الغزل الذي يؤكد الشكوك
محمد فاروق الإمام
لم يكن السوريون يوماً مرتاحون لمواقف واشنطن من الثورة السورية ولا من المواقف المذبذبة التي كانت تضبط تصريحاتها تجاه السلطة الباغية في دمشق، وبالتحديد تجاه بشار الأسد قاتل الشعب السوري وسافك دمه ومهجر أبنائه ومدمر كل أشكال الحياة في سورية، فقد أسمعنا جون كيري وزير خارجية واشنطن يوم أمس الأحد 6 تشرين الأول كيلاً من المديح لبشار الأسد ونظامه عند لقائه بنظيره وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في أندونيسيا، فقد صرح بأن "نظام الرئيس السوري بشار الأسد يستحق الثناء لالتزامه بتنفيذ اتفاق نزع الأسلحة الكيماوية." وأن "العملية بدأت في زمن قياسي ونحن نقدر التعاون الروسي ونشيد بالالتزام السوري"..
وأضاف كيري: "أعتقد أن تدمير بعض الأسلحة الكيماوية أمس الأحد في غضون أسبوع من تمرير القرار أمر بالغ الأهمية." وأن "هذا يحسب لنظام الأسد، بصراحة.. إنها بداية جيدة ونرحب بها."
وتعهد كيري في حديثه "بتصعيد الضغط من أجل تحديد موعد لعقد مؤتمر جنيف لحل الأزمة السورية سلميا في أواسط الشهر المقبل".
واشنطن التي تعودنا على تذبذبها منذ انطلاق الثورة السورية وأرجحة مواقفها بين صعود وهبوط ومد وجزر وحوك المؤامرات من تحت الطاولة.. تارة مع الصهاينة الذين يعارضون سقوط بشار الذي حمى، وأبوه من قبله، حدودها الشمالية لأكثر من أربعين عاماً، وأخرى مع إيران التي تعتبر سقوط بشار ونظامه خط أحمر يحرمها من إتمام هلالها الشيعي الذي تعتقد في إقامته رضوان لله وفتح مبين يحقق لها ولادة دولتها الصفوية، التي تمتد من حدود باكستان حتى البحر المتوسط، وتكون دول الخليج تحصيل حاصل محافظات من ضمن محافظات إيران الصفوية لقاء اتفاق هزيل من أجل ملفها النووي، ومحاباة لمصالح الدب الروسي الذي بات يعكر مزاج أمريكا ويقف في وجه هيمنتها كقطب أوحد في العالم دون حساب لثقله العالمي ومكانته كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن وبالتالي ملكيته لحق "الفيتو" الذي تمكن من خلاله إفشال أي قرار يندد بما يقوم به الأسد وما يرتكبه من جرائم بحق سورية والشعب السوري.
جون كيري لم يعد يحيك المؤامرات من تحت الطاولة مع أعداء الشعب السوري ومع أعداء ثورته بل خرج إلى العلن ليغير موقف واشنطن 180 درجة، فبعد أن كان يعلن أن على بشار الأسد أن يرحل وأن لا مكان له في سورية المستقبل ولا حتى في المفاوضات التي ستجري في جنيف 2، فها هو ذا يكيل المديح لهذا النكرة الذي أسقطته الثورة من سجلات سورية المستقبل، ويثني على ما قام به وما التزم بتحقيقه في سرعة قياسية فاقت ما كان متوقعاً، وذهب بعيداً عندما قال إنه "سيصعد من الضغط من أجل تحديد موعد لعقد مؤتمر جنيف لحل الأزمة السورية سلميا في أواسط الشهر المقبل".
وكيري يعني أنه سيمارس الضغط على المعارضة السورية وعلى أصدقاء سورية وفي مقدمتهم الدول العربية المساندة للثورة السورية وتركيا وبعض دول أوروبا، للذهاب إلى جنيف دون شروط مسبقة وتحت سقف رغبات موسكو وطهران، اللتان تعلنان صراحة أن المفاوضات في جنيف ستكون مع الرئيس السوري بشار الأسد، كونه الرئيس الشرعي المنتخب والذي هو حكماً لا يزال على رأس عمله ولم تنته ولايته الدستورية، وهو في الخيار بين تمديد ولايته لسنتين بحسب القانون السوري أو خوضه الانتخابات لولاية ثالثة!!
موقف أمريكا الضبابي والمبهم والغير أخلاقي تجاه الثورة السورية يعود إلى ضعف المعارضة السورية وخلافاتها، وإلى هزالة الموقف العربي وتردده، وعدم اتفاق أصدقاء الشعب السوري على موقف موحد تجاه هذا المجرم السفاح كما فعلت في البوسنة وفي كوسوفو وليبيا، وامتناعهم عن اتخاذ القرار الذي يضع حداً لهذا الباغية يوقف آلته العسكرية الجهنمية المدمرة التي قتلت حتى الآن ما يزيد على مئتي ألف مدني أعزل، وغيبت في السجون أكثر من ربع مليون، وشردت في الداخل أكثر من أربعة ملايين، وهجّرت إلى الخارج أكثر من مليونين.
كيري فرح لأنه حقق انتصاراً كبيراً بظنه عندما تمكن من عقد اتفاق بينه وبين نظيره الروسي في مصادرة السلاح الكيماوي الذي يمتلكه النظام السوري، بعد إقدام هذا النظام على جريمته النكراء في استعمال هذا السلاح ضد المدنيين العزل في الغوطة الشرقية، وأدى إلى قتل ما يزيد على 1600 إنسان جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن والمعوقين.. فرح كيري بهذا الانتصار الهزيل وجعل منه مغنماً يستحق عليه المجرم هذا الثناء وهذا المديح، دون أن نعرف ما وراء الأكمة ما وراءها من خبايا واتفاقيات بين موسكو وواشنطن قد تظهر لنا في قابل الأيام، وهذا النصر الهزيل الذي حققه كيري واعتبره اختراقاً لمواقف موسكو صديق النظام السوري وحليفه، يجعلنا نستذكر قول الشاعر المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ...
وتـأتـي على قدر الكريم الكرائم
وتكبر في عين الصغير صغارها... وتصغر في عين العظيم
العظائم