هل هو العمي أم التعامي في التعامل مع الأموات؟

هل هو العمي أم التعامي

في التعامل مع الأموات؟

علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

[email protected]

الإنشغال بالصراعات الجانبية التي لا تقدم ولا تؤخر هي واحدة من مشاكل العراقيين التي لا تعد ولا تحصى. فبعض الصراعات ما زالت مستمرة بالرغم من إن نواة الصراع هياكل عظمية عفى عنها الزمن، ولا يرجى منها فائدة. صحيح إن التأريخ أبو الحاضر، والمستقبل إبن الحاضر وحفيد الماضي، لكن هذا لا يعني إن الأبن سيكون نسخة طبق الأصل من الأب، أو إن الحفيد يشابه الأب أو الجد في كل الخصائص. هذه المعادلة لا تصح إلا عندما تأبي العقول الحاضرة أن تغادر الماضي وتبقى متشبثة به تشبث الغريق بطوق النجاة. مع إنه من أبسط مقتضيات التفكير السليم والعقل الناضج هو الإستفادة من دروس الماضي لتلافي الوقوع في نفس الإخطاء. فالتأريخ دروس وعبر لمن إتعظ وتنور وأعتبر. وعديم الفائدة لمن تعنت وتجاهل وإغتر.

التأريخ علم متخلف، والمؤرخون أناس ينظرون إلى الوراء دائما. إن ليس أكثر من عملية نبش الماضي. وفعله أشبه ما يكون بضوء السيارة الخلفي، يُشعر الآخرين بوجودنا ويحذرهم من حركتنا، لكنه لا يكشف عما هو أمامنا من مطبات ومفاجئات. وهذا بحد ذاته مشكل، مشكل للحكام، ومشكل للشعوب ومشكل لعلم التأريخ نفسه.

البحث في التأريخ فيه الكثير من التداخلات والإشكالات التي لا يمكن الحكم عليها بالحسم والجزم. إنه  ليس حقائق دائما، فغالبا ما يكون ممزوجا بنفسية ومشاعر  ودوافع من كتبه، إنهم بشر لا يختلفون عنا، لهم أهوائهم وطباعهم ورغباتهم وهناك الكثير من المؤثرات النفسية والإجتماعية والدينية والثقافية والسياسية التي تجعلهم يميلون لهذا الطرف أو ذاك، مما يلغي الحيادية في رواياتهم. وهناك بعض المؤرخين كتبوا روايات ونقلوا أحاديث عن آخرين لقوا حتفهم منذ أكثر من ألف عام، ولا نعرف من أين أستقوا تلك الأحاديث والروايات سيما إنه ليس فيها سند تأريخي؟ هل هي نتاج حلم أو رؤية أو كهانة أو ضرب بالرمل؟ ولكن إذا اخذنا بعين الإعتبار طبيعة العصر والأجواء السياسية ومحاولات التقرب من الخلفاء والملوك والحكام، سيتكشف لنا كنز من الحقائق وبعضها مذهل للغاية.

فعلى سبيل المثال نجد إن كتاب الشاهنامة لأبي القاسم منصور الملقب بالفردوسي له إهمية كبيرة عند الفرس لا يضاهيها حتى القرآن الكريم نفسه، فقد أطلق البعض على الشاهنامة(قرآن الفرس)! وهذه الملحمة مع ديوان حافظ يكاد لا يخلوا منها بيت إيراني، في الوقت الذي تخلوا بعض الديار من القرآن الكريم. يمجد الفردوسي في ملحمته التي حاول أن يقلد فيها ملحمة هوميروس، تأريخ وسجايا ملوك الفرس، سيما المجوس منهم ويضفي عليهم مواصفات إلهية، ويشيد بالحضارة الفارسية التي يعتبرها تفوق حضارة بقية الأمم! وهي حضارة لا نعرف ما هي عظمتها مقارنة بحضارة وادي الرافدين التي كانت لهما منجزات كبيرة مثل سن أول قانون وإختراع اللغة والدولاب وغيرها. إن الذي إمتازت فيه الحضارة الفارسية لا يزيد عن تعظيم الملوك الفرس والأباحية الجنسية والحملات العسكرية، والدسائس والفتن والعدوان على دول الجوار سواء قبل الإسلام أو بعده. لقد مزج الفردوسي الحقائق بالخرافات، والوقائع بالأساطير في كتاب الشاهنامة. وزادها بالطعن في العرب والإسلام فوصفهم بأقبح الأوصاف.

أما لماذا قام الفردوسي بهذا العمل الذي أخذ منه اكثر من ثلاثين عاما؟

أولا: لأنه عبر عن نزعة الحقد والكراهية واللؤم والغدر التي كانت تختلج نفوس معظم الفرس ضد العرب والمسلمين. ثانبا: التعبير عن مشاعر الحنين والشوق الى المجوسية. ثالثا: محاولا إرضاء السلطان محمود الغزنوي بالتهجم على العرب والمسلمين من جهة أخرى، وكان المقرر أن يستوفي الفردوسي من الذهب ما يعادل وزن كتابه كما وعده الغزنوي. ولكن السحر إنقلب على الساحر! فالسلطان استغرب وإمتعظ من كثرة الإشادة بآل سامان بدلا عنه، والنزعة المجوسية الحادة في الكتاب التي لا تتوافق مع إسلامه، فخفض المكافأة إلى(20) ألف درهم من الفضة. لذلك فالذهب كان الدافع الرئيس وراء الكتابة.

ومن الكتاب أيضا اليعقوبي وهو من أصول فارسية من مدينة أصفهان وقد كناه العاملي بـ (الاصفهاني) في كتابه أعيان الشيعة، كإن جد اليعقوبي من موالي الخليفة المنصور. مع إنه يكني نفسه بالعباسي واطلق إسم الدعوة الهاشمية على الدعوة العباسية. فقد تولت أسرته وظائف مرموقة، وكان لديهم حظوة عند الحلفاء العباسيين، فإستمال للعباسيين وحمل الضغينة والكراهية لبني أمية، لذا العرق والجاه والمناصب كانت الدوافع وراء كتاباته. ومنهم ابن قتيبة وهو من اصول فارسية أيضا من مدينة مرو الروذ. تولى قضاء الدينور في زمن الخليفة المتوكل. وأهدى كتابه(أدب الكاتب) للوزير عبيد الله يحي بن خاقان فكافئه بالمال الجزيل. وأهدى كتابه الشهير(المعارف) إلى أحد إخوان الخليفة المعتضد فأعطاه(10000) دينارا. وقد قدح قدحا كبيرا في سيرة خلفاء بني إمية كسابقيه دون أن يفحص ويتمحص الروايات بل أخذها على علاتها من مصادرها الضعيفة. إذن المصالح المادية والمعنوية لها دورها الفاعل في إتجاه الراوي، مما يتطلب التأني والحذر مما يروي، وهناك المئات من الرواة ينطبق عليهم الأمر نفسه.

لذلك يعتبر التأريخ سلاح ذو حدين، وعلى من يبحث فيه، أن لا يعتمد على راوية ويعتبرها هي الصواب والبقية باطلة، والأهم من هذا وذاك أن يأخذ بنظر الإعتبار طبيعة المناخ السياسي ونزعة الراوي وأهوائه وأن يطلع على الروايات المعارضة لها، وإلا فالأولى به أن يترك بحر التأريخ جنبا ويعوم في شاطيء آخر. الكثير منا إطلع على ماساة كربلاء وما تركته من جراح في تأريخ الإسلام وما زال الجرح يتجدد يوم بعد آخر بدلا من أن يلتئم بفعل ألاعيب دهاقنة الدين وأفانين السياسيين. ولا أحد يجهل إن خروج الإمام الحسين لم يكن لأسباب دينية وإنما سياسية ورغبة في بالحكم. وهذا أمر طبيعي في التأريخ السياسي للأمم. فالإسلام في عصره كان قويا متسما بالإستقرار والهدوء، والفتوحات تجري على قدم وساق والأمة الإسلامية تزدهر وتتوسع. ومهما كان من أمر فإن أي مسلم لا يرتضي النتيجة التي إنتهى إليها الإمام الحسين بغض النظر عن الأسباب والدوافع لخروجه ومدى صحتها، فما تعرض له من إذلال وقتل، غير مقبول أبدا لا في تعاليم السماء ولا قوانين الأرض. لكن ما ترتب على المأساة من مآسي وما أعقبها من نزيف دم لا يمكن قبوله أيضا. فغالبية الجرائم التي أرتكبت في التأريخ الإسلامي عًلقت برقبة أهل البيت سيما الحسين، ولو كان الإمام الحسين قد عرف بأن خروجه سيؤدي إلى فتح حمام من الدماء لأربعة عشر قرنا، لأقفل الباب على نفسه بألف قفل وما خرج منه بتاتا ، ولعن السياسة والرئاسة بكل ما فيها من ويلات وكوارث.

بأسم الحسين قتل الملايين من العرب والمسلمين، وبأسم الحسين سرقت الملايين، وبأسم الحسين هُجر الملايين، وبأسم الحسين تشكلت أعتى الميليشيات الإرهابية في التأريخ من القرامطة الى الحشاشين وإنتهاءا بحزب الله وغيرها. وبأسم الحسين ترملت ملايين النسوة، وتيتم ملايين الأطفال، وبأسم الحسين إنتشر الأيدز والأمراض الجنسية، وبأسم الحسين شاعت تجارة المخدرات في دول الإسلام، وبأسم الحسين بلغ الفساد الأخلاقي القمة بسبب زواج المتعة والزواج الجماعي للزينبيات، وبأسم الحسين تغتصب النساء في السجون، وبإسم الحسين تحرق وتًغتصب جوامع أهل السنة وتتحول من مساجد الله إلى مساجد الحسين، وبأسم الحسين ينتشر الجوع والفقر والمرض والجهل، وبأسم  الحسين تراجعت الأمة الإسلامية قرون إلى الخلف، وبأسم الحسين إنشق الإسلام إلى شقين لا يمكن ترقيعهما ولو بعد قرون قادمة، وبإسم الحسين تصاعدت حالات الإنتحار عند الشباب، وبأسم الحسين يتم التعاون مع أعداء الإسلام، وبأسم الحسين توقف الجهاد في إنتظار إمام الحفرة. كل الموبقات وكل الكبائر والرذائل والخيانات سجلت بإسم الحسين، وهو منها براء. وما زال الصراع مستمر بين أتباع الحسين وممن لا يحسبون من أتباعه ولنفس الغرض، السياسة والمناصب.

الصراع بين الأحياء على الأموات زوبعة تأريخية لا تتوقف ولا تهدأ، بل إتسعت لتضم عائدية الأموات وهذا أمر غريب! وربما ينفرد فيه العراق عن غيره من بين خلق الله، سيما إن هذا الإنفراد يتصف بالعنف والإنانية والحقد ويصل إلى التكفير والقتل. فقد أقام أتباع آل البيت الدنيا في سبيل إعادة العتبات المقدسة في سامراء إلى الوقف الشيعي وسجلوا أنتصارا ماحقا على الوقف السني، وتبادولوا التهاني والتبريكات كإنهم وصلوا للمريخ، وليس إستعادة قبور لا نفع منها ولا ضرر، كما جاء في سورة فاطر/14 ((إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)).

وهذه الأيام شهدنا فصول تراجديا جديدة على مسرح مجلس شورى الدولة حول الأموات بالطبع! فالأحياء خارج إطار إهتمامهم. الصراع كان حول الرئيس السابق عبد الكريم قاسم، هل هو شهيد أم قتيل؟ إنها فعلا مسألة مصيرية للعراقيين، لهذا  تناقش في أعلى المستويات رغم إن مضمون النقاش هيكل عظمي سواء أعتبر شهيدا أو قتيلا فالأمر سيان. رحم الله جحا فقد سُئل إيهما أفضل المشي أمام الحنازة أم خلفها؟ فقال لا تكن فيها وإمشي كيفما تريد.

الطرف الأول من المتصارعين في مقبرة الزعيم الأوحد ما يسمى بمجلس شورى الدولة العراقية الذي رفض  أعتبار الزعيم قاسم شهيدا. والطرف الثاني لجنة الشهداء والضحايا والسجناء السياسيين البرلمانية(خاصة بالعملاء والجواسيس والخونة) مصممة على منحه لقب شهيد. وسيتم عرض الموضوع للتصويت في مجلس النواب العراقي لاحقا.

لكن هل سيتم أيضا شمول العائلة الملكية بلقب شهداء أيضا سيما إن طريقة قتلهم كانت بشعة للغاية ولم يستثنى منهم النساء والأطفال والشيوخ؟ وهل سيعرض الأمر على البرلمان لمناقشته؟ إن جرى الأمر كذلك وهذا هو العدل والإنصاف، فأن القاتل والمقتول سيعتبران من الشهداء، وهذا إشكال فلسفي نحتاج في حله إلى المرحوم سقراط في محاورة جديدة(محاورة الزعيم الأوحد)، إن عملية قتل العائلة المالكة تمت بأمر الزعيم قاسم ودماء العائلة المالكة برقبته. فالجمع بين القتل والشهادة أمر صعب هضمه! وكان من الأجدى بالفريقين المتصارعين أن يتركوا الأموات وشأنهم فهم بين أيادي الرحمن. وقد إنتهى نفاذ  قوانين الأرض عليهم وبدأ نفاذ قوانين السماء.

لا نزعم بأننا ضد هذا الطرف أو ذاك فالجميع أموات ولا يعنيهم منا سوى الترحم عليهم والدعاء من الله تعالى أن يضمهم برحمته الواسعة ويغفر لهم ذنوبهم. هذا هو افضل ما يؤديه الأحياء تجاه الأموات. أما بقية الأمور فإنها مجرد سفسطة لاتنفع الميت ولا تضره. قال الإمام علي" هم جيرة لا يجيبون داعياً ولا يمنعون ضيماً ولا يبالون مندبة". وحديث آخر" لا هم في حسنة يزيدون ولا هم من سيئة يستعتبون". (نهج البلاغة1/220).

الزعيم عبد الكريم قاسم شأنه شأن بقية الزعماء في العالم له من الحسنات والسيئات، فهناك من إنتفع منه، مثل أهل مدينة الثورة(مدينة صدام وأخيرا الصدر) الذين أسكنهم قاسم في العاصمة بغداد ووزع عليهم الأراضي مجانا فإستقروا فيها، فهم يعتبرونه قائدا فذا لأنهم إستفادوا منه. وهناك من تضرر من هذه السياسة التي كانت سببا مباشرا في تدهور الزراعة وإنتشار العادات والتقاليد البالية والجهل والفقر في العاصمة، فيعتبرونه قد إرتكب جريمة بحق العاصمة بغداد وأهلها الأصليين وكان من الأجدر به أن يوزع لهم الأراضي في محافظاتهم، ويمنع الهجرة من الريف إلى المدينة. ولكل من الطرفين بالطبع وجهة نظره سواء المستفيد أو المتضرر ويرى الحق بجانبه.

يبدو أن البعض ينطلق في دعواه بإعتبار الزعيم قاسم شهيد من منطلق إنه كان على عداء من البعثيين والقوميين وهذا ثوابه بالنسبة لهم. أي الأمر لا يتعدى النكاية بحزب البعث والقوميين العرب، وليس حبا بقاسم نفسه. فرئيس لجنة إحتفلات 14 تموز نجم الساعدي ألغى كل الشهداء العراقيين قبل قاسم معتبرا إن قاسم"هو الشهيد الاول وزعيم الشهداء". قد عرفنا الزعامة في الحياة أما الزعامة في الموت فهذا امر مثير جدا ويستحق العبقري الساعدي عليه براءة إختراع! والأدهى منه إن النائب خالد العطية(كتلة دولة القانون) طالب بتشريع قانون خاص وأوحد بشأن الزعيم الأوحد!

وكالعادة إنتقل النزاع حول قاسم من السياسيين إلى الشارع العراقي بين مؤيد للشهادة ومعارض لها، وخرجت تظاهرات في شارع المتنبي رفعوا فيها لافتات منها "صفة الشهادة لا يمنحها من لا يعرف معنى التضحية في سبيل الوطن". ‏ونجح ملعوب السياسيين فقد إنشعل الناس بالأموات متناسين مصائب الأحياء. ومن المؤسف حقا إن الكثير من المثقفين إنطلت عليهم اللعبة، سيما إن التظاهرات إنطلقت من شارع المتنبي الذي يرتاده عادة النخبة المثقفة والواعية من المجتمع العراقي، فما بالك بالجهلة والأميين.

نقول للشعب المنكوب: أنتم أحق من الأموات بالرعاية والإهتمام. وإن الشهادة يقررها الرب تبارك وتعالى، وليس المستفيدين أو المتضررين من الميت. فمتى تصهركم التجارب وتصقلكهم المحن وتستفيقون من غفوتكم الطويلة؟ رحم الله من قال" رب يوم بكيت منه... فلما صرت في غيره بكيت عليه" كأنه يعني بذلك العراقيين.

ونقول للمتظاهرين: هل مشكلتكم هي شهادة الزعيم؟ أليست لديكم مشاكل أخرى؟ أم انتم تعيشون في كوكب آخر؟ وإن كنتم فعلا تعرفون قيمة الشهادة! أليس من الأولى بكم أن تتظاهروا ضد من يرفع صور المجرمين الخميني والخامنئي في الساحات والشوارع، اللذان ملئوا شوارع العراق بلافتات الشهداء. إن تظاهرتكم هي من قبيل دفن الرؤوس في الرمال ليس إلا.

كلمة اخيرة لمجلس شورى الدولة ومجلس النواب، إتركوا الأموات بسلام ألم يكفيكم ما فعلتم بالأحياء؟