُل" هذه؟ فُعُل، ما هي في الصرف؟ ما هي؟ مفرد أم جمع؟
جمع.
ما مفرده؟
ذليل.
ذليل! خطأ.
ذَلّة.
ذِلّة! خطأ.
ذُلّ.
ذُلّ! خطأ.
ذُلّة.
خطأ! ذَلُول؛ ذَلُول ذلُل، غَفور غُفُر، صَبور صُبُر. هذا جمع فَعُول ذَلُول، ذلّ فهو ذلول، الرجل ذلول، والمرأة ذلول، والشيء المؤنث ذلول، والشيء المذكر ذلول، صيغة واحدة، لهذا وذاك، وجمعها ذُلُل. "قَدْ صَبَرْتُ مَا صَبَرَتْ مِنْ عَوَاصِفِي ذُلُلُ"، وهذا غريب في العواصف، فالعواصف جامحة. "وَامْتَطَيْتُ جَامِحَهَا -جاءكم الجُمُوح- نَافِرًا وَلَا أَمَلُ"، معي يا أمل، ولا أملُ، أي فعلت كل شيء حتى تأتِيَ حروفي ولا تأتي. "وَامْتَثَلْتُ صَاحَ بِيَ الْهَمُّ كَيْفَ تَمْتَثِلُ"، خَضَعْت، عندك إذن صبر وجرأة وامتثال. طيب! ما فرق ما بين الامتثال والصبر؟ صبرْت: صبرتُ عليها، لكن امتثلت: امتثلت لها، الامتثال الطاعة، والصبر الموافقة، هذا غير ذاك. "وَامْتَثَلْتُ صَاحَ بِيَ الْهَمُّ"، سبق أن ذكر الهَمُّ في البيت الأول، "كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ"، "هَمّ" هذه تستعمل هذه الأيام -ها!- فما الهم هذه الأيام؟ الهم عنده...
المصيبة.
لا، تستعمل كلمة هَمْ بمعنى المسئولية، يحمل هموم الناس على أكتافه، له هم، له مشروع يعيش له، ما همك هذه الأيام؟ همِّي كذا، أنا أعمل من أجل كذا. "وَامْتَثَلْتُ صَاحَ بِيَ الْهَمُّ (الذي أحمله) كَيْفَ تَمْتَثِلُ"، كيف تخضع؟ كيف تُطيع؟ كيف تقبل ما أنت عليه؟ كيف تقبل أن لا تأتيك الحروف؟ عليك أن تنتزعها من مكامِنِها، لا تنتظر أن تأتيك؛ فإن الشعر ملكيُّ الطبع -هكذا يقولون!- لا يُعطيك بعضَه حتى تُعطيَه كلك، ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ "مَا الْأَيَّامُ صَابِيَةً كَالْأَيَّامِ تَكْتَهِلُ"، سعيد أنت بشبابك؟ سعيد بأيامك الأولى التي كنت فيها تحفظ كل شيء، وتقول كل شيء؟ خذ، اغتنم خمسًا قبل خمس، اغتنم شبابَك قبل هَرَمِك! بعض الناس يقولون: هِرَمِك، خطأ. عندنا في مصر يتحرجون من أن يقولوا هَرَم، لأنها تُذَكّر بالهَرَم الأكبر، فيغيرون الكلمة، يقولون: الهِرَم؛ فانظروا إلى أثر طبيعة المجتمع، إلى أثر الحالة الخاصة، عندهم الهَرَم، يخاف الواحد منهم أن يقول: آه؛ بلغت أقصى الهَرَم، خشية أن يُسخر منه: قمة الهرم الأكبر! لا، هي الهَرَم طبعًا، وربما سمَّوْا بها الهَرَم، لأنه قديم جدًّا، قال فيه شوقي أمير الشعراء:
"أَيَا لِدَةَ الدَّهْرِ لَا الدَّهْرُ شَبَّ وَلَا أَنْتَ جَاوَزْتَ حَدَّ الصِّغَرْ"!
أي يا أخا الزمان، لا الزمان تغير ولا أنت، "مَا الْأَيَّامُ صَابِيَةً كَالْأَيَّامِ تَكْتَهِلُ"، ما إعراب صابية؟
حال.
حال، فمن أي شيء؟
من الأيام.
من "الأيام"، فما إعراب "الأيام"؟
مبتدأ.
مبتدأ، ومجِيء الحال من المبتدأ مشكل عند النحويين، ولكنه يحدث. وهذا دليل من الأدلة. "مَا الْأَيَّامُ صَابِيَةً"، في حال الصبا "كَالْأَيَّامِ تَكْتَهِلُ"، في حال الكهولة. لم تقرؤوا كلمة "صابية" من قبل طبعًا، ولا كلمة "تكتهل"، وهذا الرجل من المشغوفين بتفجير اللغة بإحياء المهجور، مُغرم بهذا، في شعره وفي نثره، هو ومن جرى مجراه من الشعراء. "مَا الْأَيَّامُ صَابِيَةً كَالْأَيَّامِ تَكْتَهِلُ"، طيب، ماذا تريد؟ "لَا تَرُعْكَ صِبْغَتُها كُلُّ صِبْغَةٍ دَخَلُ"، هذا الذي أريد. ما الدَّخَل؟ ها! العيب، ومنه قولهم في المثل: "تَرَى الْفِتْيَانَ كَالنَّخْلِ، وَمَا يُدْرِيكَ مَا الدَّخْلُ"! لكن المثل سكَّن الخاء من أجل البديع؛ وإلا قال -ولاسيما في عمان!-: "تَرَى الْفِتْيَانَ كَالنَّخَلِ، وَمَا يُدْرِيكَ مَا الدَّخَلُ"! هكذا تقولون في عمان، في "نَخَل" وما أشبهها من الثلاثي، وعندكم ولاية "نَخَل". هذا تعليق طريف حقا، لو أتيح لي أن أكتب لقلت هذا: لو قاله عماني لعكس: "تَرَى الْفِتْيَانَ كَالنَّخَلِ، وَمَا يُدْرِيكَ مَا الدَّخَلُ"، أي ما العيب؟ كما تقولون في المثل عندكم: "شِيفَة شِيفَة والمعاني ضَعِيفة"، أهو من أمثال الأطفال؟ عادي؟ كلما قلته ابتسم الشباب، فأُحِسّ أنني وقعت في مشكلة، أهو من أمثال الحريم النساء؟
لا.
طيب، لماذا أغمضت عينك كأنني قلت إدًّا من القول؟ طيب! عندنا في المصرية يقولون: "مِن بَرَّا هاللَّه هاللَّه...
وِمِنْ جُوَّا يِعْلَمَ الله!
وعندكم هذا، لكن تقولون: من داخل؟
نعم.
نقول: من جُوَّا، "مِن بَرَّا هاللَّه هاللَّه، وِمِنْ جُوَّا يِعْلَمَ الله"! ترى الفتيان كالنخل -ما شاء الله!- الواحد كأنه نخلة، وما يدريك ما الدخل؟ كان عندنا هنا شاب عماني جميل -ها!- كان -ما شاء الله!- طويلًا عريضًا، كأنه مصارع، قالوا: هذا يعيش بِرِئَة واحدة، سبحان الله! طول بعرض -نتمنى أن نكون بعيون حادة- هذا الفتى الشاب يعيش برئة واحدة، سبحان الله! "ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل". "لَا تَرُعْكَ صِبْغَتُها"، في شبابها، أو في كهولتها. ما سِنّ الكهولة؟ متى يبدأ و متى ينتهي؟ ها؟
من خمسة وثلاثين لخمسين.
تبدأ الكهولة من الأربعين، يقول فيصل: من الخامسة والثلاثين، وهذا على أية حال أحسن مما يظنه الناس، يظنون أنها تبدأ من الخمسين، هذا خطأ شائع، هذه الشيخوخة، يخلط الناس الكهولة بالشيخوخة؛ يظنون الكهولة هي الشيخوخة، خطأ؛ الكهولة قبل الشيخوخة، أي بعد الاشتداد مباشرةً، يدل عليها اسمها، كهولة: كهْ كهْ كهولة، من الأصوات حقا -يا جماعة!- حينما يبدأ في "كهْ" هذه، حينما يتحمل الأثقال يقول: "كه" تبدأ الكهولة، والشيخ طبعًا يَخِرّ: خخخ، يخر يخر على الأرض! أما صاحبنا فحين يبدأ عند حمل الأثقال -ها!- يصدر صوتًا يعبر عن عن تَثَاقله! "لَا تَرُعْكَ صِبْغَتُها كُلُّ صِبْغَةٍ دَخَلُ"، ها، فماذا أفعل؟ "وَارْتَحِلْ"، سافر! و"سافر" هذه عامة، أي غيِّر حالك، تريد أن تبدع؟ فَكُلْ إذن غير الطعام الذي تأكل، واشرب غير الشراب الذي تشرب، والبس غير اللباس الذي تلبس، واركب غير الركاب الذي تركب، واسكن غير الذي تسكن، وتزوج غير الزوج التي تزوجت -ههه!- غير العتبة؛ قال له: غير العتبة! إن شاء الله فستقول كل يوم قصيدة -آه لو سمعت زوجي هذا!- "وَارْتَحِلْ فَقَدْ رَحَلَتْ مِنْ شَبَابِهَا دُوَلُ"، لو قلت لها هذا لقالت: وأنا كمان محتاجة أغيّر، واحدة بواحدة، ها! لكن المعنى على أية حال جميل؛ أعرف أكثر من واحد، غيَّر، فأبدع، سافر من مكان إلى مكان، فأبدع، وأنا من هؤلاء أصلًا؛ جئت إلى عمان فكتبت ما لم يخطر لي ببال أصلًا، فهذا مطلوب -يا جماعة!- غيِّر، غيِّر، غيِّر المكان، غيِّر، غيِّر، وارتحل! والدُّوَل جمع الدَّوْلة؟ المفروض أن تكون جمع "دُولة": دُولَة دُوَل، والدُّولة أصلًا المتداوَل، تُستعمل في جمع دَوْلة -نعم- لكن هذا ليس بقياسي هذا، فَعْلَة لا تجمع على فُعَل، إلّا على جهة الشذوذ، أما دُوَل فالمفروض أن تكون جمع دُولة -غُرْفة غُرَف، حُجْرة حُجَر، فُعْلَة فُعَل- هذا المعروف، هي إذن الأشياء المتداولة، ينفعنا أن نستحضر هذا المعنى، الأشياء تتغيَّر -يا أخي!- تتحول؛ فتحول كما تتحول! هذا الكلام سهل لا يحتاج إلى منافسة، لا منافسة في هذه القصيدة، لكن سنأتي بعد قليل إلى المنافسة، لأنَّنا في هذا اللقاء سنأخذ قصيدتين، دخل الوقت دخل الوقت فلا وقت، فلهذا سنتجاوز المنافسة في هذه القصيدة لننافس في التي بعدها مباشرة؛ فمن يقرأ من غير منافسة؟ نريد أن نستمع إلى من لم نستمع إليه؛ هناك ناس منعتهم المنافسة، وهم قديرون، لكنهم غلَّبوا العقل، قالوا: لماذا نورط أنفسنا؟ الصمت حُكْم، أي حكمة! من الذي لم يقرأ من قبل أصلًا -ها!- قطعًا؟ ها، قرأتِ من قبل؟ ذكريني اسمكِ؟ ها؟
أزهار.
تفضلي -يا أزهار!- الكلام جميل وسهل، ولا بأس عليك!
"كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ
أَحْرُفٌ مُقَطَّعَةٌ يَرْتَعِي بِهَا الْكَسَلُ
لَا أَقُولُ كَاذِبَةٌ أَنْتِ بَلْ بِكِ الْبَخَلُ
أَوْ تَخَوُّفٌ عَجَزَتْ دُونَ مَحْوِهِ الْحِيَلُ
شَرَّدَتْكِ آسِفَةً فِي ضَيَاعِهَا السُّبُلُ
هَلْ أَرَاكِ مُقْبِلَةً زَانَ وَجْهَكِ الْجَذَلُ
أَوْ أَرَاكِ يَصْرُخ فِيكِ الْإِحْجَامُ وَالْوَجَلُ
أَنْتِ غَيْرُ وَاحِدَةٍ فِي الشُّخُوصِ تَنْتَقِلُ
لَا يَرُدُّ غُرْبَتَهَا رُقْيَةٌ وَلَا عَمَلُ
قَدْ صَبَرْتُ مَا صَبَرَتْ مِنْ عَوَاصِفِي ذُلَلُ
ها! "مِنْ عَوَاصِفِي...
قَدْ صَبَرْتُ مَا صَبَرَتْ مِنْ عَوَاصِفِي ذُلُلُ
وَامْتَطَيْتُ جَامِحَهَا نَافِرًا وَلَا أَمَلُ
وَامْتَثَلْتُ صَاحَ بِيَ الْهَمُّ كَيْفَ تَمْتَثِلُ
مَا الْأَيَّامُ صَابِيَةً كَالْأَيَّامِ تَكْتَهِلُ
لَا تَرُعْكَ صِبْغَتُهَا كُلُّ صِبْغَةٍ دَخَلُ
وَارْتَحِلْ فَقَدْ رَحَلَتْ مِنْ شَبَابِهَا دُوَلُ"!
الله الله، يا أزهار؛ فلماذا إذن لا تشاركين؟ إيقاعك سريع، اهدئي قليلا! لكن قراءتك طيبة، ما شاء الله! يبدو أنها كانت ترى ما كنّا نفعله لعب أطفال، فكأنها قالت لنفيها: عبث أطفال، وأنا لا أشارك في ألعاب الأطفال! على رغم أنها نافعة جدًّا، لأنها أثارت الطلاب إلى تجهيز القصائد، إلى الاشتداد في الإتقان، بدليل أن أكثر المشاركين من الممتازين جدًّا، الذين حصلوا على أرفع الدرجات؛ حاولي إذن أن تتخيلي هذا العمل على أحسن ما يمكن، حتى نستفيد منه جميعًا، بارك الله فيك! نكتب البيتين الأولين على السبورة، بسم الله!
كل شوقنا كلم كل همنا جدل
معقول هذا الكلام القصير، ما هذا البحر القصير! لو أني أعرف أن البحر قصير جدا...!
كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ
لا تنسوا أن فيصلا وجَّه الكلامَ على الذم، ووجهناه على المدح!
كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ
أَحْرُفٌ مُقَطَّعَةٌ يَرْتَعِي بِهَا الْكَسَلُ
هل يريد هذا الكسل؟ لا يريده، هو يريد أن ينشط، لا أن يكسل؛ فهو إذن يرجو أن تطاوعه الحروف، لا أن تعانده!
كُلُّ شَوْقِنَا كَلِمٌ كُلُّ هَمِّنَا جَدَلُ
أَحْرُفٌ...
وأحرف جمع قلة، وجمع الكثرة حروف، حتى الأحرف يرتعي بها الكسل.
... مُقَطَّعَةٌ...
ولهذا هي أحرف مقطعة.
... يَرْتَعِي...
يرتعي يرعى، كما نقول: رعى جسمَه المرضُ. "يرتعي" مبالغة في "يرعى"،
... يَرْتَعِي بِهَا الْكَسَلُ
يا سلام! هو يريد أن ينشَط إذن، لا أن يكسَل -يقال: كسِل يكسَل، ها!- يريد أن ينشط لا أن يكسَل، معنى هذا أن تعلق شوقنا بالكلم تعلق شريف، أن تعلق همنا بالجدل تعلق شريف؛ "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"؛ صدق الله العظيم! كيف نغني هذين البيتين؟ أسهل غناء:
كُلُّ شَوْقِـ| ـنَا كَلِمٌ| كُلُّ هَمِّـ| ـنَا جَدَلُ
أَحْرُفٌ مُـ| ـقَطَّعَةٌ| يَرْتَعِي بِـ| ـهَا الْكَسَلُ
يا سلام، جميلة -ها!- جميلة، ثانية:
كُلُّ شَوْقِـ| ـنَا كَلِمٌ| كُلُّ هَمِّـ| ـنَا جَدَلُ
أَحْرُفٌ مُـ| ـقَطَّعَةٌ| يَرْتَعِي بِـ| ـهَا الْكَسَلُ
الله الله، جميل، يا أخي! لكنّني حين أكلمك عنه بعد قليل، أكشف لك أنه قليل الاستعمال! يا أخي، الناس لا يسمعون مثلما نسمع، ولا يغنون مثلما نغني! ولو سمعوا وغنوا ما تركوا هذا! طيّب نُنْزِل هذا على الصفحة، الله الله الله! الواحد يقدم بالأوبرا فيما بعد، نعود إلى الأحمر، و"الحُسْن أحمر" -هذا مثل قديم-:
دن ددن د.
أحسنت!
دن ددن.
غنِّي، غني كل مرحلة، لكي لا تخطئي!
طيب! تدعي ابنتنا أن "دن دددن"، "مستعلن"، وسنقبل دعواها، "مستعلن"، وهذه مطوية، لأن الطي حذف ساكن السبب الخفيف متى كان رابع حرف، والفاء التي في "مستفـ|علن"، هي الرابع؛ "مسـ" اثنان، "ـتفـ" الفاء الرابع، حذفناها، فطوينا التفعيلة؛ فالتفعيلة مطوية، ورمزها لدينا "ط"، إذا أحببنا أن نرمز؛ فماذا ستقول ابنتنا هذه في "دن ددن د"، يا تُرى؟
فاعلاتُ.
فاعلاتُ! "فاعلاتُ" هذه في الرمل نقبلها، في الخفيف نقبلها، لكننا هنا لا نقبلها، لأن الرمز هنا "مَفْعُلاتُ"، وهي مطوية كذلك. ما هذا، يا أستاذ؟ هذا بحر المقتضب، والبيت منه "مفعولات مستفعلن مستفعلن"، مرتين هذا هو. ما هذا، يا أستاذ؟ هذا بحر جديد، "لو أني أعرف أن البحر قصير جدًّا ما أحجمت"! "مفعولاتُ": "مفـ": سبب خفيف، "عو": سبب خفيف، "لات": وتد مفروق، عرفناها في السريع، وعرفناها في المنسرح، وهي هنا مثلها هناك. و"مستفعلن" مثلها في الرجز: "مسـ": سبب خفيف، "ـتفـ":سبب خفيف، "ـعلن": وتد مجموع، هذه معروفة. وبحر المقتضب قليل الاستعمال على رغم هذه اللطافة، سبحان الله! ألا يشعرون بهذه اللطافة! وقد بلغنا أن فتاةً كانت تغني في عرس أيام الرسول -صلى الله عليه، وسلم!- تغني للنساء داخل الخيمة، يبدو أنه مر، فسمعها تقول:
"هَلْ عَلَيَّ وَيْحَكُمَا إِنْ لَهَوْتُ مِنْ حَرَجِ"!
فقال: "لا حرج، إن شاء الله"! ههه! لَهْوٌ مباح، ما المشكلة!
شيء في منتهى اللطافة؛ فلماذا لم ينتشر، ولم يشتهر؟ إذا ذهبتم وفي المحاضرة القادمة -إن شاء الله!- سننتهي، وسنجلس لإحصائية استعمال البحور على مدار التاريخ، من خلال الموسوعة الشعرية التي صدرت عن مجمع أبي ظبي الثقافي، وهي موجودة متاحة، تداولناها أولًا بالأقراص، وأظن أنكم الآن يمكنكم تحملوها عن الإنترنت، لكنها ذات إصدارين: إصدار سنة ثلاث وألفين، وإصدار بعدئذ، الذي عندي الأول فقط مع الأسف، فيها ستة عشر ألف قصيدة فقط، وفيما بعد زادوا القصائد، حتى وصلوا إلى أكثر من ستةِ ملايين ونصف تقريبًا؛ فزادت جدًّا، وقوِيَ الاستشهاد. طيب! إيقاعٌ لطيف جدًّا. في إحدى أماسي عام 1897 الميلادي، ذهب أحمد شوقي أمير الشعراء إلى حفل بدار الأوبرا المصرية أو بقصر السلطان -كانوا يسمونه الخِدِيوِي- ويبدو أنها كانت حفلة راقصة ماجنة معربدة، فرجع منها، فكتب قصيدة طويلة من هذا الوزن، أتصدقون! راجعوا ديوانه! يقول:
"حَفَّ كَأْسَهَا الْحَبَبُ...
يتكلم عن الخمر، وربما لم يشربها؛ وهكذا الشعراء، "يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ"؛ صدق الله العظيم! سمعت في بعض ما كنت أحضر من مجالس الأدب إحدى الصحفيات تقول -وكانت امرأة مسنة-: لو كان طعم الخمر طيبا لشربناه! فحكيت ما قالت في مجلس آخر، فقال بعض من فيه ممن صار له بعدئذ شأن في قيادة المؤسسة الثقافية: لا، بعضها طعمه طيب! أهكذا! عافانا الله وإياكم! ماذا قال شوقي أمير الشعراء؟
"حَفَّ كَأْسَهَا الْحَبَبُ فَهْيَ فِضَّةٌ ذَهَبُ
أَوْ دَوَائِرٌ دُرَرٌ مَائِجٌ بِهَا لَبَبُ
أَوْ فَمُ الْحَبِيبِ جَلَا عَنْ جُمَانِهِ الشَّنَبُ"!
نعم.
مجزوء.
مجزوء. ما الجَزْء؟ علّة شديدة، فيها نحذف تفعيلة من آخر كِلَا شطري البيت، لا من أولهما. طيب! شطر البيت من المقتضب قبل الجَزْء "مفعولات مستفعلن مستفعلن"، وكان شطر البيت من المنسرح "مستفعلن مفعولات مستفعلن"، فقدّمنا، وأخرْنا، كأننا نلعب بالمكعبات -وبيت السريع "مستفعلن مستفعلن مفعولات"- وكلما قدمنا وأخرنا أخرجنا بحرا! وبحر المقتضب من الدائرة الرابعة، دائرة المشتبه؛ فهو إذن بحر مشتبهي، من بني المشتبه، أصل البيت أصله النظري أن يكون على هذه التفعيلات الست "مفعولات مستفعلن مستفعلن مفعولات مستفعلن مستفعلن"، لكن هذا كله في عقل الخليل، لا في عمل الشعراء؛ لماذا؟ أما جواب "لماذا كان هذا هكذا في عمل الشعراء؟"، فأنه هو ما ارتاحوا لإيقاعه! وأما جواب "لماذا كان هذا هكذا في عقل الخليل؟"، فأنه هو ما اقتضته علاقة أبحر الدائرة الواحدة بعضها ببعض! فقد دلّ بعضها الخليل على بعض، فلما جمع الإخوة في الأسرة تبين له أنه لابد أن يكون المقتضب على هذا. كيف يا أستاذ؟ كيف تقول هذا؟ ولم يحدث هذا في شعر الشعراء. يقول لك: لم آت بشيء من عندي؛ هذه الأبحر إخوة لأب وأم، السريع والمنسرح والخفيف...، ولابد إذا خضعت للبنيان النظري أن أقول: البيت من المقتضب "مفعولات مستفعلن مستفعلن مفعولات مستفعلن مستفعلن"؛ فيأتي باحث معاصر كالدكتور إبراهيم أنيس، ليقول: ليذهب نظامُك النظريّ إلى الجحيم، لن نعبأ به، هذا تكلُّف! أما نحن فنقول: بل العكس، وليذهب استنكارك أنت -يا إبراهيم أنيس!- إلى الجحيم؛ فهذا بنيانٌ لا يُعوَّض، هذه الأبنية التي استطاع الخليل أن يكتشفها فيدُلَّنا على صلات الأبحر، شيء حكيم بديع مُدهش، ويميز لنا بدوائره النظرية طبيعة الشعر المستديرة، من طبيعة النثر المستقيمة، الشعر مستدير لا مستقيم، والنثر مستقيم لا مستدير! هذه الأفكار لم ينتبه إليها النقاد إلّا في أوائل القرن الميلادي العشرين، انْتَبَهَ الشكلانيُّون الروس إلى أن الشعر مستدير، يدور بعضه على بعض، يدور بنفسه على نفسِه، وقد وضعه الخليلُ من قبل في دوائر، ألَا يدل هذا على ما حاولوا أن ينتبهوا إليه؟ كيف أفرّط في ذلك كله من أجلك، يا إبراهيم أنيس! استطاع الرجل بادعاء أن البيت من المقتضب مجزوء أبدًا، أن يربط العمل بالنظر بالعمل؛ فسخروا منه، وعَبِثُوا بكلامِه، أما نحن فلا نسخر ولا نعبث. وهذا البحر كما قلت لكم، قليل الاستعمال، لا هو من المنزلة الأولى، ولا من الثانية، لا هو من بحور المستوى الأول الكثيرة الاستعمال، ولا من بحور المستوى الثاني الوسيطة الاستعمال، بل من بحور المستوى الأخير النادرة الاستعمال، وهذا البحر -يا جماعة!- هو والمضارع اللذان استنكر حازم القرطجاني على العرب في كتابه "منهاج البلغاء"، أن تكون قالت منهما! سبحان الله! تستنكر عليهم أن يكونوا قالوا من هذا الوزن الجميل: "دن ددن د، دن دددن، دن ددن د، دن دددن"! يقول: أربأ بالعرب أن تكون قالت من المضارع والمقتضب! إذا توقفنا في المضارع قليلًا لم نتوقف في المقتضب، بل قد درنا المضارع بقصيدتين من شعر الإخوانيات، ظريفتين لطيفتين.
دكتور، لما بحثنا عن شعر من المضارع...
لم تعثري على شيء، لكنني دللتك منه على قصيدتين. لن تجدي كثيرًا، لكنك على أية حال كنت معي حينما تذوقناه فوجدناه سهلًا، فلماذا لم يكثر استعماله؟ لا حل، لا تفسير إلا ما قلتموه مرة، أذواق العصور، لا يقبل الشِّيب هذه الأغاني التي يسمعها الشباب؛ فهي عندهم عبث، كلام فارغ، ما هذا الكلام الفارغ! تربوا على مثل "مِيحَدْ حَمَدْ" البدوي، يقول: "خَمْسِ الحَوَاسِّ سَايِلَنِّي عَنَّكْ وَقَلْبِي فِيهْ جَرْحِينْ"؛ فكيف يصبرون "راشد الماجد" الحضري يقول: "اللهْ يَا زِينِ اللِّي احْضَرَتْ غَطَّتْ عَلَى كِلِّ الْحُضُورْ" -ههه!- وأنا أحب هذه الأغنية -ههه!- معقول يتركون "ميحد حمد" والمعلقات التي ينشدها، لهذا العبث هذا! هو ذوق العصر حقًّا، أو ذوق السن! نكمل:
التفعيلات كلها مطوية، أخشى أن يستمر على هذا، وسيستمر إلا قليلًا، وحينما تأبى تفعيلةٌ أن تتغير ستتعثرون بها! إذا ما تعثرتم فاعلموا أنه قد سلَّم التفعيلة؛ فإنها إذا سلِمَت لم نسلم، هذه التفعيلة "مفعولات" إذا سلمت لم نسلم، وسترون هذا رأي العين! فمعًا معًا، شُدُّوا دساتين أعوادكم -لا من أجل هذه وحدها، بل من أجلها ومن أجل التي بعدها؛ فهي شدّة للقصيدتين!- وأحموا طبولكم ودفوفكم، واشربوا واطربوا -استمتعوا؛ هذا مقام من مقامات البهجة!- ولا يتقدّمنَّ عازفٌ عازفًا؛ فإنْ ظنَّ أنه يحسن فإنه يسيء -هذا عمل جماعيّ- واجعلوا النَّغْمَةَ أكثر زُرْقَة، ها!
لَا أَقُولُ كَاذِبَةٌ أَنْتِ بَلْ بِكِ الْبَخَلُ
أَوْ تَخَوُّفٌ عَجَزَتْ دُونَ مَحْوِهِ الْحِيَلُ
لحظةً نقلب الصفحة؛ يا لَلعار!
هذه التي سلمتْ فلم نسلم، أعيدوا:
سلمت سلمت -ها!- ولكنكم كنتم قد تعلمتم هذا؛ فتفاديتم، ها!
ها! صخب صخب، قاتل الله المتنبي:
"وَتَرْكُكَ فِي الدُّنْيَا دَوِيًّا كَأَنَّمَا تَدَاوَلَ سَمْعَ الْمَرْءِ أَنْمُلُهُ الْعَشْرُ"!
أي فجِّر المكان، فجِّر المكان بالحق أو بالباطل، ها!
الله، الله! عاشوا، عاشوا! فيكم طرب! وفيكم وناسة! أَمِثْلُ هذا يقال فيه: أربأ بالعرب أن تكون قالت منه، ها! هذه فرطة من فرَطاته، وكتابه أو ما بقي من كتابه "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، تنظير لا تطبيق فيه، يُقال: إن جزء التطبيق ضائع، هل درستم علوم البلاغة؟
لا.
حين تدرسونها أوصيكم أن تبحثوا عن حقيقة هذا الأمر، ما حقيقة كتاب حازم القرطاجني "منهاج البلغاء"، يا أستاذ؟ اسألوا الدكتور إحسانًا مثلًا، أو غيره: أصحيح ما يقال عنه، من أنه كتاب تنظير لا تطبيق فيه؟ آلتطبيق ضائع حقا؟ فنحن نرى له آراء خطيرة، فيها نظر. طيب، ما قافية البيت الأول؟
ـنَا جَدَلُ.
الكسل.
الكسل! خطأ.
ـِهَا الْكَسَلُ.
قلت: الكسل! ما قافية البيت الأول، يا مسعود؟
ـنَا جَدَلُ.
جميل ناجدل، وقافية الثاني؟
ـِهَا الْكَسَلُ.
جميل! كيف تقرأ هذا البيت؟ اقرأ لي هذا البيت!
أَحْرُفٌ مُقَطَّعَةٌ يَرْتَعِي بِهَا الْكَسَلُ
أرأيت كيف قرأت؟ قلت: "بِهَا الْكَسَلُ"، ولم تقل: "بِهَا اَلْكَسَلُ"، وقد أحسنت -أجاب الآن، قال "ـِهَا الْكَسَلُ"- من هذا العربي الذي يقرأ هذا البيت، هكذا: "أَحْرُفٌ مُقَطَّعَةٌ يَرْتَعِي بِهَا اَلْكَسَلُ"، إلا المذيعين والمذيعات الأحياء منهم والأموات، إلا...
مذيعي الجزيرة!
مَن؟ لا أحد! لو كانت معنا الآن مذيعة من مذيعات الفضائيات، لقالت: أحرفْ -هكذا تقول - مقطعةْ يرتعي -كأنهم عجزة!- بها اَلكسلْ -ما شاء الله! هل هنا أكسل من هذا!- كلّْ شوقنا كلمْ كلّْ همّنا جدلْ! وهكذا تقرأ الشعر إذا كانت في برنامج شعري، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لا، الشعر مبنيٌّ في طبيعته على أصل الكلام العربي، والكلام متصل: "أَحْرُفٌ مُقَطَّعَةٌ يَرْتَعِي بِهَا الْكَسَلُ"، فالقافية إذن "ـِهَا الْكَسَلُ"، من الهاء، ها!
ـكِ البَخَلُ
ـهِ الْحِيَلُ
ـهَا السُّبُلُ
ـكِ الْجَذَلُ
وَالْوَجَلُ
تَنْتَقِلُ
ها، تأملوا: "تنتقلُ"، هذه كلمة واحدة، ها!
لَا عَمَلُ
ـفِي ذُلُلُ
لَا أَمَلُ
تَمْتَثِلُ
وكذلك هذه كلمة واحدة، ها!
تَكْتَهِلُ
وهذه كذلك، ها!
ـةٍ دَخَلُ
ـهَا دُوَلُ
أردت أن أقول: إن القافية كما رأيتم، إما أن تكون كلمة، وإما أن تكون أقل، وإما أن تكون أكثر، ولا رابع لهذه الاحتمالات. إما أن تكون كلمة وعندئذ تتميز بنفسها وتظهر للعِيان وتستحق الرعاية، وإما أن تكون أقل، وإما أن تكون أكثر؛ لهذا أخصها حين تخرج في كلمة مستقلة بمصطلح "طَبِيقَة"، من التطابق؛ طابقت القافيةُ الكلمةَ والكلمةُ القافيةَ، وهكذا. والتفعيلة كما ترون، خرجت في تفعيلة واحدة كذلك، فـ"تكتهلُ" تفعيلة "مستعلن"، و"تنتقل"، و"تمتثل"، كلهن هكذا، وهذا مما يزيد القافية قوة ونباهة. طيب، ما أقوى المكررات؟
اللام.
طبعا، وحركتها؟
الضمة.
بِمَدٍّ أشبعت أم بهاء أو تاء أو كاف؟
بمد.
وهذا هو الإشباع على الحقيقة. أقبلها ألف أو واو أو ياء؟
لا.
فكيف نقول إذن، من يقول عبارة البيانات؟ من؟ من يقول؟ من في الآخر؟ أنوار؟ تفضلي! ما هذه القصيدة؟
مقتضبية الأبيات.
مقتضبية، والمقتضب كما تفهمون من اسمه، مقتضب أي مقتطع. لم أكلمكم في هذه -سبحان الله!- والكلام ينسي بعضه بعضًا! لماذا سمّاه الخليل المقتضب؟ لأنّك إذا ما رأيته في حال التربيع أي الجزء، "مفعولات مستفعلن مفعولات مستفعلن"، أحسست أنه مُنتزَع من المنسرح، تذكر المنسرح! "مستفعلن مفعولات مستعلن مستفعلن مفعولات مستعلن"، كأنّك حذفت هذه وهذه، وانتزعته من بطن المنسرح! وقد سبق هذا في بحر...، المجتث، نعم؛ وعندئذ قلنا: إنما سماه المُجتث لأنه يبدو للعيان أنه مقتطع من...، الخفيف، "فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن"، كأنه مدَّ يدَه ثم أخرجه من أحشاء الخفيف؛ فصار المُجتث "مستفع لن فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن"؛ فماذا يسمي بحرنا اليوم؟ هل يسميه المجتث مرة أخرى؟ قد استعمل مصطلح "المجتث" من قبل؛ فاستحدث اسمًا آخر. لكن لو أدرك الخليل زماننا -اسمعوا هذه الملحة!- لربما سمى ذاك المجتث نمبر ون (number1)، وهذا المجتث نمبر تو (number2)، واجتهد أن ينطقها إنجليزية أمريكية في هذا الزمان الإمجليزي الأمريكي -ومعنا عبد الرحمن من قسم الإنجليزية يصدق هذا أو يكذبه!- لعله يبدو عالما عظيما نمبر ون (number1)، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وبعض الناس يُدرسون العربية في الجامعات بالإنجليزية، يقول لك: فرب (verb) مضارع! وقد قام عندنا على هذه الملحة فِلْم سينمائي -هل سمعتم عنه؟- اسمه "رمضان مبروك أبو العلمين حمودة"، لولا مَشاهِد فيه سيئة لَتَمَّ له الإتقان والإحسان -سبحان الله!- ولا أدري -وإن كنت أدري!- لماذا يضيفونها، لماذا يزعجوننا بها! فِلْم قائم على شخصية مدرس لغة عربية محترم قوي جدا على ضآلة جسمه، يجكم المدرسة، يوقفها على إصبع متى أراد، لا على رِجْل! شيء بديع، معلّم لغة عربية قوي الشخصية، مؤثر في المجتمع -هذه حكاية الفِلْم- جاءه ابن وزير، حولوه إليه لما وجدوه قويًّا هكذا لعله يُربّيه -بل أبوه الوزير هو الذي أمرهم بتحويله عليه في مدرسة قريته من المدرسة الإنجليزية الدولية المرفَّهة التي نعم فيها بكل شيء- فكان المدرس إذا أمره أن يعرب، قال له: فِرْب مضارع، فيستشيط عليه غضبا: فِرْب يا وَلَا (ولد)! حتى علَّقه في سقف الفصل، وضربه، قبل أن يعرف أنه ابن الوزير، فهُرِع إليه المسؤولون يخبرونه: أتعرف ابن من هذا؟ فقال: ومن سيكون، ابن الوزير! قالوا: نعم! فأُغْمِيَ عليه! لكن الوزير لما عرف ذلك أعجبه، بل سمح للمدرس أن ينتقل بابنه إلى المدرسة الإنجليزية الدولية المرفهة، ليُعمّم أسلوبَه وأثره! فكرة جميلة جدا، لولا مشاهد سيئة! طيب، أكملي -يا أنوار!- هذه القصيدة إذن مقتضبية الأبيات...
الوافية.
خطأ! بعد كل ذلك الكلام تقولين الوافية! مقتضبية الأبيات المجزوءة، ها!
المطوية العروض والضرب.
المطوية العروض والضرب، ها!
لامية القوافي.
لامية القوافي، ها!
المضمومة.
المضمومة، ها!
المجردة.
المجردة طبعا من الردف والتأسيس، وإذا تجردت منهما لم نحتج إلى إضافة، تكفينا كلمة "المجردة"، ها!
الموصولة بالواو.
الموصولة بالواو. أحسنت، ما شاء الله، تبارك الله، جميل، جميل! الآن نستطيع أن ننتقل إلى هذه القصيدة لنقرأها ونعلق عليها فقط، لكننا سنشتغل بها وبالتي بعدها اللقاء القادم. لم يعد لدينا وقت، لم يعد. هذه تنافسون عليها، والمنافسة الآن في وقتها حقا، لماذا؟ لأنه إذا طُرِد واحد طرد في الوقت المناسب! أحسن ما ينبغي للطرد أن يكون الآن؛ فلن نخسر شيئًا، نُطرد على المحك، يقول لك: فرصة، أَخْرُجُ قبل الطلاب! اسمعوا الكلام الجميل! كلام من هذا؟ كلام مولانا أبي حفص سلطان العاشقين عمر بن الفارض -بُلْبُل يطربهم بألحانه- هذا الذي رحل من ماله وأهله، وجاور بيت الله خمس عشرة سنة، لا يستمع إلا إلى نفسه -ها!- حتى حصل له وعي خاص، غَنَّى بعدَه قصائد جميلة، منها هذه القصيدة التي فَتَنَت الناس، تسمع أولها مثلًا في كل مكان.
قَلْبِي يُحَدِّثُنِي، لعمر بن الفارض سلطان العاشقين
"قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بِأَنَّكَ مُتْلِفِي رُوحِي فِدَاكَ عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَعْرِفِ
لَمْ أَقْضِ حَقَّ هَواكَ إِنْ كُنْتُ الَّذي لَمْ أَقْضِ فيهِ أَسًى وَمِثْلِيَ مَنْ يَفِي
مَا لِي سِوَى رُوحِي وَبَاذِلُ نَفْسِهِ فِي حُبِّ مَنْ يَهْوَاهُ لَيْسَ بِمُسْرِفِ
فَلَئِنْ رَضِيتَ بِها فَقَدْ أَسْعَفْتَني يَا خَيْبَةَ الْمَسْعِى إِذَا لَمْ تُسْعِفِ
يَا مَانِعِي طِيبَ الْمَنامِ وَمانِحِي ثَوْبَ السَّقامِ بِه وَوَجْدِي الْمُتْلِفِ
عَطْفًا عَلَى رَمَقِي وَمَا أَبْقَيْتَ لِي مِنْ جِسْمِيَ الْمُضْنَى وَقَلْبِي الْمُدْنَفِ
فَالْوَجْدُ بَاقٍ وَالْوِصَالُ مُمَاطِلِي وَالصَّبْرُ فَانٍ وَاللِّقاءُ مُسَوِّفِي
لَمْ أَخْلُ مِنْ حَسَدٍ عَلَيْكَ فَلا تُضِعْ سَهَرِي بتَشْنِيعِ الْخَيَالِ الْمُرجِفِ
وَاسْأَلْ نُجُومَ اللَّيْلِ هَلْ زَارَ الْكَرَى جَفْنِي وَكَيْفَ يَزُورُ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ
لَا غَرْوَ إِنْ شَحَّتْ بِغُمْضِ جُفُونِها عَيْنِي وَسَحَّتْ بِالدُّمُوعِ الذُّرَّفِ
وَبِما جَرَى فِي مَوْقِفِ التَّوْدِيعِ مِنْ أَلَمِ النَّوَى شَاهَدْتُ هَوْلَ الْمَوْقِفِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْلٌ لَدَيْكَ فَعِدْ بِه أَمَلي وَمَاطِلْ إِنْ وَعَدْتَ وَلَا تَفِ"!
وسميتها بمطلعها "قَلْبِي يُحَدِّثُنِي"؛ لم يكونوا يسمون القصائد. "قَلْبِي يُحَدِّثُنِي"، بم يحدثك؟ "بِأَنَّكَ مُتْلِفِي"، من هذا المخاطَب؟ المفروض أَنَّهُ رَبُّ العَالَمِين -طيب!- الحبيب الأكبر، "رُوحِي فِدَاكَ" -يا حبيبي الأكبر!- عرفت، أم لم تعرفِ! كيف يقال هذا لِرَبِّ العَالَمِين؟ أيعرف مرة ولا يعرف مرة؟ يستحيل! فما هذا إذن؟
يُمَوِّه.
هذا تمويه -أحسنت!- أنا أُفَسِّر هذا بالتمويه، يُمَوِّه عليك علاقته برب العالمين، لكيلَا تعرفها؛ هذه محبتي ينبغي أن تُربَّى في السر، استعينوا على محبتكم بالكتمان، استعينوا على بقاء محبتكم بالكتمان! كانت زوج أحد الناس صالحة جدًّا، ترى بنور الله، تعرف ضمائر الأشياء، فانتبه منها مرة إلى ذلك -قرأت هذا الخبر في "طبقات الصوفيات المسلمات"، لعبد الرحمن السُّلَمِي، وفي هذا الكتاب ذكر رابعة العدوية، التي باسمها تتسمى الفتيات العمانيات- فذهب إلى شيخ المنطقة -وكان رجلًا فاضلًا جدًّا- يستشكل عليه ذلك: أَجِدُ مِنِ امرأتي كذا وكذا! فعرف الشيخ أنَّها ترى بنور الله -وهذا سر خطير، ينبغي ألّا يُعرَف، حال شريفة ينبغي ألّا تُكشَف؛ فإن عُرِفَت لم يكن لها علاج إلا الموت!
"وَلَاحَ سِرٌّ خَفِيٌّ يَدْرِيهِ مَنْ كَانَ مِثْلِي
فَالْمَوْتُ فِيهِ حَيَاتِي وَفِي حَيَاتِيَ قَتْلِي"!
فقال له الشيخ: طيب! ووَضَعَ له كتابًا على مكتبه، ثم قال له: اذهب، فقل لها: ماذا وضع الشيخ على المكتب؟ حتى تتأكد أنها ترى بنور الله! ثم لمَّا خرج زوجها أنزل الكتاب من على المكتب! فذهب إلى زوجه، وقال لها: ماذا وضع الشيخ على المكتب؟ فقالت له: لا شيء على المكتب. ماذا على المكتب؟ لا شيء على المكتب! فتوقف فيما كان رآه بها، واستقر في ضميره أنها لا تعرف، وهي تعرف، ولكن الشيخ سترها، عرَف أنها ترى بنور الله، وتعْرِف -حكايات الصوفيين جميلة، أحب هذه الحكايات!- فأراد أن يستر حالها؛ فهذه حال ينبغي أن تُستَر، أو أن يموت صاحبها أو يُقتل؛ لا حياةَ له بعد افتضاحه. "قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بأَنّكَ مُتْلِفِي رُوحِي فِداكَ عرَفْتَ أَمْ لَمْ تَعْرِفِ"، "لم أَقْضِ حَقَّ هَوَاكَ إِنْ كُنْتُ الَّذِي لَمْ أَقْضِ فِيهِ أسًى وَمِثْليَ مَنْ يَفِي"، انظرو إلى اللعب بالكلام -اسمعوا!- يلعب بالكلام، مفتونًا بالبديع! لم تدرسوا في الجامعة البلاغة بعدُ، ولكن درستموها في الثانوية دراسة ما، تعرفون الجناس والطباق وكذا. هو مفتون بهذا؛ تأملوا: "لَمْ أَقْضِ"، "لَمْ أَقْضِ"، ما معناها في الموضعين؟ ما معناها في "لَمْ أَقْضِ حَقَّ هَوَاكَ"؟ لم أُتمَّه، لم أف به. طيب، وفي "لَمْ أَقْضِ فِيهِ أَسًى"؟ لم أمت، من "قضى نحبه"! أرأيتم اللعب! وسيتوسع فيه. "ما لي سوى روحي"، ليست لي سوى روح واحدة، "وباذل نفسه في حبِّ من يهواه ليس بمسرف"، أقل ما يفعله الحبيب لحبيبه أن يبذل له وفيه نفسه، ثم يخاف ألا يقبل بعد كل هذا! يبذل نفسه، ويخاف ألا يُقبل! "فلإن رضيت بها فقد أسعفتني"، أدركتني في الموت؛ أنا الآن أموت، "فلإن رضيت بها فقد أسعفتني"، في الموت؛ فأحييتني في الموت، "يا خيبةَ المسعى إذا لم تسعف"، "فلإن رضيت بها"، لأنه ربما قال له: "إِنَّمَا قَاتَلْتَ لِيُقَالَ: شُجَاعٌ، وَقَدْ قِيلَ؛ خُذُوهُ إِلَى جَهَنَّمَ"! يوم الموقف العظيم يأتي كل واحد بأعماله، فيأتي المنفق بإنفاقه، ويأتي المجاهد بجهاده، ويأتي المعلم بتعليمه -مثلي!- ويأتي فلان...، فأنا آتي يوم القيامة، فأقول: عَلَّمْتُ أَبْنَاءَ عُمَانَ مِنْ أَجْلِكَ؛ فيقال: إِنَّمَا عَلَّمْتَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ؛ خُذُوهُ إِلَى جَهَنَّمَ! اللهم، قنا عذاب النار! يأتي هذا المجاهد مثلًا، يقول: أنا قاتلت فيك، فيقال له: إنما قاتلت ليقال بطل، وقد قيل؛ خذوه إلى جهنم، وهكذا! وربنا -سبحانه، وتعالى!- يعلم السر وأخفى، ونيتنا تفسد أحياناً؛ لهذا ينبغي أن نصلحها دائمًا، أن نجدد النية؛ رَكِّزْ رَكّزْ؛ إنها تفسد؛ فرَكِّزْ! ويعلم الله هذا الجهاد، هذا الجهاد الأكبر؛ "عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، إصلاح النية هو الجهاد الأكبر، إصلاح النية، تفسد؛ فتصلحها، وهكذا تظل إلى أن تموت: هذا أقصى ما نستطيع -يا رب- هذا أقصى ما نستطيع! "يا مانعي طيب المنام"، انظروا إلى اللعب بالكلام: "يا مانعي طيب المنام ومانحي ثوب السقام به ووجدي المتلف"، انظروا إلى الازدواج والمقابلة: "مانعي، مانحي"، "طيب ثوب، المنام السقام"! "يا مانعي طيب المنام ومانحي ثوب السقام به ووجدي المتلف"، أي "وثوب وجدي المتلف"، ماذا تريد؟ "عطفًا على رمقي"، اعطف على ما بقي من نفسي، "وما أبقيت لي من جسمي المُضنى وقلبي المُدنَفِ"؛ أنا بذلت ما بذلت من أجلك، كما سأل رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- السيدة عائشة -رضي الله عنها!-: مَا بَقِيَ مِنَ الشَّاةِ؟ قالت: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، فقال: بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا! أفَهِمْتُمْ؟ يسألُها وقد ذبح شاة وتركها لها توزعها على الفقراء، فوزعتها، وبقيَت كتفُها، فلما جاء سألها، فلما قالت ما قالت علَّمها أن المبذول هو الباقي! "فالوجد باق"، انظروا إلى المأساة التي يعيشها في مصائب يرقق بعضها بعضًا: "فالوجد باقٍ والوصال مماطلي والصبر فانٍ واللقاء مسوفي"، مصائب، أنقذني منها -يا رب العالمين!- بالقبول فقط، لا أريد إلا القبول، كل هذا هَيِّن إذا قبلت! ما معنى "مسوّفي"؟
مؤجّلي.
مؤجّلي، فمن أين جاءت؟
من التسويف.
من التسويف، فمن أين جاء التسويف؟
من "سوف".
من "سوف"؛ هذا نحت من كلمة "سوف"، نحتوا الكلمة من كلمة "سوف"، كما تنحت كلمة "عَنْعَنَ"، أي قال: عن فلان عن فلان عن فلان كذا، وكما نحت البردوني في قصيدة أخرى -يا أصيلة، تحب شعر البردوني!- "لَكْنَنَ"، من "لكن"، في قول من أُولِع بالاستدراك: لكن كذا كذا، لكن كذا كذا! درسناها في علم الصرف، لكن لكن لكن: لَكْنَنَ يُلَكْنِنُ، أي قال: "لكن" كثيرا،
و"بَسْمَلَ".
نعم، و"بَسْمَلَ" هذه نحت من جملة كاملة، أي قال: "بسم الله"، ولكنه نحت كذلك، بارك الله فيكم! ومع كل هذه المصائب "لم أخل من حسد عليك" –"حَتَّى عَلَى الْمَوْتِ لَا أَخْلُو مِنَ الْحَسَدِ"!- "لم أخل من حسد عليك"، يقال: ما شاء الله محبوب! محبوب! يرون الناس يرتاحون إليه، يرون هالة من الضوء تحيط بوجهه، "لم أخل من حسد عليك فلا تُضِع سهري بتشنيع الخيال المرجف"؛ فأنا أتخيل أنك طرحتني، أتخيل أنك عذبتني، أتخيل أنك فضحتني يوم الموقف! "واسأل نجوم الليل هل زار الكرى جفني"؟ هل نمت مرة؟ "وكيف يزور من لم يعرف"؟ لا أعرفه، ولا يعرفني، أتعرف منا أحدًا؟ أعرف هذا! وكيف يزورني من لم يعرفني! كيف يزورني الكَرَى وهو لا يعرفني، كيف! "لا غَرْوَ"، ما معنى "لا غَرْوَ"؟ لا عجب. "لا غرو إن شَحَّت بغمض جفونها عيني وسَحَّت"، انظروا إلى اللعب: "شَحَّتْ"، و"سَحَّتْ"، يسمونه في البديع -أذكر هذا المصطلح- جناس التصحيف، يوهمك أن الكلمة مصحَّفة، إذا ما قرأت "شحت"، قلت: وضع النقط عليها خطأ، وإذا قرأت "سحت"، قلت: حذف النقط منها خطأ، لا هذا خطأ ولا ذاك، هذا مقصود! "لا غرو إن شحت بغمض جفونها عيني"، بخلت بالنوم، ولكنها -ما شاء الله!- سخية في الدموع، "وسحت بالدموع الذرف"، و"الذرف" جمع "ذارف"، و"الذارف" هنا مجاز بمعنى مذروف؛ لأن الدموع مذروفة لا ذارفة، كما يقال ماء دافق أو دم دافق، وهو مدفوق لا دافق. "وبما جرى في موقف التوديع من ألمِ النَّوَى شاهدت هول الموقفَ"، أي قِسْتُ الغائب على الحاضر، قست ما سيكون بما يكون، "وَبِمَا جَرَى فِي مَوْقِفِ التَّوْدِيعِ مِنْ أَلَمِ النَّوَى شَاهَدْتُ -كيف سيكون- هَوْلَ المَوْقِفِ". ثم يختم: "إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْلٌ لَدَيْكَ فَعِدْ بِهِ أَمَلِي -في المستقبل- وَمَاطِلْ"، "مَاطِل" هذه جرأة طبعًا، يقول لرب العالمين: مَاطِل! هذا تمويه، عدنا إلى التمويه، لمخاطبة مع رب العالمين أدب معروف، ولكن شعراء الصوفية يستبيحون لأنفسهم أن يسيئوا الأدب، من أجل التمويه، "إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْلٌ لَدَيْكَ فَعِدْ بِهِ أَمَلِي وَمَاطِلْ"، ماطل، قل:
"كُلَّمَا قُلْتُ مَتَى مِيعَادُنَا ضَحِكَتْ هِنْدُ وَقَالَتْ بَعْدَ غَدْ"!
بعد غد بعد غد! "وَمَاطِلْ إِنْ وَعَدْتَ وَلَا تَفِ"! من ينافس؟ من ها؟ والباب مفتوح؟ ها من؟ مريم المقبالية من صحار -ههه!- ها، اقرئي، ها، بسرعة، نريد أن نخرج الطلاب واحدًا واحدًا، لا أسمع شيئًا!
"قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بِأَنَّكَ مُتْلِفِي رُوحِي فِدَاكَ عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَعْرِفِ
لَمْ أَقْضِ حَقَّ هَواكَ إِنْ كُنْتُ الَّذي لَمْ أَقْضِ فيهِ أَسًى وَمِثْلِيَ مَنْ يَفِي
مَا لِي سِوَى رُوحِي وَبَاذِلُ نَفْسِهِ فِي حُبِّ مَنْ يَهْوَاهُ لَيْسَ بِمُسْرِفِ
فَلَئِنْ رَضِيتَ بِها فَقَدْ أَسْعَفْتَني يَا خَيْبَةَ الْمَسْعِى إِذَا لَمْ تُسْعِفِ
يَا مَانِعِي طِيبَ الْمَنامِ وَمانِحِي ثَوْبَ السَّقامِ بِه وَوَجْدِي الْمُتْلِفِ
عَطْفًا عَلَى رَمَقِي وَمَا أَبْقَيْتَ لِي مِنْ جِسْمِيَ الْمُضْنَى وَقَلْبِي الْمُدْنَفِ
فَالْوَجْدُ بَاقٍ وَالْوِصَالُ مُمَاطِلِي وَالصَّبْرُ فَانٍ وَاللِّقاءُ مُسَوِّفِي
لَمْ أَخْلُ مِنْ حَسَدٍ عَلَيْكَ فَلا تُضِعْ سَهَرِي بتَشْنِيعِ الْخَيَالِ الْمُرجِفِ
وَاسْأَلْ نُجُومَ اللَّيْلِ هَلْ زَارَ الْكَرَى...
أعيدي!
وَاسْأَلْ نُجُومَ اللَّيْلِ هَلْ زَارَ الْكَرَى جَفْنِي وَكَيْفَ يَزُورُ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ
لَا غَرْوَ إِنْ شَحَّتْ بِغُمْضِ جُفُونِها عَيْنِي وَسَحَّتْ بِالدُّمُوعِ الذُّرَّفِ
أعيدي
لَا غَرْوَ إِنْ شَحَّتْ بِغُمْضِ جُفُونِها عَيْنِي وَسَحَّتْ بِالدُّمُوعِ الذُّرَّفِ
وَبِما جَرَى فِي مَوْقِفِ التَّوْدِيعِ مِنْ أَلَمِ النَّوَى شَاهَدْتُ هَوْلَ الْمَوْقِفِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْلٌ لَدَيْكَ فَعِدْ بِه أَمَلي وَمَاطِلْ إِنْ وَعَدْتَ وَلَا تَفِ
أحسنتِ، حيُّوا مريم! مع الأسف، في المحاضرة السابقة طردنا الطلاب جميعا! حظوظ، حظوظ، ما شاء الله، ما شاء الله! بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم، اذهبوا إلى رحمة الله! قد فازت مريم بخمس درجات، هذا مسك الختام!
دكتور، هل يمكن أن ننافس فيها في المحاضرة القادمة، أن ننافس فيها مع التقطيع؟
لا؛ فمعنا قصيدة ثانية ننافس فيها، فقد اتفقنا أن تكونا اثنتين.
وهذه خلاص؟
نعم، خلاص!
مع التقطيع أستطيع أن أنافس فيها!
نافس في الثانية.
ما هي؟
"نُعِدُّ الْمَشْرَفيَّةَ وَالعَوَالِي".
إن شاء الله!
إن شاء الله!
نديم العروضيين المجلس الحادي والعشرون
سلام عليكم!
وعليكم السلام!
طبتم مساء -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا.
بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاة على رسوله وسلاما، ورضوانا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم!
كيف حالكم، كيف أمسيتم؟
بخير.
بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب! اليوم بمشيئة الرحمن ننتهي من أوزان الشعر لنتفرغ لقوافيه، ننتهي من أوزان الشعر بإكمال تحليل "قلبي يحدثني"، لمولانا أبي حفص سلطان العاشقين، ثم الانتقال إلى ما بعدها. كنا قد فرغنا من "قلبي يحدثني"، قراءة وتعليقا وإقراء، واليوم نحللها عروضيا. نكتب بيتي أول هذه القصيدة هكذا حريصين على تدقيق الإملاء والتشكيل تمهيدا لتدقيق اللحن، ونستفيد من تلوين الألوان. بسم الله!
قلبي يحدثني بأنك متلفي روحي فداك عرفت أم لم تعرفي
لم أقض حق هواك إن كنت الذي لم أقض فيه أسل ومثلي لم يسل
أسألكم: كيف يقول لرب العالمين حبيبه: عرفت أم لم تعرف؟ أمن الأدب أن يقول هذا؟ ماذا سمينا هذا؟
المواربة.
سميناه التمويه. هذا الإملاء مهما كان يكفينا أن يكون صحيحا واضحا حتى نستطيع أن نضيف التشكيل.
قَلْبِي يُحَدِّثُنِي بِأَنَّكَ مُتْلِفِى...
دون زحزحة حركة عن موضعها.
رُوحِي فِدَاكَ عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَعْرِفِ
لَمْ أَقْضِ حَقَّ هَوَاكَ إِنْ كُنْتُ الَّذِي لَمْ أَقْضِ فِيهِ أَسًى
نضع فتحة على السين، لا على الألف.
... وَمِثْلِيَ مَنْ يَفِي
هذا هو، بقي أن نلحن. ماذا فعلنا؟ ضبطنا اللغة، وعبرنا عن ضبطنا لها بحسن الإملاء وحسن التشكيل، أم كيف نعبر؟ هل في يدنا غير هذا؟ في التسجيل نؤدي، الآن على تسجيل أحمد يظهر للناس عندما يستمعون أننا قد ضبطنا اللغة، لكن كيف يظهر على الورقة؟ بضبط الإملاء والتشكيل. الآن نلحن. لابد من أن نتفق على لحن، واللحن هنا لطيف جدا أليف جدا، حتى إذا ما حاولتم أن تنظموا من الشعر أول محاولاتكم نظمتم من هذا اللحن، من أجل قربه منكم، وألفته! اسمعوا!
قَلْبِي يُحَدْ| دِثُنِي بِأَنْـ| ـنَكَ مُتْلِفِى| رُوحِي فِدَا| كَ عَرَفْتَ أَمْ| لَمْ تَعْرِفِ
لَمْ أَقْضِ حَقْـ| ـقَ هَوَاكَ إِنْ| كُنْتُ الَّذِي| لَمْ أَقْضِ فِيـ| ـهِ أَسًى وَمِثْـ| ـلِيَ مَنْ يَفِي
شيء هكذا نعرفه من قبل أن نعرف الأشياء، كأنهم من طبيعة الممارسات اليومية.
قَلْبِي يُحَدْ| دِثُنِي بِأَنْـ| ـنَكَ مُتْلِفِى| رُوحِي فِدَا| كَ عَرَفْتَ أَمْ| لَمْ تَعْرِفِ
لَمْ أَقْضِ حَقْـ| ـقَ هَوَاكَ إِنْ| كُنْتُ الَّذِي| لَمْ أَقْضِ فِيـ| ـهِ أَسًى وَمِثْـ| ـلِيَ مَنْ يَفِي
شيء سهل جدا، لطيف جدا. كيف ننزل هذا الصفحة؟ بالكتابة، بالخطوط، نستعمل لونا آخر، الأخضر، الأحمر، ونغني للخطوط غنائها الخاص.
هذا الأداء الذي أؤديه غناء، لا كلام عادي، لا خطابة، هذا غناء، درجة من درجات الغناء، ليس الغناء هو مقصورا على المغنين الذين يذهبون بالغناء إلى سماء الطرب. هذا كذلك غناء. وكان سيدنا معاوية -رضي الله عنه!- يطرب للإنشاد أكثر مما يطرب للغناء، والإنشاد غناء. كان يطرب لهذه الدرجة أكثر ما يقرب للدرجة المبالِغة.
قَلْبِي يُحَدْ| دِثُنِي بِأَنْـ| ـنَكَ مُتْلِفِى| رُوحِي فِدَا| كَ عَرَفْتَ أَمْ| لَمْ تَعْرِفِ
غناء
لَمْ أَقْضِ حَقْـ| ـقَ هَوَاكَ إِنْ| كُنْتُ الَّذِي| لَمْ أَقْضِ فِيـ|
بعد الياء، قبل الهاء:
ـهِ أَسًى وَمِثْـ| ـلِيَ مَنْ يَفِي
غناء:
"تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلَهُ إِنَّ الْغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ...
... مِضْمَارُ.
... مِضْمَارُ"، تجري فيه مبدعا ومنشدا ومحللا. نعود إلى الأحمر، "والحُسْن أحمر"، "والعَوْد أحمد"! تستطيع أن تعزف، أو أن تنسق على زفراتك معًا هكذا من الأول:
قَلْبِي يُحَدْ| دِثُنِي بِأَنْـ| ـنَكَ مُتْلِفِى| رُوحِي فِدَا| كَ عَرَفْتَ أَمْ| لَمْ تَعْرِفِ
دن دن ددن| دددن ددن| دددن ددن| دن دن ددن| دددن ددن| دن دن ددن
لَمْ أَقْضِ حَقْـ| ـقَ هَوَاكَ إِنْ| كُنْتُ الَّذِي| لَمْ أَقْضِ فِيـ| ـهِ أَسًى وَمِثْـ| ـلِيَ مَنْ يَفِي
دن دن ددن| دددن ددن| دن دن ددن| دن دن ددن| دددن ددن| دددن ددن
مرتين.
المعري.
ها!
معلقة عنترة
أحسنت! ماذا يقول؟
هل غادر الشعراء من متردم...
"هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ"!
واستطاع في هذه القصيدة أن يعبر عن حركة الحرب:
"فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ ثِيَابَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ"!
هذا عنترة أبو الفوارس الذي تمنى رؤيته الرسول -صلى الله عليه، وسلم!- في بعض مضعَّف الروايات، لكننا نستفيد من هذه الرواية حرصه على مكارم الأخلاق، وهو الذي قابل ابنة حاتم الطائي، وعفا عنها، وقال لها: "إِنَّ أَبَاكِ كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ"! وهو الذي قال في حِلْف الفضول: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ"! كان يحب مكارم الأخلاق، مهما كان صاحبها! وعنترة هو الذي يقول قبل الإسلام: "وَأَغُضُّ طَرْفِيَ..."، كما أمرنا ربنا -سبحانه!-:
"وَأَغُضُّ طَرْفِيَ إِنْ بَدَتْ لِيَ جَارَتِي حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا"!
وهو من الكامل كذلك، تأملوا:
"دن دن دن، متْفاعلْ، مضمرة مقطوعة"، صورة أخرى من "متفاعلن"، أُضمرت فيها التفعيلة وقُطعت. صورة من بيت الكامل، ناجحة كذلك، لكن صورتنا اليوم أنجح، ويكفيها شرفا أن منها المعلقة، وأشرف البحور بحور المعلقات! في المعلقات الطويل، وفيها البسيط، وفيها الكامل، وفيها الوفر، وفيها الخفيف، وليس فيها غير هذا، هذا هو، معلقة امرئ القيس وزهير وطرفة من الطويل، ومعلقة عمرو من الوافر -وسيأتي- ومعلقة عنترة من الكامل، ومعلقة الحارث من الخفيف، ومعلقة الأعشى عند القائلين بالعشر، من البسيط، ومعلقة عبيد من مخلع البسيط، بقيت واحدة، نسينا معلقة لبيد من الكامل:
"عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَا"!
لدينا إذن معلقتان من الكامل!
عَفَتِ الدِّيَا
رُ مَحَلُّهَا
فَمُقَامُهَا
بِمِنًى تَأَبْـ
ـبَدَ غَوْلُهَا
فَرِجَامُهَا
هذه التي منها البيت الذي سجد له الفرزدق؛ قالوا: ما هذا أبا فراس! قال: أنتم تعرفون سجدات القرآن، وأنا أعرف سجدات الشعر، وهذا موضع سجدة! وسجد! ما البيت الذي سجد له الفرزدق؟ بيت معجز حقا:
"وَجَلَا السُّيُولُ عَنِ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَا أَقْلَامُهَا"!
أي نزل المطر، فلمع الأطلال، نظفها، فصارت تلمع كأنها صحف كانت مكتوبة، وذهبَتِ الكتابة، ثم عدت تجدد الكتابة بقلم، تمر على الحروف بقلم:
"وَجَلَا السُّيُولُ عَنِ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَا أَقْلَامُهَا"!
فسجد الفرزدق لهذا البيت من معلقة سيدنا لَبِيد أحد كبار الشعراء، الذي أدرك الإسلام، فأسلم، فلما دعوه إلى الإنشاد من شعره بعد الإسلام قرأ عليهم سورة البقرة، يقصد أنه قد اكتفى بالقرآن الكريم، وأعلم الناس بالقرآن الشعراء؛ فلما دعوه إلى أن ينشد من شعره قرأ عليهم سورة البقرة؛ لهذا انتهى شعره بالقرآن: لماذا أقول عندي القرآن! هذا لبيد، ومعلقته ثمانية وثمانون بيتا، منتهى الروعة، احفظوا المعلقات -يا جماعة!- كنا نحفظها قديما، احفظوا القصائد المهمة: المعلقات، والمذهبات، والمجمهرات، احفظوا هذه الأشياء؛ فهي ذخيرة تنفع عند الحاجة كما ترون! نعود، ها أنتم أولاء ترون الكامل متربعا على عرش الشعر العربي، مع الطويل والبسيط والوافر، يربي عليها أحيانا، وينقص عنها أحيانا، ويساويها أحيانا، كما ترون. إلى أين وصلنا؟ "وَاسْأَلْ"، ها، هيا اسألوا معنا!
الله، الله! فيكم طرب، وفيكم وناسة! هذا شيء بديع، يا سلام! كلام جميل، أداء جميل، متعة، تتنزل علينا الآن أرواح الشعراء، تملأ علينا المكان أُنْسًا! طيب، ما قافية البيت الأول؟
لَمْ تَعْرِفِ.
"لَمْ تَعْرِفِ"، خطأ! تسرعت! وبهذا تضيع الدرجات! "لَـ(مْ) تَـ(عْ)ـرِفِ(ي)"، ثلاثة سواكن، ولا نريد غير ساكنين! الصواب إذن "تَعْرِفِ"، الأول العين الساكنة، والثاني الياء غير المكتوبة، بينهما الراء المكسورة والفاء المكسورة، وقبلهما التاء المفتوحة، فالقافية إذن في ضربة واحدة "تَعْرِفِ"، وقد استقلت بها كلمة، وإذا استقلت بها كلمة أو استقلت هي بكلمة، تميزت، ورفعت رأسها، وقالت: ها أنا ذي؛ إن القافية من تقول: ها أنا ذي، ليست القافية من تقول: كانت القصائد وكانت الأبيات! ها أنا ذي أمامك، "تعرف"، ها!
مَنْ يَفِي.
من يفي، هل نعتمد على الإيقاع؟ نعم؛ نعتمد حذرين!
مَنْ يَفِي.
ـمُسْرِفِ.
تُسْعِفِ.
ـمُتْلِفِ.
ـمُدْنَفِ.
مُسَوِّفِي.
مُسَوِّفِي؟
ـسَوِّفِي.
ـمُرْجِفِ.
يَعْرِفِ.
ـذُرَّفِ
ـمَوْقِفِ.
لَا تَفِ.
هكذا هكذا، دون أن نتسرع، ولا أن ننخدع بروعة الإيقاع، وإن له لروعة. طيب، ما أقوى المكررات؟
الفاء.
واضح -يا أستاذ!- هذه فائية، والفاء مكسورة، هل قبلها ألف أو واو أو ياء؟
لا.
هل قبل الذي قبلها ألف؟
لا.
فهي إذن مجردة. طيب، هل أُشبعت كسرة الفاء، أو جاءت بدل إشباعها هاء ساكنة، تاء ساكنة، كاف ساكنة، أو متحركة؟
لا.
بل أُشبعت؛ فعندنا مد. من يضيف عبارة البيانات من غير خطأ، من؟ مروة!
هذه القصيدة كاملية الأبيات التامة الصحيحة...
أحسنت، لا، لحظة! هذه القصيدة إذن كاملية الأبيات، التامة، وهذا شيء يحتاج أن نعتني به، لأننا لا نسمعه كثيرا؛ فهذه القصيدة تامة، هذا النمط تام، لأن التفعيلات كلها سواء في السلامة والإضمار، كل تفعيلة من تفعيلات البيت مثل غيرها، يمكنها أن تسلم، ويمكنها أن تُضمر؛ تأملوا مثلا تفعيلات أوائل الأبيات:
وهذه مضمرة.
وهذه سالمة.
وهذه مضمرة.
وهذه سالمة.
وهكذا غيرها، لا فضل لتفعيلة على تفعيلة أخرى، إلا بالتقوى والعمل الصالح، طيب! هذه القصيدة
كاملية الأبيات التامة الصحيحة العروض والضرب.
أحسنت! هذه كذلك تحتاج إلى تنبيه، لأنها كانت تُضمر فتعود إلى السلامة، فتُضمر فتعود، فتُضمر فتعود؛ وإذا كانت التغيير على هذا النحو لم نعبأ به، لم نثبته في البيانات، لأنه عارض، و"العَارِضُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ" -هذه القاعدة فقهية- و"الشَّاذُّ يُؤَكِّدُ القَاعِدَةَ وَلَا يَنْفِيهَا"، لكن نسميه العارض، لن نسميه الشاذ، لأنه ليس بشاذ؛ هو عارض. طيب! هذه القصيدة كاملية الأبيات التامة الصحيحة العروض والضرب، فائية القوافي المكسورة المجردة الموصولة بالياء، ولا تكون هنا إلا مدا. الآن نستطيع أن ننتقل إلى قصيدة المنافسة الأخيرة، آخر المنافسات -ها!- إذا متنا بعد هذا متنا شهداء -إن شاء الله!- نموت ونحن مرتاحو البال! هل قرأتم مقالي عن البنت التي قرأت، وطردتها، ونقصتها، ثم قرأت، وكذا، ونجحت، وكذا؟ كتبت عن إحدى الفتيات -فأنا أكتب عنكم أحيانا؛ أطرب لبعض المواقف، فأكتب!- في مرة طردت البنت، وحذفت من درجاتها، ثم جاءتني تقول: يسلم عليك أبى! يسلم بعد كل هذا العذاب! أعجبني هذا، والله! والله -يا جماعة!- قطعت علي المحاضرة دون استئذان ولا تمهيد، لتقول لي: يسلم عليك أبي! أثرت فيَّ هذه العبارة؛ يسلم علي بعد كل ما فعلته! طردتك مرة، وحذفت من درجاتك مرة! فكتبت عنها مقالًا، لعلكم قرأتموه! فعلقت بنياتي على هذا، قالت لي بنت: هذا ظلم، تحذف من الطلاب، وتطردهم، هذا ظلم، تشردهم، تمنعهم من الاستفادة! قلت لها: اهدئي قليلا؛ هذه منافسة نتفق عليها، وللمنافسة شرطها وحكمها، و"الغُرْمُ بالغُنْمِ"، طلاب يريدون الفائدة ويتحملون الضرر، ويتعلمون أن يصمدوا في المواقف. هى اختيارية لا إجبارية، موافق؟ سيُحذف منك، أو تُطرد، موافق؟ توكلنا على الله! لكن إذا لم تقبلوا المنافسة انتقلنا إلى القراءة العادية المجانية، فقالت: الآن فهمت، لا بأس. أنا أولادي أصلا قليلو الأدب على وجه العموم -بمعنى الجرأة عليّ!- أولادي جميعا قليلو الأدب! سمعت هذه العبارة من أستاذ طب النفسي، فأعجبتني، قال في بثٍّ مُتَلْفَزِ على الفضاء مباشرةً: أنا أبنائي جميعا -ولله الحمد!- قليلو الأدب! ماذا يقصد؟ يقصد أنهم جريئون عليه، يجادلونه في كل شيء، لا يقبلون كلامه هكذا كأنه مقدس، وأنا أولادي -ما شاء الله!- كلهم على هذا النحو؛ أعجبتني الكلمة، ولم أَنْسَهَا للأستاذ الدكتور محمد شعلان أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر! طيب، اسمعوا الكلام الجميل! مِسكُ الختام لاميَّةُ المتنبي أبي الطيب أحمد بن سليمان الجُعْفِيّ، قالوا له: أتنبأت حقا؟ لم يتنبأ، لكن أعجبه هذا، فتركه يشيع في الناس! ارتكوهم يظنون أني تنبأت؛ فهذا أحسن لي عندهم، وأعظم هيبة في النفوس! متنبئ، يمشي في الشوارع متنبئا، ويحضر الندوات متنبئا! أعندك أحسن من هذا!
"مَا رَأَى النَّاسُ ثَانِيَ الْمُتَنَبِّي أَيُّ ثَانٍ يُرَى لِبِكْرِ الزَّمَانِ
عَاشَ فِي عَصْرِهِ نَبِيًّا وَلَكِنْ ظَهَرَتْ مُعْجِزَاتُهُ فِي الْمَعَانِي"!
لو قُدّر لك أن تلقى المتنبي، وتقول له: أتنبأت! أو لو قال لك: أنا أَحْمَدُ النبيّ، يلعب بالكلام، يُورّي بـ"أحمد" الذي بمعنى "أمدح" -وهو اسمه أحمد أصلا، ابن الحسين!- تقول له: من أنت؟ فيقول لك: أنا أَحْمَدُ النبي! يُحيّرك بين تَنَبُّئِه والثناء على النبي -صلى الله عليه، وسلم!- فتقول له: نَبِيّ، ما شاء الله، وما معجزاتك، إن شاء الله؟- لقال لك: هذه اللاميّة إحدى معجزاتي، إذا قرأتُها على الناس تَغيَّرَت أحوالُهم!
نُعِدُّ الْمَشْرَفِيَّةَ، للمتنبي
"نُعِدُّ الْمَشْرَفيَّةَ وَالعَوَالِي وَتَقتُلُنَا الْمَنُونُ بِلَا قِتَالِ
وَنَرْتَبِطُ السَّوَابِقَ مُقْرَبَاتٍ وَمَا يُنْجِينَ مِنْ خَبَبِ اللَّيَالِي
وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوِصَالِ
نَصِيبُكَ فِي حَيَاتِكَ مِنْ حَبِيبٍ نَصِيبُكَ في مَنَامِكَ مِنْ خَيَالِ
رَمَانِي الدَّهْرُ بِالْأَرْزَاءِ حَتَّى فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْني سِهَامٌ تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ
وَهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايَا لِأَنِّيَ مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي
وَهَذَا أَوَّلُ النَّاعِينَ طُرًّا لِأَوَّلِ مَيْتَةٍ فِي ذَا الْجَلَالِ
كَأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يَفْجَعْ بِنَفْسٍ وَلَمْ يَخْطُرْ لِمَخْلُوقٍ بِبَالِ
صَلَاةُ اللهِ خَالِقِنَا حَنُوطٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُكَفَّنِ بِالجَمَالِ"!
"نعد المشرفية والعوالي"، أي نجهز السيوف والرماح، الأسلحة، المشرفية السيوق، والعوالي الرماح -هَلِ انْتَبَهْتُمْ؟- كان المفروضَ أن يقول: نعد المشرفيةَ والعواليَ، لأن المعطوف عن منصوب...
منصوب.
منصوب؛ فأين النصب؟ هذا من ألطف ما يكون من أسلوب الشعر، هذا من ألطف ما يكون في الشعر من خصائصه، أن يطرح النصب عن المنقوص، يقول مثلا: كذا كذا أن أدعو، أين نَصْب "أدعو"؟ هذا من ألطف ما يكون في الشعر. "نعد المشرفية والعوالي"، ومع كل هذا "وتقتلنا المنون بلا قتال"، لا تحتاج إلى أسلحة! "نعد المشرفية والعوالي"، "ونرتبط السوابق"، ما السوابق؟ نرتبط الخيل السريعة، "مقربات"، بجوار البيت، تجهز اللكزس والمرسيدس والرولز رويز، بجوار الباب، للهرب، "وما ينجين من خبب الليالي"، وخبب الليالي أسرع، ماذا تجهز، يا مسكين! من تسابق؟ تسابق العمر! "ومن لم يعشق الدنيا قديما"، نفعل هذا من عشقنا للدنيا، لا حيلة لنا في هذا، "ومن لم يعشق الدنيا قديما"، ما هذا الأسلوب؟
استفهام.
استفهام استنكاري مثلا؟ ومن لم يعشق، هات لي واحدًا لم يعشق الدنيا، "ومن لم يعشق الدنيا قديما"، أعرف أن هذا كله عبث عبث، لكن نفعله، نفعله من عشق الدنيا المتأصل فينا، الذي لا حيلة لنا فيه، "ولكن لا سبيل الوصال" -ههه!- علمتُ زملاءكم لُغْزًا، يقال في منافسات الحفلات، تسأل الحاضرين: من الذي نحبه جميعا، ولا يحب منا أحدا -ها!- من الذي نحبه جميعا، ولا يحب منا أحدا؟
الموت.
الدنيا؛ نحن لا نحب الموت، من يحب الموت! سماه ربنا في كتابه "مصيبة الموت"! "ومن لم يعشق الدنيا قديما"، هات لي واحدا لم يحب الدنيا، حتى الزهاد يعرفون أنه ما من إنسان يموت إلا يندم؛ أما المحسن فيندم أن لم يزدد من الإحسان -كان يريد أن يعيش أكثر!- وأما المسيء فيندم أن لم يعد عن إساءته -كان يتمنى أن يعيش أكثر!- هكذا، "ومن لم يعشق الدنيا قديما ولكن لا سبيل إلى الوصال"! عندنا في اللهجة المصرية مثل كأنه أغنية، يقولون: "كُلِّنَا نْحِبّ الْقَمَرْ وِالْقَمَرْ بِيْحِبِّ مِينْ"! هو هو المشكلة، من يحب، لا يحب أحدً! "ومن لم يعشق الدنيا قديما ولكن لا سبيل إلى الوصال"، "نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال"، من منكم يستطيع أن يمسك بحلمه بعد أن يفيق من النوم؟ من؟
لا أحد!
لا أحد!
"وَلَقَدْ شَرِبْتُ مِنَ الْمُدَامَةِ بِالصَّغِيرِ وَبِالْكَبِيرِ
وَشَرِبْتُ بِالْخَيْلِ الْإِنَاثِ وَبِالْمُطَهَّمَةِ الذُّكُورِ
فَإِذَا سَكِرْتُ فَإِنَّنِى رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ
وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِى رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ"!
كان البدوي إذا ما سكر- عافانا الله من أم الخبائث!- تخيل أنه النعمان بن المنذر في قصر الخَوَرْنَق، أنه دونالد ترامب مثلا في البيت الأبيض -ها، هذا يصلح للخمر!- وإذا ما أفاق عرف أنه البوعزيزي يحترق بنيران الفقر! "نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال"، مرة في إحدى المحاضرات قلت هذا الكلام تعليقا على هذا البيت، فأشار طالب، يطلب الكلام، قال: يا أستاذ، أنا نصيب، وأبي حبيب! اسمه "نصيب حبيب" -إي، والله!- وهذه الأسماء معروفة في عمان، ولكنها عندنا نادرة جدا!
حتى عندنا!
لا، عندكم في عمان عائلات مغرمة بهذه الأسماء: نصيب حبيب، حبيب نصيب، نصيب حبيب! كلها هكذا، يريد الأب أن يقول: هذا نصيبي من الدنيا، ابني هذا نصيبي من الدنيا! "نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال"، أي لا نصيب لك! ثم يشرح: "رماني الدهر بالأرزاء"، ما هي الأرزاء؟
المصائب، النوائب.
المصائب، جمع أم مفرد؟
جمع.
جمع، مفرده...
رَزِيئة.
خطأ!
رَزِيّة.
خطأ!
رُزْء.
رُزْء، جزء أجزاء، رزء أرزاء، يا مساكين، تجري اللغة على إيقاع، كيف تكون رزيئة على أرزاء! مستحيل. اللغة موسيقية، موسيقى، شاعرة، اقرؤوا كتاب العقاد "اللغة الشاعرة"، اكتبوا اسمه "اللغة الشاعرة: مزايا التعبير في اللغة العربية"، واقرؤوه هذا المساء! ستقرؤونه -إن شاء الله!- وستقرؤون معه مقالي الذي سأنبهكم عليه آخر المحاضرة. يقول العقاد: هذه اللغة شاعرة، لماذا؟ لأنها موسيقية، تجري على إيقاع، والعقاد شاعر عالم، عالم كبير، شاعر اختلف فيه الناس؛ فمنهم من رفعه، ومنهم من خفضه، وهذه العبقرية! "رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي -نفسه- في غشاء من نبال"، صرت كأنني أعيش في داخل غرفة من سهام المصائب -تخيل!- صورة تستحق فِلْمًا من أفلام سبيلبيرج، حتى يخرجها للسينما، أنا الآن من المصائف صرت أعيش في غرفة هي نفسها من المصائب! وما النتيجة؟ "فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال"، تكسرت المصائب على المصائب، فماذا أخسر! تخيلوا هذا الشخص يعيش في إطار من المصائب -النبال السهام- ماذا يحدث إذا أصيب بمصيبة جديدة؟ تسقط المصيبة الجديدة على المصائب القديمة، فتكسرت بالاصطدام بها -ما شاء الله!- مصائب يرقق بعضها بعضا، ومصائب يحمينا بعضها من بعض! وما النتيجة؟ "وهان..."، ما الذي هان؟ أين فاعل الفعل "هان"؟
تكسر.
"تكسر" فعل -يا مسكينة!- ها!
سهام.
أين فاعل الفعل "هان"، "هان، يهون"، أين فاعله؟
الدهر.
أين هذا الدهر!
محذوف.
الفاعل لا يحذف، يَظهر أو يَستتر.
مستتر.
مستتر، وتقديره؟
هو.
يعود على؟
الدهر.
أين هذا؟
في البيت الخامس.
وهان الدهر! يا مسكينة، يقول: "وهان فما أبالي بالرزايا"! هان، هان عليّ كل ذلك.
يقصد نفسه.
لا، خطأ؛ يقصد: هان علي حالُ المصاب بالمصائب بعد المصائب! هان علي هذا، نعم؛ فكيف نعرب؟ هان فعل، فاعله ضمير مستتر تقديره "هو" يعود على المفهوم مما سبق؛ ليس له مرجع محدد، وهذه طريفة؛ ينبغي أن يعود الضمير إلى مرجع محدد، لا يجوز أن يعود إلى الدهر، لأنه يتكلم عن الإصابة، أي هانت الإصابة، هان المصاب، أي هان البغي والعدوان والظلم والقهر، هان، هان، فاعل "هان" ضمير مذكر "هو"، لا يقصد هان علي الدهر؛ الدهر زمن، لا، هان علي المصاب نفسه، هان علي ذلك كله، "فما أبالي بالرزايا لأني ما انتفعت بأن أبالي"، هذه الرزايا التي مفردها رَزيئة، لا الأرزاء التي مفردها رُزء -ما شاء الله!- جاءكم المتنبي بالكلمتين كأنه في حصة نحو وصرف يدرس! بالمناسبة كان المتنبي عالما، وكان يستطيع إذا سئل عن شيء أن يقول: لم تقل العرب منه إلا كذا -ما شاء الله!- كان محيطا باللغة؛ فهو إذن أحد علماء العربية، وهذا الذي ينبغي للشعراء، وهو معروف منهم، ولكنه ليس شرطا فيهم! "وهان فما أبالي بالرزايا لأني ما أن دفعت بأن أبالي"، بالَيْتُ مُدّة من الزمن، ثم لم أجد من منفعة في المبالاة، فكففت عنها! "وهذا..." -الذي جاءنا ناعيًا؛ فهو الآن يا جماعة، في مرثية، يرثي إحدى نساء سيف الدولة- "وهذا أول الناعين طُرًّا لأول مَيْتة في ذا الجلال"، هذه أول مرة يأتينا فيها من ينعى إلينا سيدة بهذا الجلال، ما معنى "طرا" هذه؟ جميعا. طيب! "مَيْتة" هذه، ما هي؟ عندنا في العربية "مَوْتة"، و"مِيتة"، و"مَيْتة"، فما فرق ما بينها؟ "مَوْتة"...
اسم مرة.
اسم مرة، أحسنت! و"مِيتة"...
اسم هيئة.
اسم هيئة، و"مَيتة"...، هذه الصعبة، أحسنتم! أنتم أفضل حالا، هذه المجموعة عالية المستوى. "مَوْتة"، اسم مرة، و"مِيتة"، اسم هيئة، و"مَيْتة"...
اسم فاعل.
لا، هي أخت اسم الفاعل!
صفة مشبهة.
صفة مشبهة، وهي مخففة عن "مَيّتَة"، ومن هنا نشأ الإشكال، من أنها مخففة عن مَيِّتَة، مثل ماذا؟ عندكم في العمانية "طَيْبة"، أصلها "طَيِّبة"، تسمون البنت "طَيْبَة" بالتخفيف، على اسم المدينة المنورة، وهي في الأصل "طَيِّبة"، ومثل "هَيْنة" مخففة من "هَيِّنة"، وفي المثل القديم من كلام دُغَةَ المُحَمَّقَة: "هَيْنٌ لَيْنٌ، وَأَوْدَتِ الْعَيْنُ"، "هَيْن" مخفف من "هَيِّن"، و"لَيْن" مخفف من "لَيِّن"، كذلك "مَيْت" من "مَيِّت"، "مَيْتة" من "مَيِّتة". "وهذا أول الناعين طرا لأول ميتة في ذا الجلال"، بمثل هذا الجلال. حينما جاءنا الخبر "كأن الموت لم يفجع بنفس ولم يخطر لمخلوق ببال"، فنحن الآن نعانيه أول معاناة؛ فكيف سيكون الموقف؟ سيكون شديدا جدا، يموت لنا واحد أول ميت، حينما مات رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- لم يصدقوا أنه مات، حتى إن سيدنا عمر شهر سيفه، وقال: مَنْ قَالَ مات ضربت عنقه"! حتى قرأ الآيةَ سيدُنا أبو بكر، رضي الله عنه! -"مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ"؛ صدق الله العظيم!- فعندئذ انهار سيدنا عمر -رضي الله عنه!- وكأن لم يسمعها من قبل! "كأن الموت لم يفجع بنفس -حينما جاءنا خبر وفاة هذه السيدة- ولم يخطر لمخلوق ببال"، ثم يدعو لها دعاء جميلا يرجو أن يكون طيب غسلها، "صلاة الله خالقنا حنوط -ما الحنوط؟ طيب الغسل، يوضع في الغسل- على الوجه المكفن بالجمال"، وجه مكفن بالجمال! هذه إشارة إلى الاستبشار بالحال؛ حينما يموت الشخص، وننظر إلى ملامح، فنجده جميلا وضيئا منيرا مبتسما، نقول هذه أول البشرى، حتى إن بعضنا يقول هذا نصًّا، يخرج المغسِّل يقول لأهل الميت مُطَمْئِنًا: ما شاء الله، وجهه منير، يبتسم، وكذا! ربما كان كما قال، وربما كان على العكس وهو يخدعهم عن الحقيقة المؤلمة! تأملوا صور الموتى والشهداء التي تأتينا، يموت مبتسما إذا مات في قضية حق، يدافع العدو الحقيقي الصهاينة -لعنة الله عليهم!- تأملوا صورهم، يموتون مبتسمين، وتأينا الصور، نرجو أن نحظى بمثل هذا الحال، نسأل الله أن يختم لنا جميعا بخاتمة السعادة! "صلاة الله خالقنا حنوط على الوجه المكفن بالجمال"! وهنا سؤال نؤخره للمنافسة قليلا؛ فمن ينافس على خمس درجات زيادة أو نقصا أو طردا، ولن يجد وقتا آخر يسمع فيه هذا الكلام لأنها المنافسة الأخيرة، في المساء نبدأ درسا جديدا، وما بعده، وهكذا، من؟
دكتور، هذه آخر فرصة؛ فلا تطرد من يخطئ، ولا تنقص منه!
لا، لا؛ هذه منافسة -يا إلهام!- هذه منافسة بشرطها، حتى تتعلموا طوال العمر -إن شاء الله!- أن تكونوا على مستوى المسؤولية؛ إذا دخلت مشروعًا كنت على مستوى المسؤولية، وإلا خرجت منه! مسعود يرجو هذا، ونحن نتيح له أن يشارك، لكن إذا أخطا في نأمة صوت حذفنا منه، أو طردناه؛ و"الشَّرْطُ أَمْلَكُ، عَلَيْكَ أَمْ لَكَ"، ها!
دكتور، هل يمكن أن أقرأها مع التقطيع؟
مع التقطيع؟ لا، أريد أن تؤديها كما أعلمك أداء الشعر، تخلط الأداء، سأتكلم عن الأداءات بعد قليل، بعد صفحات سنأتي إلى إنشاد الشعر كيف يكون، سأعلمكم كيف تنشدون، وأدلكم على طرق إنشاد الشعر على مدار التاريخ، طيب، ها، تفضل!
نُعِدُّ الْمَشْرَفِيَّةَ، للمتنبي
نُعِدُّ الْمَشْرَفيَّةَ وَالعَوَالِي وَتَقتُلُنَا الْمَنُونُ بِلَا قِتَالِ
وَنَرْتَبِطُ السَّوَابِقَ مُقْرَبَاتٍ وَمَا يُنْجِينَ مِنْ خَبَبِ اللَّيَالِي
وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوِصَالِ
نَصِيبُكَ فِي حَيَاتِكَ مِنْ حَبِيبٍ نَصِيبُكَ في مَنَامِكَ مِنْ خَيَالِ
رَمَانِي الدَّهْرُ بِالْأَرْزَاءِ حَتَّى فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْني سِهَامٌ تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ
وَهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايَا لِأَنِّيَ مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي
خطأ، مع السلامة! يجوز أن تقول: لِأنِّي، لا أنكر، لكننا شكلناها؛ هل يجوز أن تحرف الكلام؛ "لِأَنِّيَ"! نحذف إذن خمس درجات.
سأخرج!
لا عبث، هذا العمل جد، كله جد.
مع السلامة!
أحسنت! لا تنسنا من صالح دعائك، حتى نلتقي! "الشرط أملك"، على رغم محبتنا لمسعود، نحب الحق أكثر! ها، من يريد أن يطرد، من جاع على طريقة انتصار، من يريد أن يخرج إلى الغداء؟ من لم يشارك من قبل؟ ها! نورة وعدناها، صحيح، صحيح، طيب! من زمان طويل كأنه السنة، تريد نورة أن تشارك، هيا -يا نورة!- حتى تدركي الغداء! مِن الأول، اسمعوا، اسمعوا ها السمعة!
نُعِدُّ الْمَشْرَفيَّةَ وَالعَوَالِي وَتَقتُلُنَا الْمَنُونُ بِلَا قِتَالِ
وَنَرْتَبِطُ السَّوَابِقَ مُقْرَبَاتٍ وَمَا يُنْجِينَ مِنْ خَبَبِ اللَّيَالِي
وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوِصَالِ
نَصِيبُكَ فِي حَيَاتِكَ مِنْ حَبِيبٍ نَصِيبُكَ في مَنَامِكَ مِنْ خَيَالِ
رَمَانِي الدَّهْرُ بِالْأَرْزَاءِ حَتَّى فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ
فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْني سِهَامٌ تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ
وَهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايَا لِأَنِّيَ مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي
وَهَذَا أَوَّلُ النَّاعِينَ طُرًّا لِأَوَّلِ مَيْتَةٍ فِي ذَا الْجَلَالِ
كَأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يَفْجَعْ بِنَفْسٍ وَلَمْ يَخْطُرْ لِمَخْلُوقٍ بِبَالِ
صَلَاةُ اللهِ خَالِقِنَا حَنُوطٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُكَفَّنِ بِالجَمَالِ
الحمد لله! حوا نورة! نورة سعيدة، تستحقين، خمس درجات، ولا يهمك! أنا سعيد لأنك حصلت عليها يا نورة، لكنني حزين على خروج مسعود، لكنه الشرط، مسكين مسعود! من شعراء العرب من قال بيتا حَكَم على نفسه فيه بأنه مسكين، فسُمِّي مسكينا -وكانوا قديما يسمون الشاعر بأَطْرَفِ ما في شعره!- من يعرفه؟ رَبيعةُ الدَّارِمِيّ، قال:
"أَنَا مِسْكِينٌ لِمَنْ أَنْكَرَنِي وَلِمَنْ يَعْرِفُنِي جِدُّ نَطِقْ"!
ويُروى بالعكس:
"أَنَا مِسْكِينٌ لِمَنْ يَعْرِفُنِي وَلِمَنْ أَنْكَرَنِي جِدُّ نَطِقْ"!
سبحان الله! لكأن الذي غيَّره إنما أراد ذِلّة المؤمن لأخيه المؤمن، ومهما كانت نيته لم يكن ينبغي له أن يُغيّر من نصّ الشاعر! ذكرتُ بهذا البيت بيتا آخر ظريفًا، استشهد به سيبويه على الحال المستغنية بنفسها -لم يُسمّ صاحبه، ثم قيل إنه للغِطْرِيف الهَدّاديّ- هو:
"هَنِيئًا لِأَرْبَابِ الْبُيُوتِ بُيُوتُهُمْ وَلِلْعَزَبِ الْمِسْكِينِ مَا يَتَلَمَّسُ"!
هذا رجل عَزَب وحيد، كأنه حاقد على الأزواج! ها! سنأخذ الآن بيتين من أول لامية المتنبي، مسك الختام هذه، متعة المنتهى، سترون فيها عجبا من العجب. ماذا قال سيدنا، وهو من سادات الشعراء، بسم الله!
نعد المشرفية والعوالي وتقتلنا المنون بلا قتال
ونرتبط السوابق مقربات وما ينجين من خبب الليالي
أي الخيول السابقة، قريبة من الباب، للهروب، دون جدوى مع الأسف، والخبب ضرب من سير الخيول السريع. نطمئن على الإملاء، ثم نضيف التشكيل:
نُعِدُّ الْمَشْرَفيَّةَ وَالعَوَالِي وَتَقتُلُنَا الْمَنُونُ بِلَا قِتَالِ
وَنَرْتَبِطُ السَّوَابِقَ مُقْرَبَاتٍ وَمَا يُنْجِينَ مِنْ خَبَبِ اللَّيَالِي
ونحاول أن نعالج خلط الخط. "الْعَوَالِي" كان المفروض أن تكون "العواليَ"، لكن هذا معروف، و"نرتبط" -فيه مبالغة- لا "نربط"، اللكزس على الباب! هذا الشعر يغني بعضه بعضا، وهذا عجيب جدا أن يستعمل هذا في الرثاء! هذا الذي أردت أن أقوله لكم منذ دقائق: كيف يستعمل هذا الوزن الراقص في الرثاء؟ اسمعوا!
نُعِدُّ الْمَشْـ ـرَفيَّةَ وَالْـ عَوَالِي وَتَقتُلُنَا الْـ ـمَنُونُ بِلَا قِتَالِ
وَنَرْتَبِطُ السْـ ـسوَابِقَ مُقْـ ـرَبَاتٍ وَمَا يُنْجِيـ ـنَ مِنْ خَبَبِ الْـ ـلَيَالِي
معقول هذا -يا أستاذ!- أن ترقص في العزاء! ولكنها حدثت مرة! إي والله! رقص الولد في عزاء عمه الذي قهره طوال حياته، فلما مات رقص في العزاء! هذه الفكرة التفتت إليها الطالبة هبة سعيد، قالت: ولماذا لا نفسر هذا بأنها مشاعر مزيفة؟ لقطة ذكية حقًّا! قلت لها: هذا غير مقبول هنا، لأن المتنبي كان من عشاق سيف الدولة وأهله، بل كان يحب أخت سيف الدولة على ما استنبط محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا، رحمه الله، وطيب ثراه! هؤلاء كانوا كأنهم أمنيته التي تمنى أن يكونها، لا ريب في محبته الخالصة، مستحيل، لا ريب؛ فما حقيقة هذا الأمر، كيف يرثي بوزن راقص؟ حاول أن تفهم بطريقة أخرى! اقترحت أن يكون كأنه أراد أن يشير إلى انقلاب الفرح ترحا مثلا، أي الوقت الذي توقعت أن أفرح فيه حزنت فيه؛ فانظر كيف تحوَّل الوزن السعيد إلى حزين، كما تحول فرحي إلى ترح مثلا، هذا توجيه يضاف إلى توجيه ابنتنا في مكانه، هذا طيب جدا! وهذا معروف عند الموسيقيين كذلك؛ عندنا مثلا الدكتور محمد عبد الوهاب الموسيقار الشهير، لحن أغنيةَ عِيدٍ من مقام الصبا الحزين؛ فعجب الناس: كيف يلحن أغنية سعيدة من مقام حزين! هذه مسألة لا ينتهي الكلام فيها: ما علاقة المقامات بالمعاني، ما علاقة الأوزان بالمعاني؟ ألها بها علاقة؟ أم هذا الكلام عبث خالص! فمن الناس من يقول: لا علاقة، ويحتج بالمعلقات؛ المعلقة واحدة، من وزن واحد، وفيها وقوف على الأطلال ورحلة وصيد وغزل وهجاء...، كل هذا في وزن واحد، فقال: لا علاقة. أنا أرى وجود العلاقة، لكن بطريقة أخرى، علمتكم إياها طوال الفصل، كنت أقول لكم: انتبهوا إلى السرعة والبطء: السرعة عند الفرح، والبطء عند الحزن! فكنت أعلمكم أن توجهوا الإيقاع، إذا احتملت التفعيلة، مثلا هنا ستجدونها أحيانا يجوز أن تكون "ددن دن دن"، وأن تكون "ددن دددن"، فيما سبق كانت هذا وذاك، تتحرك عند الفرح، وتسكن عند الحزن، وهذا ما أستطيع أن أعتمد عليه، إضافة إلى الطول والقصر: عندك بيت طويل، وبيت قصير، عندنا أمور يمكننا أن نمسك بها في هذه المسألة، وهذا من حرصنا على عبقرية العربية، ولا أوافق من يخلون المسألة من المعاني قولا واحدة، أعيد:
يا ربي، راقص حقا! ننزل هذا على الصفحة، نبدأ بالخطوط التي كالسيوف إن لم تقطعها قطعتك، ونغني لها غناء خاصا!
نُعِدُّ الْمَشْـ| ـرَفيَّةَ وَالْـ| عَوَالِي| وَتَقتُلُنَا الْـ| ـمَنُونُ بِلَا| قِتَالِ
وَنَرْتَبِطُ السْـ| ـسوَابِقَ مُقْـ| ـرَبَاتٍ| وَمَا يُنْجِيـ| ـنَ مِنْ خَبَبِ الْـ| ـلَيَالِي
وأستطيع أن أكتب متنفسا، أو أنطق كاتبا:
"أَلَا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا...
نعم؛ صحيح:
"أَلَا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا وَلَا تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا
مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الْحُصَّ فِيهَا إِذَا مَا الْمَاءُ جَاوَرَهَا سَخِينَا"!
ولكنني أردت قول أحد البَكْرِيّين في أثرها:
"أَلْهَى بَنِي تَغْلِبٍ عَنْ كُلِّ مَكْرُمَةٍ قَصِيدَةٌ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومِ
يُفَاخِرُونَ بِهَا مُذْ كَانَ أَوَّلُهُمْ يَا لَلرِّجَالِ لِشِعْرٍ غَيْرِ مَسْؤُومِ"!
لأنها ملأت الدنيا وشغلتها الناس!
وفيها:
"إِذَا بَلَغَ الْفِطَامَ لَنَا رَضِيعٌ تَخِرُّ لَهُ الْجَبَابِرُ سَاجِدِينَا"!
مُفَاعَلْ.
"مُفَاعَلْ"؛ فلابد أن تخرجوها من "مفاعلَتن": سكنا اللام بزحاف العَصْب الخفيف اللطيف، فصارت "مفاعلْتن"، ثم حذفنا "تن" بعلة الحَذْف الشديدة، فهي معصوبة محذوفة، هيأناها أولا بالعَصْب، فشبهناها بـ"مفاعيلن"، و"مفاعيلن" معروف فيها الحذف "مفاعي"، فصارت في النهاية "مُفَاعَلْ"، ومن الناس من ينقلها إلى "فعولن"، ونحن لا ننقل حرصًا على وصل الفرع بالأصل، ما اسم "ددن دن"؟
مُفَاعَلْ.
طيب، ما الذي أصابها؟ العصب والحذف، نعم، ولكنهما معا يسميان "القَطْف"؛ فالتفعيلة مقطوفة، ولولا الالتباس لرمزتُ إليها بالقاف أو الطاء أو الفاء!
ما القطف؟ زحاف وعلة. أي زحاف؟ العصب، وهو خفيف لطيف جدا. وأية علة؟ الحذف. واعلموا أن الزحاف لما تعلَّق بالعلة جرى مجراها، فلزِم. وإذا وضعتم سكونا على لام "مفاعلْتن" كان حسنا، كما فعلتم بتاء "متْفاعلن" المضمرة، والعصب في الوافر هو الإضمار في الكامل: مفاعلْتن/ علْتن مفا (متْفاعلن)! هل فرغنا من هذا؟ عزفناه؟ لا؛ فودعوا العزف -يا جماعة!- ودعوا؛ هذه آخر مرة تفعلون فيها ما جرينا على فعله!
لحظة! من أخطائكم المشهورة أن تؤدوا "ددن دددن"، هكذا "ددن دن دن"، كسلا، وبطئا، لا، حاولوا أن تعالجوا هذا البطء وذاك الكسل، لأنهما يسقطان حركة، ويورطان في تغيير لا حقيقة له.
مَنامِكَ مِنْ ددن دددن، مفاعلتن، سالمة
رحمها الله، وطيب ثراها! لابد أنها كانت عظيمة بحيث استطاعت أن تفجر في شاعرنا هذه المعاني. ما قافية البيت الأول إذن؟
ـتَالِ.
ـتَالِ، أكيد أكيد؟ وهل في هذه خلاف، يا أستاذ! "قيل: عُدَّ غنمك، يا جحا! فقال: واحدة قائمة، واحدة نائمة"! "ـتَالِ": هذه الألف الساكن الأول، وهذه الياء غير المكتوبة الساكن الثاني، بينهما اللام المكسورة، وقبلهما التاء المفتوحة؛ فالقافية إذن "ـتَالِ"، ها!
ـيَالِي.
ـصَالِ.
ـيَالِ.
ـبَالِ.
ـصَالِ.
ـبَالِي.
ـلَالِ.
لَالِي لِي لَالِي!
ـبَالِ.
ـمَالِ.
ما أقوى المكررات؟
اللام.
ما حركتها؟
الكسرة.
هل قبلها ألف أو واو أو ياء؟
ألف.
قبلها ألف؛ فهذه ردف، ولا يجتمع ردف وتأسيس؛ فإذا ما وجدت الردف فانس التأسيس! طيب، ما الذي حدث لكسرة اللام: أأشبعت، أم جاء في موضع إشباعها هاء أو تاء أو كاف؟
أشبعت.
من يضيف عبارة البيانات؟ إلهام، قولي!
هذه القصيدة وافرية الأبيات الوافية...
الوافية طبعا، لأن تفعيلتي العروض والضرب استقلتا بـ"مفاعلْ" هذه التي يستحيل أن تكون في الحشو، ها!
المعصوبة العروض والضرب...
المعصوبة! صحيح أنها معصوبة محذوفة، ولكننا اتفقنا على كلمة تختصر الكلمتين؛ فالمعصوبة المحذوفة مقطوفة، فنقول إذن: المقطوفة العروض والضرب -فهي المعصوبتهما المحذوفتهما!- فرصة ونعمة وغنيمة باردة أن سُمِّي التغييران اسما واحدا؛ هذا أخف وألطف وأحسن، ها!
لامية القوافي المكسورة المردفة بالألف الموصولة بالياء.
هذه القصيدة إذن، وافرية الأبيات الوافية المقطوفة العروض والضرب، لامية القوافي المكسورة المردفة بالألف الموصولة بالياء، جميل جدا، بديع! الآن قبل أن تذهبوا أعرض عليكم إحصائيّة البحور، سريعا سريعا أدلّكم على موضعها لتقرؤوا بها هذا المساء مقالا لي، إن شاء الله! تذهبون إلى موقعي -ما شاء الله! أين هذا؟ يحتاج موقعي إلى جوجل كروم، لأنه ثقيل!- تذهبون، تكتبون في البحث هنا: "رحلة اللغة العربية في بحور الشعر: طرف من تكملة عمل الخليل بن أحمد". أرأيتم قصيدة انتصار -ههه!- ما زالت على هذه الصفحة: "وَااطَرْدِيَاهْ، لانتصار الحربية" -لطيفة!- انظروا إلى مقدار ما حظيت به من قراءات وإعجابات! أقرأتموها؟ اسمعوا: أغراني أستاذي أنا وصاحبتي -تقصد سالمة- فغرينا (انخدعنا)، فأخفقت هي، فَطُرِدنا جميعا، فقلت:
"يقول سعادةُ الدكتور نظمًا طابَ معناهُ
اقرئي يا انتصار! صعبة، ها!
يقول سعادةُ الدكتور نظمًا طابَ معناهُ
ودُرًّا من صميم الفن نَصَّ الشعرُ فحواهُ
فما رأيُ النجيب الفذّ أن يُبدي عطاياهُ
"يبدي" هذه من لغة الشعر!
ويقرأ شعر مجلسنا فيطربنا ونهواهُ
ولكن دونما خطأٍ نُجازِي القولَ أعلاهُ
ولو شان الحصانُ اللفظَ سوَّينا حواياهُ
فإما نَقْصُ مَجْناهُ وإما طَرْدُ مَبناهُ
لِآنٍ زارَنا شَغَفٌ فجازَفْنا وخُضْناهُ
يا لطمع النفس!
طُرِدنا نُصْبَ أعينهم وهذا ما أردناهُ
يا لانخداع نفسها!
فَمُرُّ الحُلْوِ مِن ثمرٍ عذابٌ قد جَرَعناهُ
فما مِن علّةٍ أودت بنا للطرد أَوّاهُ
فمِن بحرٍ وأغرَقنا ووزنٍ قد أضعناهُ
أمِن فتحٍ بغير الوعي أهوينا كسَرناهُ
أَضَمٌّ يعتلي حرفًا بلا ذنبٍ فتحناهُ
تَحوَّل طَيْفُ بُغْيتنا سرابًا قد ظَمِئناهُ
سنأتي مِن غدٍ أَمًلًا على حُلُمٍ شَعَلْناهُ
أوَعيدٌ هذا!
بِجَهْدِ النفس للعلياء مِن صخرٍ أَذَبْناهُ"!
انظروا إلى الإعجابات -عدد كبير هذا!- وإلى الدخول، هذا مقدار أكثر مما تحظى به مقالاتنا -ما شاء الله!- شعبية! وأنا -يا جماعة!- أنشر للطلاب على موقعي؛ فهذا مثلا مقال لمروة البطرانية، من أكثر المقالات انتشارا -تأملوا!- ولا يتقدم إلى هنا إلا ما أثبتُّه أنا أو ما زاد على غيره انتشارا، هذا نظام الموقع، لا يبقى في هذا الموضع إلا ما أُثبته على الصفحة -ولم أثبت غير منشورَيْن فقط- وإلا ما كثرت قراءاته. طيب! نذهب إلى مقالي "رحلة اللغة العربية في بحور الشعر". هذا عمل صعب -انتبهوا!- وستقرؤونه هذا المساء -إن شاء الله!- ألقيته في مؤتمر "الخليل عبقري العربية"، وهذا أنا في الصورة على المنصة؟
أين كان هذا المؤتمر، يا دكتور؟
في جامعة القاهرة. وهذا الذي عن يميني أستاذي الدكتور أحمد كشك الذي كان هنا قديما رئيسا للقسم، وهذا الذي عن يمينه أستاذي الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف الذي دعي إلى هنا أكثر من مرة في بعض الأعمال العلمية. وكلمتي هذه مسجلة، لكن أين الكلمة؟ لا، هذه مسجلة، نريدها مكتوبة. هذه هي المكتوبة، سأمر عليها سريعا -إن شاء الله!- لكيلا تتأخروا أكثر، هذا سيدنا الخليل بن أحمد -صورة متخيلة له-: السلام عليك، يا أبا عبد الرحمن! هل سلمتم عليه؟
السلام عليك، يا أبا عبد الرحمن!
وعليكم السلام -يا أبنائي!- ورحمة الله وبركاته، حياكم الله، وأحيانا بكم! كان هذا المقال مباركًا ببركة سيدنا الخليل -ولله الحمد!- ألقيته في أكثر من مكان، في الصين، وفي بلادنا، وقبلته مجلة سيارة لا تقبل أي شيء، ما الذي فيه؟ ذهبت إلى الموسوعة الشعرية التي صدرت عن مجمع أبي ظبي الثقافي، وفيها هذا المقدار من القصائد -انظروا!- فيها 114234 قصيدة، عدد كبير! وُزِّعت هذه القصائد على هذه الاثني عشر عصرا: ما قبل الإسلام، المخضرمون، الإسلامي، الأموي، ما بين الدولتين، العباسي، الفاطمي، المغرب والأندلس، الأيوبي، المملوكي، العثماني، الحديث- ولو كنت المصنِّف ما فعلت هذا؛ فأنا أحب تصنيف الشعر على المذاهب الفنية لا العصور السياسية، لكنه الذي حدث، وقد خضعت له، ولكنني تأذيت ببعض الأخطاء التي كنت أرجو ألا تقع -ألا يعرفون أهمية ما فعلوا، أوَلا يعرفون مبلغ حاجتنا إليه! لو عرفوا ما قبلوا أن يقع خطأ واحد!- وقد قلَّبت هذه الموسوعة على كل جانب، فمرة قسمتُ القصائد على العصور، ومرة رتبتُ مقادير الاستعمالات على العصور: فهذا مثلا عصر طويل بقصائد كثيرة، وهذا عصر طويل بقصائد قليلة، وهذا عصر قصير بقصائد قليلة، وهذا عصر قصير بقصائد كثيرة- ومرة قسمت البحور على العصور؛ فعندنا فيما قبل الإسلام مثلا اثنا عشر بحرا فقط، وفي كذاك كذا...، وهكذا، فوائد كثيرة. ثم قسمتُها على وجه العموم: فوجدت الطويل في المرتبة الأولى، قد تسنَّم الذروة -ووقع في العصور كلها- تلاه الكامل لا البسيط كما كنا نظن -ووقع في العصور كلها- فالبسيط -ووقع في العصور كلها- فالوافر -ووقع في العصور كلها- فالخفيف -ووقع في العصور كلها- فالسريع -ووقع في العصور كلها- فالرجز -ووقع في العصور كلها- فالمتقارب -ووقع في العصور كلها- فالرمل -ووقع في العصور كلها- فالمنسرح -ووقع في العصور كلها- فالمجتث -وخلا منه عصر- فالهزج -وخلا منه عصر- فالمديد -وخلا منه عصر- فالمتدارك -وخلت منه أعصُر- فالمقتضب -وخلت منه أعصُر- وفي الآخر يستقر المضارع، وخلت منه أعصر!
تقدَّم المتدارك على المقتضب والمضارع!
أحسنت الانتباه! وأنا الآن خاضع للموسوعة -وإن أخطأت!- لا لرأيي؛ فلا عمل لي بها، غير أنني استبعدت منها شعر العامية -ومن الجهل خلط شعر الفصحى فيها بشعر العامية!- والشعر الموشح، لجناية خَرْجَتِه العامية أو الأعجمية عليه! ثم قلت: "لا تخفى مراتب الستة عشر بحرا الخليلية بعضها من بعض، بل قد انتبه إلى كثير من ذلك الخليلُ بن أحمد، ونبه عليه بدوائره المرتبة على وفق نسبة شيوع البحور؛ فقد قَدَّم دائرة المختلف ليدور فيها الطويل والمديد والبسيط، ثم ثَنَّى بدائرة المؤتلف ليدور فيها الوافر والكامل، ثم ثَلَّث بدائرة المجتلب ليدور فيها الهزج والرجز والرمل، ورَبَّع بدائرة المشتبه ليدور فيها السريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث، ثم خَمَّس بدائرة المتفق ليدور فيها المتقارب والمتدارك. ولو اطلع الخليلُ بن أحمد -اسمعوا!- على ما كان بعده -متى مات الخليل؟ عام 175 الهجري؛ وبيننا وبينه مئات من الأعوام، تغيرت فيها البلاد ومن عليها!- لربما قدم دائرة المشتبه بتقدم الخفيف والسريع على وجه العموم، على دائرة المجتلب بتأخر الرجز والرمل! ثم إننا نستطيع الآن أن نصنف الستة عشر بحرا الخليليةَ، على طبقتين: في الطبقة الأولى بحور لم يخل منها عصر، وهي عشرة: الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر، والخفيف، والسريع، والرجز، والمتقارب، والرمل، والمنسرح. وفي الطبقة الثانية بحور خلا منها بعض العصور، وهي ستة: المجتث، والهزج، والمديد، والمتدارك، والمقتضب، والمضارع. لِنُنَوِّهَ بما ثبت لبحور الطبقة الأولى دون أبحر الطبقة الثانية، من ملاءمة إيقاعية حيوية مستمرة- ثم بما كان من استغناء الشعراء بها أحيانا عن أبحر الطبقة الثانية"، ثم فصَّلتُ ذلك كله في المقال؛ أريدكم هذا المساء أن تقرؤوه كله؛ بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته!
وسوم: العدد 1106