نديم العروضيين المجلس الرابع والعشرون الأخير

سلام عليكم!

طبتم مساء _يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا!

بسم الله _سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاة على رسوله وسلامًا، ورضوانًا على صحابته وتابعيهم، حتى نلقاهم!

كيف حالكم؟ كيف أمسيتم؟

بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب! هذا لقاؤنا الأخير، هذه الدنيا "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" -صدق الله العظيم!- لهذا ينبغي للأذكياء ألا يتعلقوا بالفاني، بل بالباقي؛ ما الذي يبقى منا بعد أن نتفرق؟ تبقى ذكريات الأعمال الطيبة، "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ" -صدق الله العظيم!- نسأل الحق -سبحانه، وتعالى!- أن ييسر لنا ولكم، ويوفقنا إلى أن نترك ذكرًا طيبًا، لسان صدق في العالمين، آمين -"وَالذِّكْرُ لِلْإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ"، كما قال أمير الشعراء؛ تظل به خالدًا مدى الزمان- آمين، يا رب العالمين! الآن ينبغي أن نتكلم في أنواع القافية، لننتقل إلى إنشادها، والكلام في أنواعها معروف لديكم؛ فإذا سألتك أن تُنوِّع القافية لم أنتظر منك إلا أن تذكر مثل هذا النصف الثاني من "بطاقة التخريج العروضي": "القصيدةُ طَوِيليَّةُ الأبياتِ الوافيةِ المقبوضةِ العروضِ والضربِ، عَيْنيَّةُ القوافي المفتوحةِ المُجَرَّدةِ الموصولةِ بالألف"! أتذكرون ما قلناه في "أُمَّتي"، قصيدة عمر أبو ريشة:

"أُمَّتِي هَلْ لَكِ بَيْنَ الْأُمَمِ مِنْبَرٌ لِلسَّيْفِ أَوْ لِلْقَلَمِ"؟

قلنا: ميمية مكسورة مجردة موصولة بالياء، لا أريد في نوع قافيتها غير هذه البيانات. وسأسألك كما تعرف، وقد أرسلت إليكم نموذج اختبار نهائي.

رأيناه.

حين أسألك كما رأيت في هذا النموذج الذي أرسلته إليكم فيما أرسلت، أن تذكر نوع القافية- لا أريد إلا أن تذكر الجزء الثاني من البيانات التي في "بطاقة التخريج العروضي". طيب! وهكذا نُنوِّع القافية (ننسبها إلى نوعها)، بتحديد روي القافية، ماذا كنا نفعل؟ كنا نذهب إلى قلب القافية (رويها)، ننسبها إليه، فنقول مثلا: ميمية أو عينية...، أو مقصورة، ثم إلى حركة الروي المتحرك أو سكونه، فنقول: مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة أو ساكنة، أو مقصورة- ثم إلى ما قبله، فنقول: مجردة، أو مردفة بواو المد أو يائه، أو واو اللين أو يائه، أو واو المد ويائه، أو واو اللين ويائه، يحدث هذا كما في الجمع بين "يَبِينَا"، و"يَعُونَا"، وبين "أينَا" و"بونَا"، يجوز هذا مع ذاك، أو مؤسسة -ولن تؤسس إلا بالألف- ثم إلى ما بعده، فنقول: موصولة بالألف أو الواو أو الياء أو الهاء الساكنة أو الهاء المفتوحة أو المضمومة أو المكسورة، على وفق عبارة أسفل "بطاقة التخريج العروضي"، تُنوَّع القافية، أي يُذْكر نوعها. حينما أسألك: نَوِّع كذا، فالمراد: انسبه إلى النوع، هذا معناه في العربية. هذا إذن نوع القافية، وقد تدربنا عليه عشرات المرات، فإذا ما سألتك ذكرت هذا فيما يخص البيت المعين، وسنطبق على الاختبار بعد قليل، طيب! الآن ننتقل إلى إنشاد القافية، وهذه مسألة عويصة؛ فانتبهوا! كلمة إنشاد معناها غناء، الإنشاد درجة من الغناء، ترفع صوتك، تُلونه، تُغني -معي، يا جماعة!- وسنتكلم الآن عن إنشاد القافية؛ ولكن كيف تُنشد القافية؟ ألها وحدها إنشاد؟ أم هذا من المجاز؟ فإن المنشد إذا أنشد الشعر أنشده كله وزنا وقافية! لقد نقلت لكم هنا عبارة سيبويه في "الكتاب"، ووقفت عندها حريصًا عليها. متى قال هذه العبارة؟ قالها في كتابه الذي نسميه "قرآن النحو"، بعقب فراغه من وجوه الوقف في النثر؛ فانظروا إلى ذكائه: بعد أن فَرَغَ من تبيين وجوه الوقف في النثر، انتقل إلى ما سماه "إنشاد القافية"، أي إلى الوقف في الشعر. ما موضع الوقف في الشعر؟ على آخر البيت؛ كل ما قبل الآخر اجتهاد منك أما سنة الشعراء في الوقف على البيت فمثل سنة رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- في الوقف على الآية من القرآن الكريم؛ أين يكون؟ على رأس الآية، لكنك في الداخل تجتهد؛ حتى إن لبعض الناس "وُقُوفًا (جمع وَقف)" غريبة! كان في لِيبية قارئ قرآن بهر الناس بوُقوفه، حتى أثارهم على نفسه، اسمه الهِبْطِيّ، دعاني علي بن خَيّال، إلى الإشراف عليه في دراستها للدكتوراة بقسم النحو والصرف من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة. وهذا طالب ليبي نجيب، جاءني بزيه الليبي البهيّ، ثم جلس به في حلقة بحث القسم، مطمئنا في داره بين أهله، راسخ الإيمان بالحق -سبحانه، وتعالى!- ظاهر الثقة بنفسه -عرفت فيما بعد أنه من خطباء الثورة- فارتحت له، ووقفت أقول: أنا أتعصب لهذا الشاب! فكُرِهَتْ مني هذه الكلمة، وقيل لي: احذر أن تُفهم خطأً!  وقد حصل على الدكتوراة في دراسة هذه الوقوف الهبطية الاجتهادية الغريبة العجيبة، التي تنوعت بها مباني القرآن ومعانيه- بمرتبة الشرف الأولى، وحُقَّ له! هذه الوقف في النثر، والقرآن يُدرَج عادةً في النثر، وإن ميزه منه بعض الناس، فذكر أن الكلام عربي نثر وشعر وقرآن، فرُدَّ عليهم قولهم بأن القران نثر، أثبت له الحق -سبحانه، وتعالى!- أنه كلام عربي -"بلسان عربي مبين"؛ صدق الله العظيم!- ونفى عنه أن يكون شعرا؛ فلزم بمقتضى المنطق أن يكون نثرا. المهم أن سنة الوقف في القرآن أن يكون على رؤوس الآيات: "الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين (...)" وهكذا، طيب! حينما فرغ سيبويه من وقوف النثر انتقل إلى وقف الشعر، وسماه إنشاد القافية -سبحان الله!- فنبهنا من طرف خفي، على أنه ينبغي على أن يؤدي الشعر إنشادا، لا على مثل أداء النثر، وإلا سمّاه وقف القافية؛ لماذا لم يسمه وقف القافية؟ كأنه يشير من طرف خفي إلى أنه ينبغي أن يؤدى الشعر أداء خاصا، لا كأداء النثر، وهكذا كانوا يفعلون؛ عندي نُقُول كثيرة عن القدماء والمحدثين، نشرتها على موقعي، فادخلوه، واكتبوا في البحث كلمة "إنشاد" فقط، يخرج لكم من هذه النُّقُول مثلًا قول الأصفهاني في "الأغاني": "قَالَ الزُّبَيْرُ: حَدَّثَتْنِي ظَبْيَةُ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدَبٍ يُنْشِدُ زَوْجِي قَوْلَ قَيْسِ بْنِ ذَرِيحٍ:

إِذَا ذُكِرَتْ لُبْنَى تَأَوَّهَ وَاشْتَكَى تَأَوُّهَ مَحْمُومٍ عَلَيْهِ الْبَلَابِلُ

يَبِيتُ وَيُضْحِي تَحْتَ ظِلِّ مَنِيَّةٍ وَفِي الْحُبِّ شُغْلُ لِلْمُحِبِّينَ شَاغِلُ

فَصَاحَ زَوْجِي: أَوَّهْ! وَا حَرَبَاهْ! وَا سَلَبَاهْ! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ جُنْدَبٍ، فَقَالَ: وَيْلَكَ! أَتُنْشِدُ هَذَا هَكَذَا! قَالَ: فَكَيْفَ أُنْشِدُهُ؟ قَالَ: لِمَ لَا تَتَأَوَّهُ كَمَا يَتَأَوَّهُ، وَتَشْتَكِي كَمَا يَشْتَكِي"! أرأيتم؟ ينبهه على طريقة الإنشاد، وهو أقدم من سيبويه! ومن المعروف عن مهلهل أنه كان يغني شعره، يبدو أنه رُزِقَ صوتا جميلا، هذه الزير سالم، أتعرفونه؟

نعم.

هذا الذي قال فيه الفرزدق:

"وَهَبَ الْقَصَائِدَ لِي النَّوَابِغُ إِذْ مَضَوْا وَأَبو يَزِيدَ وَذُو الْقُرُوحِ وَجَرْوَلُ

وَالْفَحْلُ عَلْقَمَةُ الَّذِي كَانَتْ لَهُ حُلَلُ الْمُلُوكِ كَلَامُهُ لَا يُنْحَلُ

وَأَخُو بَنِي قَيْسٍ وَهُنَّ قَتَلْنَهُ وَمُهَلْهِلُ الشُّعَراءِ ذَاكَ الْأَوَّلُ"!

معروف عنه أنه كان يغني شعره!

والأعشى؟

نعم، كان لجَرْسِ شعره يسمى صَنَّاجَة العرب، ولا يُستبعد أن يكون له ذوق في الأداء. طيب،  ما وجوه الوقف التي تكلم عنها سيبويه في النثر؟ عندنا وقف بهاء السكت: تقرأ قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ" -صدق الله العظيم!- وتقول: لِمَهْ؟ وإن لم يمتنع عليك أن تقول: لِمْ؟ ولكنك أردت إصلاح اللفظ وتمكين الأداء؛ فحافظت على فتحة الميم واعتمدت في الوقف على إضافة هاء تسمى هاء السَّكْت (السكوت). وعندنا وقف بالإسكان، تقول: جاء محمدْ، لا جاء محمدٌ، تقف بالإسكان. عندنا وقف بالنقل -وهو معروف عندكم في أهل ولاية إزكي، من محافظة الداخلية، اسمعوا الدكتور زاهرًا الداوديَّ يقول: جاء جابُرْ؛ من أين جاء بـ"جَابُرْ" هذه، من أين جاءت؟ أنا أظن أنها من نقل ضمة الراء إلى الباء، وهذا الوقف بالنقل، وهو معروف من قديم الزمان؛ فبدلا من "جَاءَ جَابِرٌ"، قال: "جَاءَ جَابُرْ"، فسكن الراء، ونقل الضمة وكأنه يريد أن يدل على أن الكلمة مرفوعة، وليس هذا بكلامي، ها هو ذا منصوصا عليه أمامي، "الوقف بالنقل، أي بنقل الحركة إلى ما قبلها"، وقد بقي؛ ومن أين جئنا أنا وأنتم أصلا؟ ألسنا أبناء العرب!

بلى.

طيب، من أين جاء كلامنا هذا؟ قد تطور -نعم- ولكنه منه. طيب! عندنا وقف بالحذف، نبه عليه سيبويه كذلك، كما في قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "لِكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينْ" -صدق الله العظيم!-  أي "دِينِي"، حذفت الياء، وقفت بالحذف. عندنا وقف بالتضعيف بدلا من "جَاءَ مُحَمَّدْ"، تقول: جَاءَ مُحَمَّدّ، تشدد الدال، كأنك تريد أن تظهرها أكثر مما هي، وهذا عندنا في بعض اللهجات الشمالية؛ فتشوا في لهجاتكم! من عشرات السنين أذكر -وما زلت أذكر!- أنني ركبت مرة حافلة متنقلا بين قرى مدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ من شمال مصر، فسمعت فتاة تقول لصاحبتها: خُدِيّ، لا خُدِي، كما يقول القاهريون وكثير غيرهم مثلا، ثم قالت وكأنها إنما تَفَكَّهَتْ بمشابهة غيرها: زَيّ السَّنَاهْرَة -تقصد أهل قرية سَنْهُور، كما تقولون لأهل مسقط: مساقطة!- فوقفت بالتشديد، على تلك الطريقة العربية القديمة، ولعلكم تجدونها في لهجاتكم! عندنا وقف بالرَّوم، وهذا معروف في تلاوة القرآن الكريم، أي "أَنْ تَرُومَ الْحَرَكَةَ وَلَا تُتِمَّهَا"، تقول: جاء محمدُ، بضمة كالقلقلة الخفية. وعندنا وقف بالإشمام، وهو معروف كذلك في قراءة القرآن، أي "أَنْ تُشِمَّ الْحَرْفَ رَائِحَةَ الْحَرَكَةِ"، تقول: جَاءَ مُحَمَّدْ، فتقف بتسكين الدال، وتهيئ شفتين لنطق الضمة، لا تنطقها أصلا، بل ترسم بها شفتيك؛ ولهذا سُمِّي الإشمام! عندنا وقف بالبدل -وهو معروف- تقول: جَاءَتْ فَاطِمَهْ، أين التاء؟ أُبدلت هاء؛ ولهذا تسمى هاء التأنيث، كما سبق في نص المعري. وفي هذا الوقف عجائب، منها عندكم الكشكشة: مَالِشْ، أَخْبَارِشْ، أَحْوَالِشْ، شِيَّابِشْ، وِلَادِشْ، إلى آخر هذه الكشكشات، من طريقة قول مجنون ليلى:

"فَعَيْنَاشِ عَيْنَاهَا وَجِيدُشِ جِيدُهَا سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْشِ دَقِيقُ"!

وهي في نجد كسكسة، يقلبون سينًا ما تقلبونه شينًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! هذا هو البدل، فهل تبدلونه في غير الوقف؟ أصل هذا ألا يكون إلا في الوقف، تمييزا لمخاطبة المؤنث من مخاطبة المذكر. ولا يخفى عنكم أن بعض هذه الوجوه الوقفية في الفصحى واللهجات جميعا معا، وبعضه في اللهجات دون الفصحى؛ فما نجح مما في اللهجات دخل الفصحى، وما أخفق بقي في اللهجات فقط؛ فمما نجح فدخل الفصحى إبدال تاء التأنيث في الوقف هاء، ومما لم ينجح فبقي في اللهجات إبدال كاف المخاطَبة عند الوقف عليها، شينا في الأزدية العمانية، وسينا في التميمية النجدية! طيب! ماذا فعل سيبويه بعد هذا كله؟ انتقل إلى وقف القافية، وسماه "إنشاد القافية"؛ فوجب أن نستنبط من فعله أنه يريد لنا ألا نتكلم على العادة، فنقول مثلا:

"قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلٍ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلْ"!

بتسكين الكلمة عند الوقف، وكأننا نقرأ كلام الجرائد! هذا شعر -يا أخي!- ما هكذا يؤدى الشعر! ومن ثم يعلمنا في "إنشاد القافية"، يعلمنا طرائق العرب في أداء الشعر، ها، قل، يا أستاذ، قل، يا أبا عثمان -وكنيته أبو عثمان، والتكنية تكريم!- فيقول: "أولها الترنم" -يقفون بالترنم- كيف يترنمون، يا أستاذ؟ علمنا! كانوا يضيفون واوًا أو ياء أو نونا في مواضع لا تُخْرِج البيت عن الوزن، كما في قول جرير، الذي صار أم هذا الباب:

أَقِلّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابَا وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا"!

ففي النثر تؤديه: ... لَقَدْ أَصَابْ، تقف بالإسكان (التسكين)، وفي الشعر تؤديه كما أثبته لك في البيت، تحرك وتشبع فتقول: ... لَقَدْ أَصَابَا، ما هذه الألف؟ ألف الترنم. ولو كان في موضع "أصابا"، كلمة "مُصَاب" مثلا، أو كلمة "يُصَاب"- لقلت عند النصب: ... مُصَابَا، أو يُصَابَا -وهذه ألف الترنم- وعند الرفع: ... مُصَابُـ(و)، أو يُصَابُـ(و) -وهذه واو الترنم- وعند الجر: ... مُصَابِـ(ي) -وهذه ياء الترنم- مثلما يجوز لك أن تقول في ذلك كله: ... أَصَابَنْ، ... مُصَابَنْ، ... مُصَابُنْ، ... مُصَابِنْ، ... يُصَابَنْ، ... يُصَابُنْ، وهذه نون الترنم! لم نسمع شيئا من هذا، لا أنا ولا أنتم -نعم- ولكننا تلقينا عن سيبويه الثقة الذي لم نعهد عليه كذبًا؛ فنحن نروي عنه وكأننا الذين سمعناه.

أليست هذه نون التوكيد؟

لا، لا نتكلم عن نون التوكيد، تلتبس بها أحيانا، وليست إياها؛ فأنا أتكلم على وجه العموم، وهل تلحق نون التوكيد الفعل الماضي والاسم! لا تلحق إلا الفعل المضارع أولا فعل الأمر. اسمعوا يا جماعة، نعم!

هل ينكسر الوزن إذا وضعنا نونا بدل الألف؟

لا، اسمع:

وَقُولِي إِنْ ددن دن دن، مفاعلْتن، معصوبة

ما زلنا في إطار الوزن، لكن انتظر؛ سيأتيك عمل يخرجنا من إطار الوزن، يسميه الغُلُوّ، والغُلُوّ كاسمه بشع، سميناه الغلو لنكرهه لا لنحبه! ما الغُلُو؟ تأمل! هو بالنون كذلك، أو الواو لمستحق الضم، أو الياء لمستحق الكسر، تحريكًا لسكون الروي، وإشباعا يُخرِج البيت عن الوزن. كيف؟ تقول في مثل "إذا الشعب يومًا أراد الحياة":

"إِذَا الشَّعْبُ يَوْمًا أَرَادَ الْحَيَاةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرُ"!

"فَيُولَدُ فِي قَلْبِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَحْمِلُ فِي شَفَتَيْهِ ضَرِيحَهُـ(و)"!

خرج من الوزن، سبحان الله! يخرج من الوزن بواو مد -انتبهوا إلى التدقيق!- فالتعدي بالألف أو الواو أو الياء، ولا نون هنا؛ كانت النون معهنّ في الترنم من داخل الوزن، وفي الغُلُو من خارج الوزن! وعندنا وقف أدخله في إنشاد القافية وسماه الوقف النثري! أتخيل أن مؤدي الشعر عندئذ رجل لا يعرف أن ما يؤديه شعر؛ فهو يؤديه مثلما يؤدي النثر! أحيانا تقرأ مقالة يأتيك فيها بيت لا تدري أنه بيت -ولاسيما على الإنترنت الذي تدخل فيها الكلمات بعضها بجوار بعض ولا تتميز لك فتظن أن هذا داخلٌ في العبارة- فتقرؤه فيقول لك المستمع: انتظر؛ هذا بيت! أديته على طريقة النثر. أو يستشهد ببيت مثلا، يوصيك بأخيك:

"أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ"!

يؤديه دون رعاية وزنه اشتغالا عنه بأداء رسالته، أو يقول لك مثلا:

"أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ"!

يا أخي، حرام عليك! يا أخي، ما يصح لك، مَا يِجُوزِلَّكْ! هذا إذا اجتهد أوصل الرسالة، لكن أين موسيقى الوزن؟ لا موسيقى، لا يعرف أنه شعر أصلا، الوقف النثري. طيب، هل يجوز أن يسمى هذا إنشاد القافية؟ الأول فقط هو الذي يجوز أن يسمى هذا الاسم، كل ما بعد الأول خروج أو عدم مراعاة؛ فلماذا جمع هذا؟ قد عمَّم  الكلام، طرد الباب على وتيرة واحدة، سماه إنشاد القافية، وأدخل فيه ما لا يستحق أن يسمى إنشادا. وهنا أتذكر كلمة لابن جني في الخصائص -أتعرفون ابن جني؟ هذا أبو الفتح عثمان، كان شيئا كبيرا جدا، كان أديبا عالما كبيرا، وهو من رواة شعر المتنبي، شاعر وراوية شاعر؛ هل تنتظرون أن يقبل أن يؤدى الشعر أداء نثريا؟ لا يقبل- ميز فيها بين أداء الطِّرَاب (الناس الطروبين  للشعر)، وأداء الجُفاة (القساة)، ميز بين أداء ناس لا يعرفون الموسيقى، لا يعرفون عروض الشعر، يسميهم الجفاة الفصحاء، أي القساة الذين يحرصون على اللغة ولا يعبؤون بالموسيقى، فيقولون مثلا:

"قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلٍ  بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلْ"!

خرَّب لك الشعر تخريبا، ضيع لك الإنشاد، في حين ينبغي للشعر أن يُنشد؛ فكما يُجوَّد القرآن، ويُخطب بالنثر، ينبغي أن ينشد الشعر! حتى إذا ما ألقيته بين الكلام عرفه الناس. في رحلة سيد قطب إلى أمريكا قبل أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، حلت الجمعة على  السفينة -سافروا بالسفينة- فخطبهم -هو من كليتي أصلا، تخرج سنة ثلاث وثلاثين ، وتتلمذ على الأدباء ولاسيما العقاد، وجاءته فرصة للسفر إلى أمريكا فسافر- من الذي يستطيع أن يخطب الناس سواه؟ فقام، فخطب، وبعد الخطبة جاءته امرأة أمريكية تقريبا تقول له: سمعت في كلامك كلاما ليس كسائر الكلام -تقصد القرآن الكريم- ما هذا؟ أتظنون أنها فصيحة تميز القرآن من سائر الكلام العربي! لا؛ يبدو أنه جَوّده في الخطبة كما يفعل العُويدي في خطبة الجمعة هنا في الجامعة -كلما جاءت آية جَوّدَها- كذلك تفعل كلما جاء بيت، تنشده حتى ينتبه المستمعون كما انتبهت هذه السيدة إلى القرآن الكريم؛ فإن لم تفعل قتلت الشعر؛ فالشعر ينبغي أن ينشد! والآن أستطيع أن أعلق تعليقا عاما من فوق، على مسار الشعر العربي وما كان للإنشاد فيه من شأن. هل عندكم كتب في الإنشاد؟ لا طبعا! عندنا كتب تقليدية وغير تقليدية، عندنا كتاب تقليدي لشاعر جبار كان راوية يشبهونه بالأصمعي، هو الأستاذ علي الجندي، واسم كتابه "الشعراء وإنشاد الشعر"، وكثير من اللطائف التي ذكرتها لكم في المحاضرات أو بعضها استفدته من هذا الكتاب: أتذكرون مثلا ما حدثكم به عن المتنبي من أنه لم يكن ينشد إلا قاعدًا؟ استفدته من هذا الكتاب! أولا تذكرون ما حدثتكم به عن البحتري من أنه كان إذا أنشد مشى بين الصفوف يتمايل ويقول: ألا تسمعون، ألا تطربون! استفدته من هذا الكتاب! كان الأستاذ علي الجندي هذا المشبه بالأصمعي، شريفا من آل البيت -تنطق الجُنْدِيّ في اللهجة المصرية الجِنْدِي!- عميدا في زمانه العزيز لكليتنا دار العلوم من جامعة القاهرة، كان الناس منبهرين به، يجلس يروي لهم الكتب والدواوين رواية، وكتابه هذا "الشعراء وإنشاد الشعر"، كتاب لطيف، يُقرأ في جلسة. وقد خاض الدكتور إبراهيم أنيس كذلك في إنشاد الشعر، أظنه فعل هذا في كتابه "موسيقى الشعر". وكذلك خاض في إنشاد الشعر الدكتور عبد الله الطيب المجذوب، في كتابه النفيس "المرشد إلى أشعار العرب وصناعتها" -أحب لكم أن تعثروا عليه، وتقرؤوه- الذي قال فيه أخونا الدكتور محمود الريامي على تويتر: كتاب كنت أتمنى أن أكون صاحبه! وهو في خمسة أجزاء لن تجدوه منها في المكتبة إلا ثلاثة، لكنه على الإنترنت -إن شاء الله!- مجانا، كتاب جبار، درس صاحبه في أوربّة، وكان يحفظ شعر شكسبير، كما يحفظ شعر المتنبي تماما! وقد أعانه على ذلك زواجه من إنجليزية -لا ريب، ههه!- رأيتها، وجلست معها، وقد أسلمت، وحسن إسلامها، فتنسكت، وتزهدت! مات عنها، وانقطعت بعده للعبادة، لا يراها الناس إلا عابدة -وللصوفية في السودان صولة- وأخونا في القسم الدكتور عمر صديق ابن أخت الدكتور عبد الله الطيب المجذوب؛ فاذهبوا إليه يحدثكم عنه -هذه فرصة طيبة- وقولوا له نصا: حدثنا عن خالك الشيطان عبد الله المجذوب! وسيفرح  كثيرا جدا!

وإن غضب فسنقول له...

لا، سيفرح، أنا متأكد من أنه سيفرح، لأنه حزين لعدم تكريم هذا الرجل التكريم المناسب. طيب، إذا أطللنا على إنشاد الشعر من فوق وجدنا أربع طرائق لا خامس لها: من الناس من يؤدي الشعر أداء عروضيًّا كما يفعل كثير من العمانيين في أداء الشعر:

أَمِنْ تَذَكْـ

ـكُرِ جِيـ

ـرَانٍ بِذِي

سَلَمِ

مَزَجْتَ دَمْـ

ـعًا جَرَى

مِنْ مُقْلَةٍ

بِدَمِ

أتذكرون مسعودًا حينما طلبنا منه أن يقرأ، فقال: أتسمح لي أن أقرأ بالتقطيع؟ يريد أن يقرأ قراءة عمانية، بالتقطيع، فقلت له: لا، أخِّر التقطيع؛ سيأتي! فكان النهاية أن طُرد من المكان!

ههه!

لربما لو كنا أتحنا له أن يقرأ بالتقطيع لم يُطرَد! الطريقة الثانية الأداء اللغوي، يحاول أن يوصل إليك الرسالة دون موسيقى العروض، يقول:

"أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ"!

يا راجل، حرام عليك! لابد من هذه الإضافة! ما اسم هذا الأداء؟ الأداء اللغوي؛ ماذا تريد به؟ أن توصل الرسالة فقط دون مراعاة الموسيقى العروضية. ثم يأتينا أداء خال لا يعرف صاحبه ماذا يؤدي، كما إذا دخل إلى الحمام -سامحوني!- فوجد كلاما على الجدار ككلام الطلاب الذي يعلقون به على الأساتذة، أو شعرا، فيقرأ يفك الخط كما يقولون، أنا مثلا أجعل أقرأ ولا أدري أنه شعر، أقرا أية قراءة، ولو سجلت لي هذه القراءة لرأيتها أداءً خاليا من المعنى ومن المبنى ومن الموسيقى العروضية، فلم أفهم بعد، ولا أعرف ما هذا؟ أقرأ أحاول أن أفك الخط، وفي فك الخط هذا لا أعرف معنى أؤديه، ولا أعرف عروضًا أُغَنِّيه؛ فهذا هو الأداء...

الجاف.

الخالي -أتسميه الجاف؟ لا بأس- ليس فيه لا قصد لغة ولا قصد عروض. لكن ما الأداء الأمثل؟ الممتزج الذي تدربنا عليه طوال الفصل، كنا نؤدي أداء ممتزجا، نحاول  أن نوصل الرسالة من غير أن ننسى الموسيقى، هذا الذي ينبغي أن نفعله ونتمسك به. تتحرجون منه أحيانا؛ كلما أوصيتُكم تحرجتم، تتحرجون أن تنبهوا عليه الناس: دعونا نقرأ على العادة -يا أخي!- لا داعي إلى خرق العادة، لكيلا يُنتبه إلينا، لكيلا يُنظر إلينا، لكيلا يُسخر منا! يحتاج هذا الأداء إلى قوة، وإلى مجازفات، وإلى مغامرات، وهذا قليل في الناس؛ العادة أن نجري مجرى الناس، لكيلا يفهمنا الناس خطأ: ما لهذا يتكبر علينا، لأمر ما يؤدي هذا الأداء! تلمذت لي طالبة منقبة، سميتها المذيعة، كانت تؤدي أداء باهرا، حضرت معي لقاء آخر غير لقائها، فقدمتها للقراءة، فاستثقلها الطلاب، وأساؤوا إليها -وهذا من سوء الأدب-: لماذا تتدلل علينا وتتفاخر؟ فأحيانا يخشى بعض الناس أن يُفهموا خطأ أنهم يتكبرون، ويفرضون أنفسهم على الناس، فيهربون من هذا، يستخفون بالعادة، يستترون بالتقاليد البالية، لكنهم في الأصل متميزون -تمام؟- ننتقل إلى  محاسن القافية. أتذكرون قولي لكم: إنما سمى الخليل ما سمى، لأنه سيحاسب عليه الشاعر، فيُحسّن أو يُقبِّح؟ أتذكرون قولي لكم: لم يكن الخليل يسمي من أجزاء القافية إلا ما سيحاسب عليه الشاعر؛ فلم يسم كذا لأنه لن يحاسب عليه الشاعر، له أن يفعل به ما شاء؟ الحروف والحركات التي سماها الخليل من القافية هي التي سيحاسب عليها، فيقول له: أحسنت أو أسأت، ووُفِّقْت أو أخفقت! أليس كذلك؟ لهذا ينبغي لنا أن نتكلم عن محاسن القافية وعن مساويها؛ فهذا فصل في مكانه؛ يقال ينبغي أن نتكلم عن محاسن القافية. يقال: محاسن، فما مفرد محاسن؟

حسنة.

المفروض في مفرد "محاسن"، أن يكون "مَحْسَنًا"، لكن لم يستعمل، فمفرده من غير صيغته "حُسْن" -لم يقل العرب "مَحْسَنًا" هذه، لا نعرفها- استغنوا عن الصيغة المفروضة بصيغة أخرى. كذلك "مساويها"، مفردها "سُوء"، أختها ضدها، "والضد يظهر حسنها الضد"، "وبضدها تتميز الأشياء"! لكنهم لا ينطقون فيها الهمزة -يا أمل!- لا يقولون: مساوئ -عجيب هذا!- في الفصيحة لا ينطقون همزة "مساوئ"، ومنه قولهم في المثل: "الخَيْلُ تَجْرِي عَلَى مَسَاوِيهَا"، لا يقولون: "على مساوئها"  -خطأ!- كيف وهي في الأصل همزة! خُفِّفَتْ، وثبت التخفيف، وانتهى، ونجح، ورسّخ نفسه! حتى لقد اختبرني فيها محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا، رحمه الله وطيب ثراه! كنت عنده في البيت، فقال لي: كيف تقول العرب: "الْخَيْلُ تَجْرِي عَلَى..."؟ فقلت: على مساويها. فقال: ما معناه؟ يختبرني لأنني متخصص للأمثال، لي فيها كتاب كبير، كتبته في حياته، وكنت أعرض عليه منه ولي الفخر، أعرض على هذا الجبل الشامخ، فكان يعجبه الشيء ويرفض الشيء -سقى الله ذلك الزمان!- يقول كيف تقول؟ فأقول: كذا، فيقول: ماذا فهمت من العبارة؟ فأقول ما يطمئن به على أنني جدير بما أعمل. حرصا على التزام قواعدها فيما يكون ما لا يكون، وفنياتها جميعا معا- ينبغي للقافية أن تكون كذا كذا، وقد أوردت لكم الأشياء زوجين زوجين، الحسن بإزائه السوء: "يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فَصِيحَةً لَا عَيِيَّة، ومُحْكَمَةً لَا مُسْتَدْعَاةً، وَمُسْتَقِلَّةً لَا مُتَعَلِّقَةً، وَمُوَافِقَةً لَا مُخَالِفَةً". "أن تكون فصيحة لا عيية"، ماذا تقصد بالفصيحة؟ ما الفصاحة عندكم؟ ما الكلام الفصيح؟ درستم البلاغة على الدكتور إحسان، ها!

لم ندرس بعد.

ستدرسون عليه -إن شاء الله!- وهو في نفسه فصيح أصلا، طليق -ما شاء الله- كنت في مستمعيه في الزمان الأول، قبل أن يعين في الجامعة، حينما كنت هنا قديما، جاء حتى نختبره، فحاضرنا، فقلت: هذا ممتاز؛ فعُين بحمد الله. وكنت بحمد الله كذلك في ترقيته إلى أستاذ مشارك، ووفقنا إلى أن يُرقى، وهذا صعب في جامعة السلطان قابوس، الترقيات صعبة على العمانيين أكثر من غير العمانيين! طيب! نعود، ما الفصاحة عندكم كما ستتعلمون -إن شاء الله!- على الدكتور إحسان؟ الوضوح، الفصاحة...

الوضوح.

فقط، هذا أصلها. والبلاغة... الوصول، الفصاحة الوضوح والبلاغة الوصول. كلامك واضح؛ فهو إذن فصيح- وواصل؛ فهو إذن بليغ، تمام؟ كيف تكون القافية فصيحة؟ بأن تكون واضحة الصوت. هل يجوز أن تشتمل القافية على صوت لا يصل إلى السمع؟ كيف والقافية تاج البيت وزينته وأظهر ما فيه للسمع وأبقى، حتى إنكم لتتذكرونها دون البيت، تنطق أخيرا وتذكر أولا- كيف! لابد أن يحرص الشاعر على أن يكوِّن قافيته من أصوات واضحة. والأصوات في العربية من حيث الإسماع طبقات، بعضها أقوى من بعض، وقد رتبها بحسب قُوَى إسماعها الدكتور عبد الرحمن أيوب، في كتابه "أصوات اللغة" -وعبد الرحمن أيوب هذا من رواد علم اللغة الحديث، درس في الأزهر ثم في دار العلوم ثم في لندن، وتقلَّبت به أحوال الاجتهاد، وبقيت له منها كتبٌ تستحق القراءة- ترتيبا طريفا، على ست مراتب: الأولى عديمة الإسماع -وهي الانحباسية المهموسة، ومنها الكاف والطاء والتاء والقاف- والثانية أحادية قوة الإسماع -وهي الانحباسية المجهورة، ومنها الدال والباء- والثالثة ثنائية قوى الإسماع -وهي الاحتكاكية المهموسة، ومنها الفاء والحاء والسين والثاء والصاد والخاء- والرابعة ثلاثية قوى الإسماع -وهي الاحتكاكية المجهورة، ومنها الزاء والعين والغين- والخامسة رباعية قوى الإسماع -وهي الأنفية والجانبية والترددية المجهورات، ومنها الراء والميم واللام والنون- والسادسة خماسية قوى الإسماع، وهي الفموية المجهورة الحرة الانطلاق أو المعترَضة دون احتكاك، ومنها الألف. ولا يخفى أن الحركات والمدود من الطبقة العليا، تليها حروف الذلاقة، وتظل الأصوات تتهاوى حتى تخلو من الإسماع! هل حدثتكم عن الذُّلُل والنُّفُر والحُوش؟

نعم.

أضيفوها إلى هذه، لتجتمع لكم طريقة المعري القديمة وطريقة عبد الرحمن أيوب الحديثة. وينبغي للشاعر أن يختار أصوات قافيته من أقوى الأصوات إسماعا. هل حدثتكم عن ابن أبي الزوائد وقوله: "هَذِهِ الذَّالُ فَاسْمَعُوهَا"؟

نعم.

وليس الذال من المرتبة الأولى؛ لقد تعمد أن يأتي بها هكذا من باب التحدي؛ فإن الحرف إذا ضعُف إسماعه قلّ استعماله، وإذا قوِي إسماعه كثُر استعماله، أوْ لا تدري -سبحان الله!- ربما كثُر استعمالُه فقوي، وقلَّ فضعُف! يكفيكم أن تعرفوا أنها علاقات متداخلة، وأنه ينبغي أن تكون القافية فصيحة لا عيية. تأملوا قول محمد الفيتوري الشاعر السوداني الكبير:

"نَحْنُ الَّذِينَ نَقْطُرُ الضَّوْءَ بِأَجْفَانِ الرِّمَمْ

يَا كَمْ تَكَحَّلْنَا بِلَيْلٍ وَتَدَثَّرْنَا بِهَمّْ

وَكَمْ مَشَيْنَا فَوْقَ شَوْكِ الْيَأْسِ مِنْ نَجْمٍ لِنَجْمْ"!

القافية ميمية -والميم حرف ذلول، وصوت ذلق- لكن هل سمعتموه في "لِنَجْمْ"؟ لا طبعا؛ عاقنا دونها الجيم، جاء بالجيم قبلها ساكنة، فقطع الطريق! معقول هذا -يا أستاذ!- هذا عيب بشع، لا نستطيع أن ننطق؛ كأنه أغلق الباب قبل الميم، هذا عِيّ وضعف بيان، فلان عَيِيٌّ، والذي هو فيه عِيٌّ! طيب! وكذلك ينبغي أن تكون القافية "محكمة لا مستدعاة" -والكلام هنا عن الكلمة التي تحمل القافية- ما الإحكام؟ من الحكمة؛ فما الحكمة لديكم؟ ومن الحكيم؟

وضع الشيء في موضعه.

أحسنت! هكذا الحكمة قطعا، وضع الشيء في موضعه، وصاحبها الحكيم -قد أجبت من الآخر- وضع الشيء في موضعه مهما كان هذا الشيء: يأكل في موعد الأكل -ههه!- ينام في موعد النوم، يذاكر في موعد المذاكرة، يزور الناس في موعد الزيارة- أما الذي يفعل ذلك في غير مواعده فهو طائش، لا حكيم! ما الحكمة إذن؟ وضع الشيء في موضعه، وسيأتي رمضان، وسنرى كيف تفعلون؛ ستتجلى الحكمة في رمضان، ستنامون طوال النهار، وتسهرون طوال الليل، ويقول الواحد منكم لصاحبه: يا أخي، أنا برنامج عملي ينقلب في رمضان رأسا لعقب! أنت المصيبة أصلا عندك؛ الناس تقاتل في رمضان، وتنتصر في رمضان، وتنجز في رمضان، وأنت تنام في رمضان! طيب! أحيانا ينخدع الشاعر، ولا ينتبه، فينتهي البيت قبل الآخر، بقيت كلمة، ماذا يفعل؟ القصيدة كلها من هذا الطول، ويأتيه بيت ينتهي قبل الآخر، هل يدعه أعرج هكذا، لابد أن يساويه بغيره؛ فماذا يفعل؟ يستدعي، والاستدعاء عكس الحكمة، عكس الإحكام، الاستدعاء في القافية عكس الإحكام، كيف يستدعي؟ يذكر أي شيء، أي شيء يكمل به البيت، كما قال الحطيئة:

"أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ...

انتهى البيت، النأي النأي...، يا رب، يا رب، ألهمني -يا رب- كلمة أكمل بها البيت، فقال:

"أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ"!

والبعد هو النأي؛ فوقع، والتقطها عليه النقاد، وسلخوه بها؛ ولكل ساقطة لاقطة لا يكتم ولا يرحم! سأحكي لكم حكاية ألطف من هذه، عن عبد الصمد بن المعذَّل، الشاعر العباسي الهجاء المعروف. كان يحب جارية لأحد أعيان البصرة، اسمها متيَّم، هكذا بالتذكير على طريقة العمانيين الذين يسمون الفتاة رَيّان، وهو مذكر، مؤنثه ريا -!- أو على طريقة بعض أهلي من المصريين، الذين سموا ابنتهم ألمى، فقلت لهم: ألمى مذكر، مؤنثه لمياء، فقالوا: إنما سميناها ألمى ومعناه جوهر الماس، على اسم بطلة المسلسل التركي! ولم تكن مُتيَّم تخرج من بيت سيدها إلا متنقِّبة، ثم حدثت حادثة، فكأنها هي وحدها التي شهدتها؛ فقد احتاج القاضي ابن عبيد الله بن الحسن بن الحر العنبري إلى حضورها وشهادتها: تعالَيْ، فتكلمي بما تعرفين! واضطرها إلى أن تُسْفِر (تُنَحِّي عن وجهها النقاب) -هذا هو الدِّين، والرجل قاضٍ فاضل- فتسامع بالأمر أصحاب عبد الصمد الشياطين، فلما لقوه قالوا له: لو رأيت متيم وقد أسفرها القاضي لرأيت شيئا حسنا لم يُر مثله! فجُنَّ جُنونُه: رآها القاضي، ولم أرها! ثم قال:

"وَلَمَّا سَرَتْ عَنْهَا الْقِنَاعَ مُتَيَّمٌ  تَرَوَّحَ مِنْهَا الْعَنْبَرِيُّ مُتَيَّمَا

رَأَى ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ وَهْوَ مُحَكَّمٌ عَلَيْهَا لَهَا طَرْفًا عَلَيْهِ مُحَكَّمَا

وَكَانَ قَدِيمًا كَالِحَ الْوَجْهِ عَابِسًا فَلَمَّا رَأَى مِنْهَا السُّفُورَ تَبَسَّمَا

فَإِنْ يَصْبُ قَلْبُ الْعَنْبَرِيِّ فَقَبْلَهُ صَبَا بِالْيَتَامَى قَلْبُ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَا"!

ومن يحيى بن أكثم؟ هذا قاضي القضاة (وزير العدل)! ما حملك على أن تذكره في شعرك؟ حكم القافية، فضح وزير العدل من أجل تكملة بيت! انتشر الشعر كأخبار الفضائيات الصفراء، وبلغ قاضي القضاة في بغداد، فأرسل إليه: "عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ! أَيَّ شَيْءٍ أَرَدتَّ مِنِّي حَتَّى أَتَانِي شِعْرُكَ مِنَ الْبَصْرَةِ؟ فَقَالَ لِرَسُولِهِ: قُلْ لَهُ: مُتَيَّمُ أَقْعَدَتْكَ عَلَى طَرِيقِ الْقَافِيَةِ"! أي لما نظمت الشعر على طريقة "...مُتَيَّمَا، ...مُتَيَّمَا، ...مُتَيَّمَا"، قلت: يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَا! وهذا عندي على موقعي بعنوان "جناية القافية"، فقد جنت عليه القافية -وفي المثل القديم "عَلَى أَهْلِهَا جَنَتْ بَرَاقِشُ"!- على أهلها جنت القافية؛ ذكر اسم وزير العدل (قاضي القضاة)، من أجل أن  يكمل البيت! فيا جماعة، اكتمل البيت إذن من قبل أن تأتي كلمة القافية، فاضطر الشاعر إلى إضافة كلمة، ربما زادت المعنى، وربما أفسدته، وربما ورطته كما رأيتم -تمام؟- لهذا نصح أبو تمام للبحتري تلميذه -كان البحتري في أولته شاعرا حرا هكذا، يطلب الشعر كيفما اتفق، بحسب التيسير، ثم عرف أبا تمام، هكذا يقول، فعلمه الشعر: افعل كذا، ولا تفعل كذا! بل علَّمَه كيف يأكل، وكيف ينام! انظروا إلى الأستاذ! فلما درس عليه انتقل شعره انتقالة واسعة- قال له: "انْصِبِ الْقَافِيَةَ لِلْبَيْتِ"! أي ارفعها قبل أن تذهب إليها لتراها فتذهب إليها على بينة! -ما النَّصب؟ الرفع!- إذا رأيت الغاية مشيت إليها على بينة، تقول في ذهنك: سأقول في الآخر كذا، وتسبك البيت بحيث تصبُّ في النهاية المحكمة. وعلى موقعي نصيحة أبي تمام هذه لأبي عبادة البحتري، ينصحه في برنامج يومه: افعل كذا وكذا، خفف الأكل، قم في السحر، إذا أردت أن تمدح فافعل كذا، وإذا أردت أن تتغزل فافعل كذا! من يفعل مثل هذا هذه الايام؟ طيب! وينبغي القافية كذلك أن تكون "مستقلة لا متعلقة"، ماذا تقصد يا أستاذ؟ أقصد أن يكتمل البيت، وألا تتعلق كلمة القافية فيه بالبيت الذي بعده، حتى نُمكِّن الراوي من أن يستشهد بالبيت. يا جماعة، تتهم القصيدة العربية بعدم الوحدة الموضوعية، وهذا اتهام ظالم، لم يفهموا القصيدة العربية؛ فردوا عليهم إذن بهذا الكلام، قولوا: في القصيدة العربية القديمة، لكل بيت استقلاله في نفسه وعلاقته بغيره، هذا هو المثال الذي تسعى إليه القصيدة العربية القديمة. أما علاقته بغيره فمن أجل أن تقنعك الأبيات بأنها قصيدة واحدة لا عدة قصائد، وأما استقلاله في نفسه فمن أجل أن يُمكِّن الراوي من أن يستشهد به وحده، تقول مثلا:

"كُلَّمَا أَنْبَتَ الزَّمَانُ قَنَاةُ رَكَّبَ الْمَرْءُ فِي الْقَنَاةِ سِنَانَا"!

من أين جئت بهذا البيت؟ جئت به من قصيدة المتنبي. كيف انتزعته منها وحده؟ لأن له استقلالًا في نفسه، إضافة إلى علاقته بغيره، هو في مكانه، لكنه له استقلال في نفسه -جميل!- فإذا كان هكذا كان حسنا، وإلّا كان قبيحا، وفي القبح درجات، هناك قبيح، وأقبح، وأشد قبحا... لي مقال على موقعي اسمه "درجات التضمين"، هذا العيب سيسمى التضمين، وسيأتي في المساوي، في الصفحة التالية. إذا تورطت بتعليق كلمة القافية  بشيء بعدها في البيت التالي أجبرت المنشد على أن يضيفه إليه، وهذا صعب، أنا أريد هذا البيت وحده، يا أخي! وأسوأ ما حدث في التاريخ من هذا كلام يُنسب إلى أبي الخطاب عمر بن ربيعة، لكن قبله أريد أن أنبهكم على شيء: شعار هذا العيب في التاريخ قول النابغة:

"وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارَ عَلَى تَمِيمٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظَ إِنِّي"!

"إِنِّي"، هكذا في آخر البيت، "إِنِّي"؛ ما "إِنِّي" هذه، إن شاء الله؟  

... إِنِّي

شَهِدتُّ لَهُمْ مَوَاطِنَ صَالِحَاتٍ تُنَبِّئُهُمْ بِوُدِّ الصَّدْرِ مِنِّي"!

أريد بيتا واحدا، وقد أجبرتني على أن ألصق به ما بعده، هذا عيب عند القدماء يسمى التضمين، لأنك جعلت الأول كأنه في ضمن الثاني، بدلًا من ست تفعيلات أجبرته على اثنتي عشرة تفعيلة، أو على أكثر فأكثر، كما رووا عن أبي الخطاب زعيم الغَزِلِين، من زعيم الغزلين؟

 عمر بن أبى ربيعة.

عمر بن أبى ربيعة -نعم!- رووا عنه أنه قال -اسمعوا الكلام العجيب!- ستة أبيات مضمنًا بعضها في بعض، كأنها بيت واحد طويل، قال -وتنسب لأبي العتاهية-:

"يَا ذَا الَّذِي فِي الْحُبِّ يَلْحَى أَمَا وَاللهِ لَوْ كُلِّفْتَ مِنْهُ كَمَا

كُلِّفْتُ مِنْ حُبِّ رَخِيمٍ لَمَا لُمْتَ عَلَى الْحُبِّ فَذَرْنِي وَمَا

أَلْقَى فَإِنِّي لَسْتُ أَدْرِي بِمَا بُلِيتُ إِلَّا أَنَّنِي بَيْنَمَا

أَنَا بِبَابِ الْقَصْرِ فِي بَعْضِ مَا أَطُوفُ مِنْ قَصْرِهِمُ إِذْ رَمَى

قَلْبِي غَزَالٌ بِسِهَامٍ فَمَا أَخْطَى بِهَا قَلْبِي وَلَكِنَّمَا

سَهْمَاهُ عَيْنَانِ لَهُ كُلَّمَا أَرَادَ قَتْلِي بِهِمَا سَلَّمَا"!

الله!

ما هذا! كيف أنتزع منها! كيف أقول مثلا:

"يَا ذَا الَّذِي فِي الْحُبِّ يَلْحَى أَمَا وَاللهِ لَوْ كُلِّفْتَ مِنْهُ كَمَا"!

في اللحظة سيقول المستمعون: هذا مجنون!

"وَهُمْ وَرَدُوا الْجِفَارَ عَلَى تَمِيمٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يَوْمِ عُكَاظَ إِنِّي"!

مجنون هذا -ههه!- هذا قطعا مجنون! يا أخي، إذا استشهدت فاستشهد بالكلام كاملا لا ناقصا، عيب شديد! كأنك في بيت طويل، ومن هذا على المنبر في الجمعة، من الذي على المنبر يستطيع أن يُنشِد كل هذا شاهدا! أتذكرون الجماعة هنا؟ أحضر للواحد منهم وأسمعه يستشهد ببيت، أو بنصف بيت أحيانًا، يقول لك مثلا: "وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ" -وهذا نصف بيت- وربما أنشد بيتا، أما أن ينشد ستة أبيات فهذا صعب! وكذلك ينبغي أن تكون "موافقة لا مخالفة"، كيف تدعي أنك قدمت لي قصيدة وكل بيت من أبياتها في وادٍ قَافَوِيٍّ غير وادي ما معه من أبيات، هذا كذا، وهذا كذا، كيف! هذا ما سنشرحه بمساوي القافية لا مساوئها. وفي هذه المساوي كلام لصاحبنا النصّاب الصغير يجيب به سؤال النصّاب الكبير! كيف تقع مساوي القافية؟ باطراح أصولها وعدم فنيتها جميعا معا تُعاب القوافي، كما قال ميمون بن خِزام النصّاب الكبير لغلامه النصّاب الصغير، ماذا قال؟ "حَيَّاكَ عَالِمُ الْغُيُوبِ؛ فَهَلْ تَعْرِفُ مَا لِلْقَوَافِي مِنَ الْعُيُوبِ؟ فَأَنْشَدَ -ما شاء الله، حاضر البديهة  شعرا!-:

عَابَ الْقَوَافِيَ إِكْفَاءٌ وَإِقْوَاءُ إِجَازَةٌ ثُمَّ إِصْرَافٌ وَإِيطَاءُ

كَذَاكَ تَضْمِينُهَا التَّحْرِيدُ مُجْتَنَبٌ وَمِثْلُ ذَاكَ سِنَادٌ وَهْوَ أَنْحَاءُ"!

من حفظ؟ من؟ أحمد! من يحفظ من مرة، من يحفظ من مرتين، من ثلاث! "صَوْتُ صَفِيرِ الْبُلْبُلِ"؟ لا أحد! ذهب الزمان، صرنا نعتمد على الجوال -ها!- صرنا نعتمد على وسائل التواصل، ولم نعد نحفظ، وأنا مثلكم، أتظنون هذا الذي تسمعون حفظًا! لم تسمعوا الحفاظ! لم تسمعوا الحفاظ! كان ابن عباس يحفظ كل شيء، كان يحفظ من مرة واحدة، كان المتنبي واسع الحفظ، وكذلك الفيروزآبادي، اذهبوا إلى كتاب "تاريخ أدب العرب"، لمصطفى صادق الرافعي، تجدوا فصلا بعنوان "الحفظ في الإسلام"، يحكي لكم فيه أعاجيب الحفاظ! وقد رُوِّينا عن أبي العلاء المعري مثلا، أنه حفظ الكلام الفارسي، ولا علم له بالفارسية! كان له جار فارسي، غابَ مرة، وجاء رجل يسأل عنه، فأشار إليه أن تكلم، فتكلم بالفارسية، وذهب، فلما عاد جاره، أخبره خبر الرجل الذي جاءه في غيابه، وأنه قال له كذا -وأعاد عليه الكلام الفارسي!- والرجل يبكي ولا يدري المعري ما أصابه، وإذا في الكلام خبر وفاة بعض أهله! وعندنا الآن شباب يحفظون حفظا يقرب إلينا تصديق تلك الروايات! نعم؛ فقد تداولنا على الواتساب مقطعا متلفزا لطفل صغير كفيف يحفظ القرآن الكريم والحديث الشريف حفظا لا نظير له، حتى لقد قام من قدمه للناس، فقال: أردنا أن تصدقوا من عجائب حفظ سلَفنا الصالح، ما صرفكم عن تصديقه بعض المرتابين من المعاصرين؛ فإذا كان هذا الطفل يحفظ هذا الحفظ، فالأمر ممكن غير مستحيل! نحن أمة الحفظ، صدورنا صحفنا، ومحابرنا آذاننا، نعم!

ما اسم الكتاب؟

أي كتاب؟

كتاب الرافعي.

"تاريخ آدب العرب"، وهو ثلاثة أجزاء، في الجزء الأول منها فصل "الحفظ في الإسلام"، يذكر الحفاظ الأوائل. ولعلكم تعرفون أن رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- كان في أثناء الوحي مشغولا بتكرار ما يتلقى، يجتهد في حفظه، فقال له الحق -سبحانه، وتعالى!-: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" -صدق الله العظيم!- أرح بالك، ستترسخ الآيات، وهذه معجزة أخرى! طيب! "عاب القوافي إكفاء"، ما الإكفاء؟ أن تغير حرف الروي بحرف قريب منه، كأن تغير الميم إلى نون، والنون إلى ميم، والسين إلى زاء، والزاء إلى سين. أَكْفَأَ، ما "أَكْفَأَ"؟ قَلَبَ،كأنك قلبت الوعاء. طيب! "إكفاء وإقواء"، ما الإقواء؟ أن تغير حركة الروي إلى قريب منها. والحركات فتحة وكسرة وضمة؛ فأيُّها أقرب لأيِّها؟

الفتحة والكسرة.

خطأ!

الفتحة والضمة.

خطأ! بل الكسرة والضمة؛ أما الفتحة فبعيدة منهما -طيب!- فإذا غيرت الكسرة بضمة أو الضمة بكسرة عابوك كما عابوا على النابغة -ولست أكبر من حَكَمِ الشعراء!- قوله:

"زَعَمَ البَوارِحُ أَنَّ رِحلَتَنا غَدًا وَبِذاكَ خَبَّرَنا الْغُدَافُ الْأَسْوَدُ"،

من قصيدته:

"أَمِنَ آلِ مَيَّةَ رَائِحٌ أَوْ مُغْتَدِ  عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ"!

فقد أقوى، ولكنهم هابوا أن يخبروه -وهو قاضي الشعراء- فاحتالوا عليه بقَيْنَةٍ تغنيه ما قال، وتمد به صوتها: "... مُزَوَّدِ(ييي)"، "... أَسْوَدُ (ووو)"؛ فانتبه، وعزم على ألا يعود إلى ذلك الإقواء! هكذا يزعم بعض الرواة، وهو زعم رائج على ضعفه بين المتسامرين والمتنادمين؛ إذ كيف لمثل هذا الشاعر العظيم أن يخطئ ذلك الخطأ! ماذا تقصد، يا أستاذ؟ أقصد أنه كسر عنق اللغة؛ فقال: "وَبِذَاكَ خَبَّرَنَا الْغُدَافُ الْأَسْوَدِ"، والمفروض أنه نعت مرفوع! معقول هذا، يا أستاذ! نعم؛ بل هو أكثر معقولية من أن يقول: "... مُزَوَّدِ(ييي)، ... أَسْوَدُ (ووو)"! أمجنونٌ هو أم أصمّ! هذا حَكَمُ الشعراء! طيب، وماذا تفعل بـ"...دُ"، بعد "...دِ"؟ سهلة -وهي فيهما "...دِ"- قال ابن هشام: "الأسودِ" نعت "الغدافُ"، مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة لاشتغال محلها بكسرة القافية!

وهل من اشتغال في القوافي!

القافية مكسورة، وهذه الكلمة تستحق الرفع، فماذا فعل؟ كسرها لتتلاءم القوافي، بطش بحق اللغة إحقاقا لحق موسيقى العروض، وحق الموسيقى العروضية في الشعر مقدم على حق اللغة، فالشعر موسيقى عروضية.

ضرورة.

نعم؛ يسمونها الضرورة. طيب! "عاب القوافي إكفاء وإقواء إجازة"، ما الإجازة؟ تغيير حرف الروي بحرف بعيد، كأن تغير النون إلى القاف، أين القاف من النون؟ بعيد من بعيد! "ثم إسراف"، ما الإسراف؟ أن تغير حركة الروي بحركة بعيدة، كأن تغير الكسرة إلى فتحة، أو الفتحة إلى كسرة، أو الضمة إلى فتحة، أو الفتحة إلى ضمة. أنت هنا غيرت حركة المجرى إلى حركة بعيدة. هل سمعتم قول الراجز:

"بُنَيَّ إِنَّ الْبِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ

اَلْمَنْطِقُ الطَّيِّبُ وَالطُّعَيِّمُ"!

انظروا كيف غير النون إلى ميم! أقريبة هي منها أم بعيدة؟ ننن ممم ننن ممم، ها!

قريبة.

فهذا إذن إكفاء. "بُنَيَّ إِنَّ الْبِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ"؛ من السهل أن تبر الناس؛ "اَلْمَنْطِقُ الطَّيِّبُ"، أن تكلمهم كلاما طيبا، "وَالطُّعَيِّمُ"، أن تطعمهم طعاما طيبا، وهذا ما وصى به رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: "يَأَيُّهَا النَّاسُ، أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ- تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"، وهو من علامات قبول الحج؛ فإذا وجدت نفسك بعد حجك تفعل ذلك فاعلم أن حجك قد قُبِل -إن شاء الله!- بشارة من البشارات، لا كما يخالف ذلك بعضُ الناس إلى ضِدِّه، فإن لقيته من هؤلاء أحدا، فقل له: أَبْشِرْ؛ حجك مردود عليك! "عاب القوافي... وإيطاء"، ما الايطاء؟ أنت فيه كأنك أوطأتَ الكلمة، أي أنزلتها وأذللتها وخسفت بها الأرض! الإيطاء هو تكرار الكلمة لفظا ومعنى وكأنه ليس لديك ما تقوله! أما عندك من كلمة أخرى تقولها! أتكرر التي سَبَقت! فضيحة! وهذا معروف عند شداة الشعراء المبتدئين -ها!- الذين ليست لديهم ذخيرة: "عُدَّ غَنَمَكَ يَا جُحَا! وَاحِدَةٌ قَائِمَةٌ، وَوَاحِدَةٌ نَائِمَةٌ! استعمل القائمة في البيت السابق، فهو يستعمل النائمة! لا أملك إلا هذه؛ حتى إن بعضهم يجهز الكلمات أولا، مسكين! ما هكذا يكون الشعر! تُقدر ما ستصل إليه -نعم- ولا تكرر نفسك على هذا النحو المنفّر! لكن كيف إذا أعاد كلمة يحبها، أيُعاب؟

لا.

لا يعاب، بل يحسب له، عندكم أبو مسلم، له قصيدة من ألف وخمسمئة بيت، كرر في آخر كل بيت منها اسم الله، لا إله الا الله، سبحان الله، الحمد لله- يكرر اسم الله -سبحانه، وتعالى!- يتبرك بذكره. وعندكم كذلك على موقعي قصيدتان للإلبيري، واحدة في الترغيب، وواحدة في الترهيب! أما التي في الترغيب ففي آخر كل بيت منها اسم الجلالة، ومنها قوله:

"يَا أَيُّهَا الْمُغتَرُّ بِاللهِ فِرَّ مِنَ اللهِ إِلَى اللهِ

وَلُذْ بِهِ وَاسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ نَجَا مَنْ لَاذَ بِاللهِ

وَقُمْ لَهُ وَاللَّيْلُ فِي جُنْحِهِ فَحَبَّذَا مَنْ قَامَ لِلهِ

وَاتْلُ مِنَ الْوَحْيِ وَلَوْ آيَةً تُكْسَى بِهَا نُورًا مِنَ اللهِ

وَعَفِّرِ الْوَجْهَ لَهُ سَاجِدًا فَعَزَّ وَجْهٌ ذَلَّ لِلهِ

فَمَا نَعِيمٌ كَمُنَاجَاتِهِ لِقَانِتٍ يُخْلِصُ لِلهِ"!

وأما التي في الترهيب ففي آخر كل بيت منها اسم النار، ومنها قوله:

"وَيْلٌ لِأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ مَاذَا يُقَاسُونَ مِنَ النَّارِ

تَنقَدُّ مِنْ غَيْظٍ فَتَغْلي بِهِمْ كَمِرْجَلٍ يَغْلِي عَلَى النَّارِ

فَيَسْتَغِيثُونَ لِكَيْ يُعْتَبُوا أَلَا لَعًا مِنْ عَثْرَةِ النَّارِ

وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفٌ نَادِمٌ لَوْ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ فِي النَّارِ

يَهْوِي بِهَا الْأَشْقَى عَلَى رَأْسِهِ فَالْوَيْلُ لِلْأَشْقَى مِنَ النَّارِ

فَتارَةً يَطْفُو عَلَى جَمْرِهَا وَتَارَةً يَرْسُبُ فِي النَّارِ"!

وقد اخترت لها صورة جهنم في خيال بعض الناس، فادخلوا موقعي تَرَوْا وجهًا قد ذاب جلده في النار تأكله وهو يصرخ والصورة نفسها مخيفة! عندنا شيء آخر طريف، قصيدة شاعر مصري تونسي معروف اسمه بيرم التونسي، تونسي استقر في مصر، وتَمَصَّرَ مثلما تَمَصَّرَ كثير من المغاربة والمشارقة -ومنهم عمانيون- أيام كانت مصر مهوى الأفئدة، وهكذا يستقلّ في كل زمان بهَوَى الأفئدة العربية والإسلامية وهُوِيِّها، مكانٌ من فضائها الشاسع، تشرق منه شمس الحضارة العربية الإسلامية -وليكن بغداد، أو دمشق، أو القاهرة، أو الخرطوم، أو صنعاء...- وكلما أشرقَت تَنادى العربُ والمسلمون: هيّا إليه؛ المقام فيه أطيب!  بيرم التونسي هذا شاعر يمشي في الشارع رقيق المشاعر، فيجد الباعة يكادون لا يبيعون الناس حتى يهجم عليهم موظفو البلدية، ينهبون أموالهم باسم الضرائب: وكم يكتسبون أصلا حتى تأخذوا منهم هذا المال! فكتب قصيدة في البلدية، آخر كل بيت منها كلمتان لا واحدة "المجلس البلدي"، يقول:

"قَدْ أَوْقَعَ الْقَلْبَ فِي الْأَشْجَانِ وَالْكَمَدِ هَوَى حَبِيبٍ يُسَمَّى الْمَجْلِسَ الْبَلَدِي

أَمْشِي وَأَكْتُمُ أَنْفَاسِي مَخَافَةَ أَنْ يَعُدَّهَا عَامِلٌ لِلْمَجْلِسِ الْبَلَدِي

مَا شَرَّدَ النَّوْمَ عَنْ جَفْنِي الْقَرِيحِ سِوَى طَيْفِ الْخَيَالِ خَيَالِ الْمَجْلِسِ الْبَلَدِي

إِذَا الرَّغِيفُ أَتَى فَالنِّصْفُ آكُلُهُ وَالنِّصْفُ أَتْرُكُهُ لِلْمَجْلِسِ الْبَلَدِي

وَإِنْ جَلَسْتُ فجَيْبِي لَسْتُ أَتْرُكُهُ خَوْفَ اللُّصُوصِ وَخَوْفَ الْمَجْلِسِ الْبَلَدِي

وَمَا كَسَوْتُ عِيَالِي فِي الشِّتَاءِ وَلَا فِي الصَّيْفِ إِلَّا كَسَوْتُ الْمَجْلِسَ الْبَلَدِي

كَأَنَّ أٌمِّيَ بَلَّ اللهُ تُرْبَتَهَا أَوْصَتْ فَقَالَتْ أَخُوكَ الْمَجْلِسُ الْبَلَدِي

أَخْشَى الزَّوَاجَ إِذَا يَوْمُ الزِّفَافِ أَتَى أَنْ يَنْبَرِي لِعَرُوسِي الْمَجْلِسُ الْبَلَدِي

وَرُبَّمَا وَهَبَ الرَّحْمَنُ لِي وَلَدًا فِي بَطْنِهَا يَدَّعِيهِ الْمَجْلِسُ الْبَلَدِي

وَإِنْ أَقَمْتُ صَلَاتِي قُلْتُ مُفْتَتِحًا اَللهُ أَكْبَرُ بِاسْمِ الْمَجْلِسِ الْبَلَدِي

أَسْتَغْفِرُ اللهَ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ غَدَتْ عِبَادَتِي نِصْفُهَا لِلْمَجْلِسِ الْبَلَدِي

يَا بَائِعَ الْفُجْلِ بِالْمِلِّيمِ وَاحِدَةٌ كَمْ لِلْعِيَالِ وَكَمْ لِلْمَجْلِسِ الْبَلَدِي"!

أُوصيك بالمجلس البلدي، لك النصف وله النصف -منتهى السخرية!- فرجع، وألغى الضرائب! أمثل هذا يُعاب؟

لا.

بل يُمدح؛ ولتتأملوا الظاهرة الواحدة كيف تتردد بين الإحسان والإساءة، على حَدٍّ دقيق بين الجنة والنار! "كذاك تضمينها"، ما التضمين؟ شدة تعليق كلمة القافية في بيت بشيء في البيت التالي، فيبدو السابق كأنه جزء من اللاحق. "التحريد"، ما التحريد؟ عيب يمتزج فيه الوزن والقافية، بأن تستعمل في بيتٍ ضربًا -والضرب هو التفعيلة التي تحمل القافية- غير ما استعملت في ضروب ما سبقه من أبيات، كأن تبني الضروب على "دددن"، وفجأة نجدك تقول: دن دن، كما في ميمية عمر أبو ريشة السابقة؛ فقد بناها على "دن دددن"، فقال:

"أُمَّتِي هَلْ لَكِ بَيْنَ الْأُمَمِ مِنْبَرٌ لِلسَّيْفِ أَوْ لِلْقَلَمِ"،

ثم قال:

"وَتَهَادَيْتُ كَأَنِّي سَاحِبٌ مِئْزَرِي فَوْقَ جِبَاهِ الْأَنْجُمِ"!

"وَصَاحِبَتِي إِذَا ضَحِكَتْ يَسِيلُ اللَّيْلُ مُوسِيقَى"،

كما قال نزار قباني! أو "أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ شِعْرًا، لِأَنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أُغَنِّيَ"، كما قال كولريدج شاعر الإنجليز العالم! أو "الشِّعْرُ كِتَابَةٌ عَرُوضِيَّةٌ"، كما قال جدسون جيروم الناقد الأمريكي! أو استغنى عن أقوال أولئك جميعا بقول سيدنا حسان -رضي الله عنه!- شاعر رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-:

"تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلَهُ إِنَّ الْغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ

يَمِيزُ مُكْفَأَهُ عَنْهُ وَيَعْزِلُهُ كَمَا تَمِيزُ خَبِيثَ الْفِضَّةِ النَّارُ"!

ماذا تريد  بعد هذا؟ إذا عاقتك اللغة فاخترقها وانطلق! لكنهم لا يفعلونه خبط عشواء، بل لهم فيه حكمة، وإلا انقطع بينهم وبين القراء حبل التفاهم! ما الطريقة الثانية؟ تهديم الجدران، تدمير العروض تدميرا، مجاوزة حدود العروض بالتجديد! في دولة بني أمية وقف الوليد بن يزيد الشاعر الخليفة الذي حكم بضعة عشر شهرا -وكان مطبوعا على الشعر، لا يصلح لمثل هذه المَشْغلة ولا تصلح له، فقُتِل، وحُقَّ له!- يخطب الجمعة شعرا من أولها إلى آخرها:

"اَلْحَمْدُ لِلهِ وَلِيِّ الْحَمْدِ

أَحْمَدُهُ فِي يُسْرِنَا وَالْجَهْدِ

هُوَ الَّذِي فِي الْكَرْبِ أَسْتَعِينُ

وَهْوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ قَرِينُ"!

ما هذا؟ هذا الشعر المشطَّر -وانتبهوا!- لا المشطور؛ فالمشطور عمودي، والمشطَّر غير عمودي، المشطور شعر عمودي بنيت القصيدة فيه على الشطر (نصف البيت)، أما هذا فشعر بنيت القصيدة فيه على هندسة الأشطر من داخل الأبيات، بدأها هذا الوليد بهندسة شطرين في بيت، ثم زادت الأشطر المهندسة من داخل البيت الواحد إلى ثلاثة، فأربعة، فخمسة، فستة، فسبعة، حتى استوت الموشحات، والموشحات من الشعر المشطَّر، هل الموشحات شعر عمودي؟ لا، بل من الشعر المشطر؛ علام يقوم هذا؟ على تكوين البيت من أشطار كثيرة، وهندستها في الداخل، والقصيدة من الموشحات عادةً تكاد لا تتجاوز خمسة أبيات، لكن البيت في الداخل أشطر كثيرة، بينها هندسات. بعد هذا بزمان نشأ شعر المقطعات في العصر الحديث، تشتمل القصيدة على تيارات من الأبيات، كل تيار على قافية، هذه قصيدة، وهذا يسمى شعر المُقَطَّعات. ثم حدث ما يسمى الشعر المرسل من غير قافية، لا يلتزمون فيه قافية، لكنه خاب وانحسر، وبقي شعر المقطعات والشعر الموشح! ثم بعد قليل ظهر الشعر الحر في خمسينيات القرن العشرين، الذي لا قافية له ولا بيت؛ القصيدة  كلها من أولها إلى آخرها كالبيت الواحد ولو كانت في كتاب كامل، إذا حدثت قواف فهذا غير مقصود؛ أصل فلسفة الشعر الحر أن القصيدة منه كالبيت الواحد، يبدأ في أوله بدءًا واحدا، وينتهي في آخره نهاية واحدة، وبين البداءة والنهاية ما يتيسر للشاعر. استطاع الشاعر محمود درويش أن يوصل القصيدة من الحر إلى كتاب كامل، كتاب من قصيدة واحدة، لها أول في الأول وآخر عند الغلاف، من الغلاف إلى الغلاف، ويتحرك في الداخل بما يتيسر، حتى أحيانا إنه يستشهد بآيات من القرآن، كما في قصيدته "أنا يوسف يا أبي"، التي قال فيها: "وَلِمَاذَا أَنَا أَنْتَ سَمَّيْتَنِي يُوسُفُا وَهُمُ أَوْقَعُونِيَ فِي الْجُبِّ وَاتَّهَمُوا الذِّئْبَ وَالذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي أَبَتِي هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ"! فلما غنى شعرَه مارسيل خليفة وهو موسيقي لبناني مفتون به، غناه بما فيه من القرآن، فانقلبت عليه الدنيا عام ثلاثة وألفين الميلادي، وكانت مشكلة! ومن رواد هذا الشعر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم، على أجيال إلى الآن، منهم خمسينيّون وستينيّون وسبعينيّون... وماذا بعد؟ شيء لا يدخل معنا، نثر فني يسميه أصحابه قصيد النثر أو قصيدة النثر، لا وزن له، تعمدوا أن يُخْلُوه من الوزن، تواطأت عليه من سنة ستين تقريبا إلى سنة سبعين، جماعة مجلة "شعر" اللبنانية، يوسف الخال وأدونيس وأُنسي الحاج ومحمد الماغوط، الذين قدموا للناس نمطا من الكلام غريبا -تعمدوا أن يكون غريبا، أن يخرج على العادات!- وظهرت فيما بعد علاقتهم بالمخابرات الأمريكية، ففُضحوا، وأغلقت المجلة، ولكن بقي لهذا النمط من الكلام كتابٌ -ومنهم في عمان سيف الرحبي والدكتور هلال الحجري الذي كان رئيس قسمنا- ليسوا على قلب كاتب واحد، ليس شرطا أن يكونوا مثل أدونيس الهدَّام، الذي وصفه بلَديّه الدكتور أحمد بسام ساعي، بأنه كأنه خليع ثائر مختبئ في قُنَن الجبال يقذف الناس بالحجارة! ثم ماذا؟ ثم لا ثُمَّ! قد حدثتكم عن كل ما كان في التاريخ؛ فاسمحوا لي الآن أن أستمتع بإنشاد هذه القصيدة الذي قالها عام ألفين الميلادي، راشد النوفلي -عماني، موظف بديوان البلاط السلطاني- الذي سجل موضوعا للماجستير بإحدى الجامعات السودانية، ورغب في مثله بجامعة السلطان قابوس، فقيل له: لم تدرس العروض! -حينما تتقدمون للماجستير ينظرون في أوراقكم: درستم كذا وكذا، ولم تدرسوا كذا وكذا؛ يجب أن تسدوا هذا الخلل قبل أن تستمروا في برنامج الدراسات العليا!- وكان معه في الفصل نفسه محمد بن سعيد الحجري عضو مجلس الشورى الآن، يجلسان أمامي مع الطلاب! يأتي راشد هذا من بلاد بعيده ليحضر ويعود، وكان ظريفا فاضلا، وقد فاجأني على المفترَق بورقة قدمها إلي، وذهب عني، وإذا فيها قصيدة عنوانها "دندنة العَروض وأحسنُ العُروض"، هكذا سماها، مجانسا العروض بأقرب ما يلتبس به في تصحيف المصحفين، فماذا قال؟  قال:

"شُدّوا الدَّساتينَ...

استفاد من عبارتنا!

شُدّوا الدَّساتينَ يا...

يا من؟ يا أي أحد!

شُدّوا الدَّساتينَ يا شُدّوا الدَّساتينَا شُدّوا لنعزف أنغام المحبينا

دَنْ دَنْ ددنْ دددنْ دنْ دنْ ددنْ دددنْ دنْ دنْ ددنْ دددنْ دنْ دنْ ددنْ دِينَا

الله!

ههه! هذا عندي بالقصيدة كلها!

دَنْدِنْ لتفرح ما الدنيا بباقية كلا أُخَيَّ ولا الأحياء باقونا

الله!

كان ظريفا دائم الابتسام!

دَنْدِنْ لتضحك فالأحزان قاتلة والهمُّ يقطع أوصال الهَنا فينا

دَنْدِنْ لتحيا فهذا العيش دندنة من لم يدندنه منا عاش محزونا

إني لأقطع بلدانا وأودية لكي أدندن حينًا في نوادينا

نعيش في أسرة جَذْلى مُدَندِنة كل يدندن والأستاذ حادينا

أجنّ منهم!

ههه!

لا ينتهي الشرح إلا قال في شغف هيا تلامذتي شُدّوا الدَّساتينَا 

من لم يجد قلمًا لا بأس من قدمٍ ما دام يحدث ترنيما وتلحينا

فنستعد فنمضي في ددن دددن...

الله!

ههه!

لا يقرب الهمُّ والأحزان نادينا

نظل نشدو ونشدو في ددن دددن حتى لَيَحْسبنا الرائي مجانينا

وأستاذهم أجنّ منهم!

نعم مجانينُ علمٍ بل ودندنةٍ قل ما بدا لك قل عنا مصابونا

إن الحياة تغاريدٌ ودندنة من لم يدندن بها قد عاش مسجونا"!

فاحتفظت بالورقة طويلا، ثم نشرتها، فقرأها الدكتور عبد السلام البسيوني العالم الكاتب الفنان الأديب الداعية نزيل قطر -ولم تكن لي به صلة- فأعجبته؛ فنشرها بكتابه "طرائف وظرائف"، قائلا: "الدكتور محمد جمال صقر أديب ولغوي وشاعر وذواقة (...)، ولم يكن بُدٌّ من أن أنقب قليلا عن سيرته، لأسعد بالتعرف إلى رجل مميز، من الغُيُر على العربية، المجدّدين رونقها -أكثر الله من أمثاله، محافظة على وعاء القرآن ورَحِمِه!- ومما عرفني به قصيدة لأحد تلاميذه ومحبيه -واسمه راشد النوفلي من كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس- طريفة لطيفة سماها [خاتمة مقام العروض، دندنة العَروض وأحسن العُروض]، قال فيها (...)، ولا عجب أن يدندن تلاميذ شاعر صناجة، وهو الذي (...)"! طيب! بقي أن ننظر معا في الاختبار نظرة سريعة قبل أن تذهبوا.

اِخْتِبَارُ مُنْتَهَى خَرِيفِ 2016م،

  • قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ:

1       جئناك بقلب منكسر ولسان بالشكوى لهج

2       فكم استشفى مزكوم الذنب بنشر الرحمة والأرج

3       لدي نفس أحب أنعتها لتعرفوا نعتها وأسماها

4       أزجرها وهي لي مخالفة كأنني لست من أوداها

5       وطعامي وشراب واحد وهو رمز فافهموه حسنا

6       ليس خمرا سائغا أو عسلا لا ولا ماء ولكن لبنا

7       ما في اختلاد الناس خير ولا ذو الجهل بالأشياء كالعالم

8       يا لائمي في تركهم جاهلا عذري منقوش على الخاتم

9       قل لمن يفهم عني ما أقول أقصر القول فذا شرح يطول

10  ثم سر غامض من دونه ضربت والله أعناق الفحول

11  ظهرت فلما أن بهرت تجليا بطنت بطونا كاد يقضي بردتي

12  فأوقعت بين العقل والحس عندما خفيت خلافا لا يزول بصلحة

  • فَانْسُبْ بِخُطَانَا الْأَرْبَعِ إِلَى بَحْرِهِ، كُلًّا مِنْ: 2، 3، 5، 7، 9، 12،
  • وَاذْكُرْ مِنْ كُلٍّ مِنْ: 1، 4، 8، 10- قَافِيَتَهُ، وَلَقَبَهَا، وَأَجْزَاءَهَا، وَنَوْعَهَا!

كَانَ اللهُ جَارَك!

هذا الاختبار -يا جماعة!- سيكون على هذا النحو، اثني عشر بيتا لشاعر واحد تقريبا؛ أحب أن آتي بالأبيات لشاعر واحد، حتى أُنبهكم عليه. من يتخيل أنه الغَزَّالي بتشديد الزاء، وأنه شاعر! من كان يعرف -هذا صاحب "إحياء علوم الدين"، و"المنقذ من الضلال"، و"المستصفى من علم الأصول"، وغيرها- من كان يظن أن اسمه بتشديد الزاء، وأنه شاعر، من؟ لا أحد؛ هذه فرصة، أن نتعلم بالاختبار، آخر تَعَلُّمَة، تبقى إلى يوم الدين! وأسألك هذين السؤالين: انْسبْ؛ قال... فانسب...، بنيت الكلام على الكلام، قال هو؛ فقل أنت! انسب بخطانا الأربع كُلًّا من كذا وكذا، وانتبه إلى الأرقام! لحظة! سألتك عن الثاني والثالث؛ فإذا قطعت الأول دونهما فعملك صفر! سألتك عن شيء فتركته إلى غيره؛ هربت! هربت إلى ما تعرف مما لا تعرف؛ صفر! ستقول لي: لم أنتبه، يا أستاذ! صفر كذلك؛ كان ينبغي أن تنتبه؛ من علمك ألّا تنتبه؟ طيب! تذكر لي اسم البحر، فتقول: هذا من بحر الطويل، وأنا لا أنظر إلى هذا أصلا، بل إلى التقطيع والتوقيع والتفعيل والتوصيف: للتقطيع درجتان، ولكل من التوقيع والتفعيل والتوصيف درجة، تمت درجات تخريج البيت الواحد خمسًا، في ستة أبيات بثلاثين درجة. تذكر لي أسماء البحور؟ لا أنظر إليها أساسا! لنفترض أنك سميت الطويل البسيط، فلن أُخطئك! لنفترض أنك سميت الخفيف السريع، فلن أُخطئك! لكن إذا أخطأت وضع خطوط التقطيع فعملك صفر! إذا أخطأت الدندنة فعملك صفر! إذا نسيتها خسرت درجتها! إذا أخطأت التفعيلات فسميت مُتْفَاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فعملك صفر! أرأيت! أتظن أنك تحفظ أسماء البحور بالتفعيلات وتذكر الأسماء! لا قيمه لها عندنا؛ القيمة للجوهر. والسؤال الثاني بعشرين درجة، واذكر من كذا كذا وكذا! أتترك هذا إلى غيره! صفر! انتبه إلى الأرقام، إلى الأرقام، لأنني سأحددها  على حسب مشكلات القافية؛ سأختار لك القوافي المُشْكِلَة. ستقِل درجاتك في اختبار المنتهى قطعًا، لكنك ستنتفع بالدرجات السابقة، حصلت -ما شاء الله!- على 25 من 25، وعلى خمسات متوالية، عندك -ما شاء الله!- غنيمة، سأجتهد -إن شاء الله!- أن أقللها! أُحذركم حتى تنتبهوا؛ "مَنْ خَوَّفَكَ حَتَّى تَلْقَى الْأَمْنَ أَحْرَصُ عَلَيْكَ مِمَّنْ أَمَّنَكَ حَتَّى تَلْقَى الْخَوْفَ"! طيب! سأطالبك بتحديد القافية -له درجة- وبلقبها على حسب ما بين ساكنيها -له درجة- وبذكر أجزائها حروفا وحركات -لا تنس الحركات؛ فالأجزاء حروف وحركات! ولها درجة، وإذا نقصت نقصنا!- وبنوعها -ما نوعها ؟ هذا الجزء الذي كنا نذكره في البيانات بعد الوزن: نونية مفتوحة مردفة بكذا موصولة بكذا، هذا هو تذكره- طيب! نعود لنطبق على البيت الأول مثلا، فهيا اقرؤوا، ها!

"جِئْنَاكَ بِقَلْبٍ مُنْكَسِرٍ وَلِسَانٍ بِالشَّكْوَى لَهِجِ"!

ما شاء الله، ممتازون، طبعا، اللّي عَ الْبَرّ عَوَّام! ها، من أي بحر؟ هيا فلنعزفه!

ها؟

المتدارك.

أحسنت! وأخوه بعده، وانتبه إلى الإخوة -الإخوة الأعداء!- انتبه إلى أخيه؛ لأنه الذي سيكشفه؛ إن لم تنتبه بهذا انتبهت بهذا، والقافية لا تتجلى من بيت واحد، تتجلى من بيتين فأكثر. هيا، اقرؤوا الثاني!

"فَكَمِ اسْتَشْفَى مَزْكُومُ الذَّنْبِ

نعرف مزكوم الأنف لا الذنب!

"فَكَمِ اسْتَشْفَى مَزْكُومُ الذَّنْبِ بِنَشْرِ الرَّحْمَةِ وَالْأَرَجِ"!

أكثر الأبيات في الزهد، في التصوف.

الله الله، ممتازون خارج الاختبار! طيب، ما قافية البيت الأول؟  

"ـوَى لَهَجِ".

"ـوَى لَهِجِ"، "لَهِجِ"، لا "لَهَج"! سيقول بعضكم: لَهِجُ طبعا، وعندئذ سيقول: القافية جيميّة مضمومة، صفر؛ فهي جيميّة مكسورة! تظنون أنكم تهربون بعدم التشكيل؛ فماذا ستفعلون في هذه؟ ستقولون: جيمية مضمومة وهي مكسورة! يا أستاذ، ورطتنا في التشكيل؛ فلا مهرب منه! ألا فانتبهوا! هي إذن "ـوَى لَهِجِ"، لهج نعت لسان، ولسان معطوف على مجرور، والمعطوف على المجرور مجرور، نَحْوٌ  نَحْوٌ، لا مهرب منه! ها، نَوِّعُوها -أي انسبوها إلى نوعها!- ما نوعها؟

جيمية مكسورة مجردة موصولة بالياء.

أحسنتم!

ننتقل  إلى صعب آخر، أين الصعب؟ هذا -وأنا متأكد من أنكم  ستخطؤون!- اقرؤوا التاسع والعاشر!

"قُلْ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنِّي مَا أَقُولُ أَقْصِرِ الْقَوْلَ فَذَا شَرْحٌ يَطُولُ"!

ها، واقرؤوا أخاه!

"ثُمَّ سِرٌّ غَامِضٌ مِنْ دُونِهِ ضُرِبَتْ وَاللهِ أَعْنَاقُ الْفُحُولِ"!

"ثُمَّ" -ما شاء الله!- كيف يقول: ثُمَّ سِرٌّ...! "ثَمَّ" -أي هنا- ها!

"ثَمَّ سِرٌّ غَامِضٌ مِنْ دُونِهِ ضُرِبَتْ وَاللهِ أَعْنَاقُ الْفُحُولِ"!

طيب -يا مسكين!- "... أَعْنَاقُ الْفُحُولِ"، و"... شَرْحٌ يَطُولُ"، هل يجوز هذا؟ كيف نحُلّ هذا الأشكال؟

... أَعْنَاقُ الْفُحُولُ

كيف نحُلّ هذا الأشكال؟

... أَعْنَاقُ الْفُحُولْ ... شَرْحٌ يَطُولْ

أحسنت، يا منى! يا سلام، أستاذة! كانت تريد أن تخرج، لو كانت خرجت ما استفدنا هذه الفائدة! نعيد، وسنحتاج إلى تسكين آخر صدر البيت الأول كذلك:

"قُلْ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنِّي مَا أَقُولْ أَقْصِرِ الْقَوْلَ فَذَا شَرْحٌ يَطُولْ

ثَمَّ سِرٌّ غَامِضٌ مِنْ دُونِهِ ضُرِبَتْ وَاللهِ أَعْنَاقُ الْفُحُولْ"!

من يستطيع هذا؟ لا أحد، صفر! طيب، من أي وزن هذان البيتان؟ من أي وزن؟ هيا؛ فلنغنهما!

بنون مشددة عليها سكون، ما بحر هذا؟

الرمل.

أحسنت! الرمل. ما قافية الأول؟

ـطُولْ

أحسنتَ "طُولْ"، وما قافية الثاني؟

ـحُولْ

نَوّعيها؟ هذه...

لامية.

واوية.

لا، لامية، لامية ساكنة -لابد من "ساكنة" هذه- مردفة بواو -بواو فقط؟ تنقصين!- مردفة بواو المد -ههه!- ما لكم! واو المد غير واو اللين؛ عندنا "طُول"، وعندنا "طَوْل"، عندنا "بِين"، وعندنا "بَيْن"، هذا شيء، وهذا شيء؛ إلى هذه الدرجة من التدقيق في الاختبار، أنتقم من المنتصف -انتبهوا!- أنتقم في المنتهى من المنتصف؛ ذهب زمان التدليل في المنتصف وطوال الفصل، ذَهَب ذَهَب ذَهَب!  فرصة حتى انتقم من الطلاب في المنتهى! طيب، لحظة! "ـطُولْ"، "ـحُولْ"، ألا ترون أنه تمسك بالواو، وكان يمكنه ألا يتمسك؟ ما اسم هذا؟ هذا لزوم ما لا يلزم. الله على العلم! هذا العلم! من استطاع أن يتذكر هذا استفاد منه؛ ربما رأفنا به فوضعنا هذا موضع غيره، فأخذ الدرجة. أرأيتم؛ هذا اختبار، والأمر جِدّ، لا هزل فيه، عندكم هذا الاختبار، واختبار آخر؛ فتدربوا بهما، وانتبهوا؛ فعلى مثلهما سيجري اختباركم. ولتسامحونا على ما قصرنا -هذه الدنيا لا يبقى فيها إلا الذكر الطيب- بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!

واعلموا -يا جماعة، هذه هدية، هذه فاكهة الختام!- أننا سجلنا المحاضرات كلها، بجدها وهزلها، وإحسانها وإساءتها، وأخطائي وأخطائكم، وسنرفعها على الإنترنت! سيسمعكم الناس في أرجاء العالم، من المشرق إلى المغرب...

حينما طُردنا!

سيسمعونني حينما أثني عليكم، وحينما أطردكم من المحاضرات -ها!- سيسمعون هذا -بالله!- سيسمعون، وسيفرحون كثيرا، ويتمنون أن لو كانوا معكم -هذا مجرَّب- والفضل لأحمد الناصري، هذا الذي سجلها لنا ببرنامج خاص...

يستحق خمس درجات!

يستحق فعلا، على أن يأتي لنا بالتسجيلات، فما زالت عنده، سيأتينا بها -إن شاء الله!- وسأحملها عندي، وسنرفعها قدر الطاقة على الإنترنت، ولعلنا نشير إليكم على التويتر أو على الفيسبوك، لتدخلوا وتستفيدوا! هو نفسه من باب التجربة، فتح المحاضرة الأولى، فوجدني أتكلم عنه قائلا لكم: يا جماعة، أحمد هذا شيطان من الشياطين؛ فضحك كثيرا! ستسمعون كل شيء، بارك الله فيكم، مع السلامة!

وسوم: العدد 1109