جنيف 2 وإشكالية حوار المعارضة مع النظام السوري

د. محمد أحمد الزعبي

د. محمد أحمد الزعبي

1.

غني عن القول أن الديمقراطية تفترض وتشترط التعد د ية الإجتماعية والاقتصادية والثقافية ، وبالتالي السياسية .وبدورها فإن التعد دية إنما تعكس وتنعكس ـ نظريا وعملياً ـ عن الوجود الموضوعي الملموس للتعدد المذهبي واللغوي والإثني ...الخ في أي مجتمع . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو متى ولماذا يصل الخلاف والإختلاف في الآراء والمواقف بين الفئة الحاكمة ومعارضيها إلى مرحلة الاحتراب وإسالة الدماء ( كما يحصل الآن في سورية!)، بل وإلى الإستعانة بالأعداء ( كما حصل ويحصل أيضا الآن في العراق!) ؟ ، وهل يمكن أن يصل الاختلاف في المواقف والآراء بين نظام سياسي ما ومعارضيه الى مرحلة تصبح معها المصالحة الوطنية ممتنعة ، سواء بسبب أحد الطرفين أم بسببهما معاً .؟

إن معارضة نظام سياسيى ما ـ كما نراها من جهتنا ـ يمكن ( وفي إطار مبدأ النسبية دائما ) أن تكون : وطنية أوغير وطنية ، مشروعة أوغير مشروعة ، ممكنة أو غير ممكنة. وبغض النظر عن مسألة

الإمكانية / عدم الإمكانية ، فإن المعارضة الوطنية المشروعة لنظام سياسي ما ، لابد أن يكون السبب الكامن وراء خيارها هذا واحد اً أو أكثر من الأسباب الجوهرية التالية :

1ــ أن يكون النظام المعني قد فرّط أو أنه يفرّط بما تعتبره تلك المعارضة الثوابت الوطنية و/أو القومية ،

التي لايمكن المساس بله التفريط بها ، أي أن الأمر هنا يتعلق بالتفريط بالغاية (حسني مبارك كمثال)

2ــ أن يكون النظام المعني سلطة ديكتاتورية قمعية ، ولكنه لم يفرط بالثوابت الوطنية والقومية ، بل إنه

 يعتقد أن هذه الديكتاتورية تستلزمها ضرورة المحافظة على هذه الثوابت . أي ان الأمر هنا يتعلق

 بالتفريط بالوسيلة وليس بالغا ية ( جمال عبد الناصر وصدام حسين كمثال ) . إن ماغاب عن هذه

 الرؤية الأيديولوجية هو أن الغاية والوسيلة هما وجهان لعملة واحدة ، ويرتبطان معا في علاقة جد لية ، بحيث أن التفريط بواحد طرفي هذه العلاقة لابد أن يؤدي بالضرورة إلى التفريط بالطرف الآخر .

3ــ أن يكون النظام المعني قد فرّط أو انه يفرط ، بكل من الغاية والوسيلة معا ، أي أنه نظام استبدادي

 من جهة ، ومتواطئ مع أعداء الأمة، من جهة أخرى( حافظ وبشارالأسد كمثال ) .

 .وكما هو واضح هنا ،فإن التناقض بين المعارضة الوطنية والنظام السياسي ، إذا ماكان من النوع الأول والثالث ، فإنه يقع في دائرة التناقض الرئيسي التناحري الذي لا مجال فيه ـ وفق رؤيتنا ـ للمصالحة الوطنية إلا في حال تخلي النظام المعني عن كل مواقفه السياسية والأيديولوجية المتعارضة مع هذه الثوابت الوطنية والقومية والإنسانية ، أي عملياً التنازل عن السلطة وتحويلها للشعب .

أما إذا كان النظام من النوع الثاني ، فإن من مسؤولية بل من واجب كل من المعارضة والنظام معا ، أن يسعيا إلى إقامة حوار بناء وهادف كل مع الآخر على أساس المسؤولية المشتركة ، وبما يؤدي إلى مصالحة وطنية تضع مصلحة الوطن والأمة فوق كافة الإعتبارات الأخرى.

إن مقولة المصالحة الوطنية إنما تستند هنا بصورة أساسية إلى مفهوم المواطنة الذي يمثل البوتقة الجغرافية والتاريخية لجميع أبناء الوطن على أساس العدالة الاجتماعية ، والتساوي بالحقوق والواجبات دون تمييز بينهم على أساس إثني أو ديني أو طائفي أو جهوي أو أيد يولوجي . هذا مع العلم أن التساوي في الحقوق والواجبات أمام الدستور والقانون إنما ينطوي تطبيقياً على مبدأ الديمقراطية الذي ينطوي بدوره على مبدأ الحرية ، ومبدأ التبادل السلمي للسلطة على قاعدة " كلنا شركاء في هذا الوطن " و" احترام الرأي والرأي الآخر".

2 .

كثيرا ماتتداخل إشكالية السلطة ـ المعارضة مع إشكالية أخرى هي إشكالية الأ قليات في بعض ـ إن لم يكن كل ـ المجتمعات العربية ، ويعني الكاتب بمفهوم الأقليات كافة المجموعات الاجتماعية التي تنتمي إلى عصبية معينة

، إثنية ، دينية ، قبلية ، جهوية أو طائفية ، والتي غالبا مايتم تغليفها بغلاف أيديولوجي، يمكن أن يكون صحيحا أو مزيّفا . واستنادا الى معرفتنا الميدانية لهذه الظاهرة الإجتماعية ، توصلنا إلى الفرضية السوسيولوجية التالية :

" إن الأقلية ـ بصورة عامة ـ يمكن أن تلعب دورا إيجابيا وتقدميا عندما تكون في المعارضة لنظام استبدادي ، ولكنها إذا ماوصلت هي إلى السلطة ، بما هي أقلية ، فإن هذا الدور الإيجابي سوف ينقلب إلى ضده . أي أن الدور الذي يمكن أن تلعبه أية أقلية خارج العملية الديمقراطية الشرعية، هو سلبي بالقوة عند ماتكون في المعارضة ، وسلبي بالفعل إذا ماوصلت إلى السلطة بما هي أقلية ، سواء أكان هذا الوصول على ظهر دبابة عدوة أو صد يقة ، وسواء مارست دورها علانية ، أم حاولت التخفّي وراء شعارات حزب أو دين أو طائفة ، يمكن أن يكونوا منها براء " ، ويتحول صندوق الإقتراع لدى هذه الأقلية من صديق إلى عدو ! .

وليس أدل على صحة هذه الفرضية السوسيولوجية ، من مشاهدة مافعله ومايفعله نظام عائلة الأسد في سورية منذ 1970 بصورة عامة ، ومنذ الانفجار الوطني والشعبي في آذار2011 بصورة خاصة .

3 - لانذيع سراً إذا ماقلنا أن النظام السوري الحالي هو نظام أقلية . وأنه يحيط نفسه بعدد من الأحزمة الأمنية ( أعمدة الحكم السبعة : الشرعية ، الدستور ، الحرس الجمهوري ، أجهزة الأمن المختلفة ،( بمن فيهم الشبيحة ) الحكومة ، حزب البعث ، الجبهة الوطنية التقدمية ) التي سمحت باستمراره غير الشرعي لأكثر من أربعة عقود ، والتي إذا ما استثنينا الأجهزة العسكرية والأمنية المختلفة التي هي عملياً السياج الحقيقي للنظام ، لاتعدو أن تكون مجرد دمى يسخرها النظام لمصلحته بالطريقة التي يراها مناسبة .

أن النقيض الموضوعي لهذا النظام لابد أن يسير ــ بطبيعة الحال ــ في الإتجاه المعاكس ، أي أن يكون نظام أغلبية

، وبتقديرنا فإن تبني الطرح العلماني، القائم على مبدأ المواطنة المتساوية بين جميع مكونات الشعب السوري ، ، هو الذي سوف يساعد الشعب السوري على تجاوز محنته الراهنة ، ويعطي مفهوم الأقلية والأكثرية طعما ولونا جديدين مختلفين جذرياً عن طابعهما الإثني أو الديني او الطائفي أو الجهوي الذي لاتخطئه العين حالياً . هذا مع العلم أننا نفهم العلمانية ، بصورة جد بسيطة مفادها أن الدين لله والوطن للجميع ، الأمر الذي يعني أن العلمانية الحقيقية لا تتعارض مع الدين ولا مع التد يّن، وأن الدين بدوره لايقف ضد تساوي كافة أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات، والتي ( المساواة ) هي مطلب ديني بقدر ماهي مطلب د نيوي .

 إن غياب الجماهير الشعبية في سورية عن المسرح السياسي ، ومصادرة دورها في الحياة العامة ( عمليا تغييب الديموقراطية ) ، كان السبب الجوهري لكافة الهزائم والنكسات بل والمصائب التي شهد تها سورية ، منذ انقلاب حسني الزعيم 1949 ، وحتى هذه اللحظة ، الأمر الذي جعل ويجعل من الديمقراطية الممر الإجباري الذي ينبغي على كافة أطراف المعارضة أن تسلكه ، باتجاه بعضها بعضا ، على قاعدة ، كلنا شركاء في هذا الوطن ،

إن الديمقراطية لاتعتبر ـ بنظرنا ـ مجرد وسيلة لغاية ، بل إنها وسيلة وغاية معا وفي نفس الوقت ، ذلك أن الإنسان ، سواء بما هو مواطن فرد ، أو بما هو جزء من جماعة إجتماعية ما ، هو غاية السياسة ، وهو وسيلتها أيضا لتحقيق هذه الغاية ، وإذ ن فإن تكبيله وتقييد حريته إنما يتماهى ـ نظريا وتطبيقيا ـ مع وضع المبادئ الوطنية والقومية لهذه السياسة في دائرة الخطر.

4.

تنطوي مبادرة الحوار مع النظام ( جنيف1 و جنيف 2 ) بالشكل الذي لمسناه ونلمسه في كثير من أد بيات بعض أطراف المعارضة السورية ( هيئة التنسيق وحواشيها تحديداً ) على خللين أساسيين ، الخلل الأول ، هو أن هذا الحوار هو عمليا ذو بعد واحد ، وأن تمثيلية استعداد النظام للحوار مع بعض أطياف المعارضة ، إن هو إلاّ نوع من " الضحك على الذقون " ، بل ونوع من الديالوج الداخلي ، أي حوار النظام مع نفسه ، الأمرالذي يتعارض مع أبجديات المصالحة التي تقتضي أصلاً حوارا بين متحاورين اثنين متكافئين ، و مستعدين لسماع بعضهما بعضا ، وبنفس الوقت ينبغي أن يكون كل طرف منهما على قناعة بأنه لايملك وحده الحقيقة ، وأن عند الطرف الآخر ماينبغي سماعه ، وأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .

ولعل مقولة الإمام الشافعي " رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب " هي النموذج الأمثل لأي حوار حقيقي ومثمر ، أما الخلل الثاني ، فيتمثل في أن المصالحة الوطنية تكون واردة فقط ، عندما تكون التناقضات القائمة بين النظام والمعارضة هي من نوع التناقضات الثانوية ،التي يمكن حلها بواسطة الحوار ، أما إذا كانت هذه التناقضات من نوع التناقضات الرئيسية، فإن المصالحة الوطنية ربما تكون هنا ، مجرد شعارات تبطن أكثر مما تظهر ،والمسكوت عنه فيها أكبر من المعلن ، لأن مثل هذه التناقضات لاتحل عادة إلاَّ بإزالة أحد الطرفين .

إننا لاننكر أن نظام الجمهورية الوراثية ، ( الجملكية )حاول ويحاول أن يقوم ببعض الإجراءات الإيجابية الشكلية والمحدودة واللفظية على الصعيد الداخلي ، في محاولته احتاء ثورة آذار 2011 ، بيد أن ذلك لم يكن يمثل سوى نوع من القنابل الدخانية التكتيكية الشكلية والكاذبة ، وذلك للتغطية على تراجعاته الاستراتيجية في القضايا القومية ولا سيما على صعيد القضية الفلسطينية ، وقبل ذلك وبعده على صعيد الإحتلال الإسرائيلي للجولان ، حيث يمثل السكوت المطبق والمطلق على هذا الاحتلال ، شهادة حسن السلوك التي قدمها الأب ويقدّمها الإبن لأمريكا وإسرائيل مقابل بقاء النظام في السلطة . إن سكوت النظام عن احتلال هضبة الجولان من قبل الكيان الصهيوني عام 1967 استلزم سياسياً واجتماعياً ، تغييب الحرية والديموقراطية والكرامة في سوريا، كي لايرى ولايسمع ولا يتكلم أحد في هذا الموضوع ( مؤامرة البلاغ 66 ، ومؤامرة السكوت على احتلال الجولان ).

5.

إن مانراه بالنسبة لمسألة الحوار مع النظام ، والذي يقبله ويدعو إليه ، بصورة أو بأخرى ، بشكل أو بآخر بعض أطراف المعارضة السورية في الداخل والخارج ، هوأن هذا الأمر كان يمكن أن يكون مقبولاً قبل 15 آذار 2011 ، وبالذات قبل أن يصل عدد شهداء الثورة ، وجرحاها ، ومفقوديها ومعتقليها ، ونازحيها ، ومهاجريها ، علي يد هذا النظام الهمجي ، إلى تلك الأرقام الفلكية التي أصبحت معروفة لدى القاصي والداني ، هذا إضافة إلى تدمير البنية التحتية لمعظم المدن والقرى السورية ، بحيث لم يعد للنظام في سورية مايحكمه ، بعد أن قتل وهجرالبشر ودمر الحجر وحرق وقطع الشجر ، اللهم إلاَّ مرتزقته وأقاربه ومن على شاكلته .

وسوف أقتبس هنا من الورقة التي قدمها الدكتورفايز الفواز في اللقاء التشاوري الذي انعقد في استوكهولم ( من 7 إلى 9 أكتوبر 2011 ) ، أي قبل سنتين من اليوم ، حيث يقول " وإذا كان بالإمكان حاليا تقديرالأضرار المباشرة التي لحقت بالبلاد من السياسة الممارسة خلال الأشهر المنصرمة ، فمن الصعب جداً ، إن لم يكن من المستحيل تقدير الأضرار البعيدة ، فالمجتمع يعاني من انقسام عميق ، والهوة بين النظام القائم وغالبية الشعب لم تعد قابلة للجسر ، والثقة فقدت " .

إننا في الوقت الذي نحترم فيه " الرأي الآخر " المختلف بصورة عامة ، إلاّ أننا نتمنى ألاّ يغيب عن بال المعنيين بهذه المحاولة ( الحوار مع النظام في جنيف ) مسألة العلاقة الجدلية بين الغاية والوسيلة ، من حيث أن النظام فاسد في الأمرين معاً ، وأن مابني على فساد لا يمكن إلاّ أن يكون فاسداً بالضرورة ، والعضو الفاسد ينبغي أن يبتر كي لايطال فساده بقية أعضاء الجسم ، والعاقل لايلدغ من جحر مرتين .

إن التناقض بين النظام والأغلبية الشعبية في الجمهورية العربية السورية ، أصبح تناقضاً رئيسياً وتناحرياً ،أي أن حلًه بات من الناحية العلمية والمنطقية والعملية رهنا بإسقاط أحد طرفي هذه العلاقة ، ومعروف هنا من هي الجهة المرشحة للسقوط ، إنه النظام وليس الشعب ، فالشعب لايمكن لأي خائن أو عميل ، ولا لأي مدفع أو طائرة أو دبابة أن تسقطه ، فلا نامت أعين الجبناء .

ـــ انتهى ـــ