سورية تناديكم

د. عامر البوسلامة

[email protected]

(18)

العمل الإغاثي، بين الفردية، والعمل المؤسسي.

مع ازدياد محنة الشعب السوري، ونكبته بهذه العصابة المتسلطة على رقاب أبناء هذا الشعب وثرواته، وبعد ملايين النازحين والمهاجرين والمشردين، ومع ما يزيد على مائة ألف شهيد، ووجود ملايين المنازل المهدمة، ومئات الآف الجرحى والمعوقين، وأيتام يملؤون الساحات، وأرامل في كل بيت، أما المساجين، فحدث عن هذا ولا حرج، وقل مثل ذلك في شأن المفقودين، والبلد في حالة يرثى لها، في كل الجوانب، وعلى المستويات كافة.

في مثل هذه الأجواء، تبرز الحاجة الماسة للعمل المؤسسي الذي يكون سبيل أمان في نجاح أي عمل، لأن التخطيط طريق السلامة، للوصول إلى الأهداف المرسومة، والتنظيم وسيلة تجاوز السلبيات، وتحقق الإيجابيات، فالذي يخطط يعرف أين يمضي، وكيف يسير، ومتى يصل، والذي ينظم العمل، فهو من وضع خطته على السكة الصحيحة، على وفق المعطات، التي في نهاية المطاف، تؤكد على أن هذا العمل يمضي في الاتجاه السليم، ولا بد من العثرة، والكبوة لازم الجواد، والنبوة مرافقة للسيف البتار، ولكن يبقى العمل الجماعي، أقل خطأ من العمل الفردي، وبكل الموازين، وبهذا يصير صانع طمأنينة للمتبرعين، فالناس ملت العمل الفردي، والمؤسسة التي ترتبط بأشخاص، خصوصاً إذا كان بحجم الحاصل في سورية، غير قابلة للبقاء، وغير صالحة للاستمرار.

 والحاجة تتأكد أكثر، ومواجهة الحدث بما يستحق من تخطيط وتنظيم، بات من أهم الواجبات، التي لا يجوز التفريط بها ( وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

ومن العجيب، أن بعض الطيبين يقول لك: ولم كل هذه التكاليف والمصاريف، والموظفين، والمكاتب المستأجرة؟ كان ينبغي أن نوفر هذا لليتامى والجوعى....وهنا يمدد أبو حنيفة ولا يبالي، بل والله في سماع مثل هذه التصورات، تسكب العبرات، وتقتلك الحسرات، ودليل قاطع على أن بعض الذين يعملون في الإغاثة- وإن كانوا طيبين ويريدون الخير- ليسوا أهلاً لهذه المهة، فمن الحمق، أن يتصدر امرؤ لعمل لا يجيده....إذا لم تستطع أمرا فدعه.... وجاوزه إلى ما تستطيع، وحسن النية، والأمانة والطيبة، هذه لا تكون كافية للتزكية، في القيام بأي عمل، نريد القوي الأمين، هذا الذي يستطيع أن ينهض بالعمل، ويقوم بأعبائه.

يضاف إلى هذا،، أن كثيراً من شعب العمل الفردي، رافقته سمعة سيئة من بعض الذين تعاطف معهم الناس، في بداية الأمر، وتبين أن قسماً- ولو كان قليلاً- ليس على المستوى المطلوب، في جانب الأمانة، ما حدا ببعض المتبرعين أن يتريثوا، لأن مالهم يريدون أن يصل للجهات المعنية في الإغاثة، ويبحثوا عن ملاذ آمن، من خلاله تصل أموالهم لمستحقيها.

ومن الأمور التي جعلت العمل الفردي أو الشخصي، غير موثوق به في جانب الإغاثة، ما حدث نتيجة ذلك من أخطاء قاتلة، وتبديد للمال، وعدم معرفة في ترتيب الأولويات، أو ضعف في الوقوف على مباديء العمل بحقائقه العلمي، فضاعت كثير من الأموال، بسبب مثل هذه الاختلالات، وفشلت بعض المشاريع، بفعل عوامل النقص المعرفي لأصول العمل. وتسأل أحدهم: ماذا صنعتم بالملايين؟ فتأتيك الإجابة الصادمة، مما لا مجال لتفصيل حقائقها في هذه العجالة، رغم أن كثيراً منهم طيبون، ويريدون الخير، وهنا يكون الفارق بين عمل الفرد وعمل الجماعة، وهنا يتضح الفرق بين العمل المؤسسي، والعمل غير المؤسسي، أو قل العمل العشوائي، أو العمل الارتجالي، وهذه كلها مصائب، في عصر، لغته كلها قائمة، على البرمجة، والمعلوماتية، والمراكز البحثية، والمعامل الطابخة للقرار.

والحمد لله برزت على الساحة، كثير من المؤسسات العاملة على الساحة، بلغة الفهم الصحيح للعمل، وبدأت ثمارها، يراها القاصي والداني،، على امتداد الوطن الحبيب سورية، وما (جمعية عطاء، للإغاثة والتنمية) سوى نموذج من هذه النماذج الفاعلة والعاملة، نتمنى لهم التوفيق والسداد والنجاح، ولكل العاملين بجد من أجل خدمة شعبنا، وقضيته العادلة.

وهذا يقتضي من كل الداعمين التعاون والمؤازرة، لأن الحمل يخف بكثرة حامليه. ( ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته) .

سورية تناديكم ( 19)

ريف دمشق مصيبة كبرى، وقصف بالكيماوي.

صفحة من صفحات المأساة، تسطر بلون الدم، ورائحة الموت، وخنق الكيماوي، وأصباغ أحدث الخلطات القاتلة في عالم التحديث والتطوير،، والتقدم، لتضيف إلى مجلدات الكارثة صفحة،، وإلى سجل الكارثة فصلاً، وإلى الثورة السورية ملفاً من الملفات الخطيرة، وإلى موسوعة ما تقشعر منه الأبدان قسماً، ولكنه غني بالأحداث والوقائع، شكلاً ومضموناً، ندرة وتصويراً.

إن الذي يجري، في ريف دمشق هذه الأيام، وقبلها من الأيام، يؤكد وبشكل صريح وواضح على جملة من القضايا والمسائل، خصوصاً بعد هذه الأعداد الكبيرة من الشهداء، ونخص بالذكر منهم الأطفال والنساء والشيوخ، وما يحصل لهم، ومن هذه الأشياء التي تؤكد:

تخاذل المجتمع الدولي، وتعاطيه مع الحدث السوري، بروح تآمرية مزرية مؤسفة، تسجل تأكيداً إلى تأكيد، على أن الذي يحصل من تفرج، وسير بنسق مدروس من أول الثورة إلى اليوم، ليس ضعفاً – وهذا أمر مضحك- ولا عجزاً- وهذه نكتة العصر- وليس حيرة، ولا انقساماً في المجتمع الدولي، كما يزعمون ويدعون- فهذه ذريعة ما عادت تنطلي على أحد- ولكن الأمر بات واضحاً وصريحاً، بأن المشهد الكارثي، لأهل سورية بكل ما حمل، يريح كثيراً من أدعياء الحرية وحقوق الإنسان، أن يروه واقعاً في سورية، ولكن بصورة عكسية، تلف المشهد، بالأكفان للقاء الله شهداء أطهار، وبنفس الوقت تكون هذه اللفافة كفناً، ندرج فيه منظمات العالم، التي بات من العار عليها والشنار،، أن تبرز في أي مشهد من مشاهد البؤس بعد اليوم، إلا مطبلة أو مزمرة، طبعاً نستثني من له بواكي، لأن الذي يحدث في سورية، لو حدث جزء منه في أي بلد من البلدان إياها، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولجيشت جيوش العالم من أجل نصرته، فأي عار تتلطخ به لافتات المجتمع الدولي، في زمن الثورة السورية، وغيرها من ثورات الربيع العربي، حقاً أصبحنا على مفترق طرق، تأبى فطرة الحياة أن تمضي الأمور على هذا السياق، وبهذه الوتيرة، وهو مبشر بقادم، يشترك فيه أحرار العالم، لتشكيل لوائحه بلغة جديدة،، قوامها العدل والمساواة، والتعاطي المنصف، مع قضايا حقوق الإنسان، كإنسان، ولا أدري، كيف يكون ذلك، لكن الظلم ظلمات،، ولا يمكن أن يدوم، من هنا على أحرار العالم والغيارى، من كل جنس ولون وعرق ودين، أن يكونوا عوامل علاج وإنقاذ، فيساهموا في إعادة العنب إلى سلته، وما يحدث بمصر شكل من هذه الأشكال، أما ما يحدث في سورية، فهو فاضحة الفضائح....فالعجل العجل....قبل أن تغرق السفينة على أيدي سفهاء الأرض، ومنهم نظام إيران وأذنابه، في كل مكان.

على أمة العرب والمسلمين، أن يغيروا من بوصلة تحركهم، الذي يكتفي بالعواطف، والاختباء وراء، شاشات التلفزة، لتلقى الأخبار، والتفاعل معها بطريقة العصر المشاعري، الذي يقف على الأطلال، ويجتر المأساة، ويتعامل معها بطريقة شعراء الجاهلية، أو أدباء المهجر، ومن باب أولى أن لا نتعامل مع حوادث التاريخ بلغة أهل الخرافة والبدعة...................الأمة اليوم- كما العالم كله- أمام مفترق طرق، فلا بد من مشاريع عمل، لنؤدي الذي علينا من واجب، ولا نكتفي بما نقدم من فتات، أو ما نقوم به من رفع عتب وتسجيل موقف من خلال مظاهرة، أو وقفة احتجاجية، وكأننا نحتج على ظلم زوج لزوجه...........الأمر كبير وخطير، ويحتاج منا إلى جهد وعمل، وتحويل مسار الدعم، في القضية السورية- مثالاً- إلى مسألة حسم، ننهي من خلالها مسألة التوازن المهلك، الذي يكاد أن ينهي البلد من طرفه إلى طرفه.

مع الشكر الجزيل لكل من قدم لشعب سورية ( ومن لا يشكر الناس، لا يشكر الله) من حكومات وأفراد ومنظمات ومؤسسات، الذين قدموا الكثير، ولكنه قليل بالقياس للمطلوب، ولأن المقدمين جزء من كل، وفي هذه الحالة نريد تفاعل كل الغيورين، لنحقق المراد، ولا نامت أعين المتخاذلين والمتآمرين والمتفرجين، أما من يساند الظالم المجرم، فعليهم لعائن الله............( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) .....

سورية تناديكم ( 21).

ما أصعب أن...

كثيرة هي المصاعب بالحياة، ولكنها تتفاوت قوة وضعفاً، من حالة إلى أخرى، فليست جميعها، تكون على سوية واحدة، وفي نهابة المطاف/ ما أصعب أن:

تدخل بيتك، فتجده خاوياً، لا أنيس ولا جليس، لأن الأولاد وأمهم، صاروا دفعة واحدة، تحت التراب، بفعل قصف غادر، أو مواد سامة، أو مذبحة جماعية، من خلال مجزرة، والناس غافلون.

ما أصعب أن، تنظر إلى طفلك جائعاً، ولكنك عاجز عن أن تقدم له الطعام والشراب، يستغيث بك: بابا أنا جائع، بابا أريد الخبز، والزيت والزعتر؟؟!! تأخذك الحيرة، تصيبك الدهشة، تذهب يمنة ويسرة، إلى الأمام وإلى الخلف، وليس أمامك إلا أن ترفع يدك، إلى السماء تدعوا الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير.

ما أصعب أن تشاهد مأساة أمة، بكل مستوياتها، ومنحنياتها كافة، هذاجائع، وذاك يئن من المرض والجراح، وفي زاوية المشهد، أسرة تنام في حديقة، أو ربما في صحراء، لأنها لا تجد مأوى، ومن بعيد تسمع صريخاً لا تكاد تتبين مصدره، ينادي: يا أمة الخير!! الشبيحة يقتربون مني، ومن أسرتي، السكين على الرقبة، وبيني وبينهم خطوات، وأنت مكبل لا تستطيع فعل شيء، لأن من كان في الأصل عليه أن يتعاون لم يفعل ذلك، وبقيت تقتلني الحسرة، وأكاد أن أموت غظاً، وأذبح من غير سكين.

ما أصعب أن، يناديك، من بين الأنقاض، مناد،، حتى تخرجه، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن لا تجد حيلة للوصول، فلا جرافات، ولا ماكنات، وأدواتي كلها بدائية.

ما أصعب أن، يستنجد بك، من يطلب سلاحاً ليحمي نفسه وعرضه، فلا تجد سوى سكين، أكل عليها الدهر وشرب، تقبلها، وتمسح عليها بطرف لسانك، عسى الله أن يجعل فيها البركة، وتفعل فعلة سيف، أو رشاش أو مدفع، ربما،،،،،، لا تدري.

ما أصعب أن، ترى في منامك، أنك في بساتين الغوطة، تتجول في أفيائها، وتأكل من ثمارها، وتتنسم هواءها العليل، تروح وتغدو كأنك في جنات النعيم، ثم تستيقظ على صراخ آخر شهقة لطفلك الوحيد، ومعه قطته الأليفة، التي تنام بجانب فراشه كل ليلة، بسبب غاز السارين، أو حملات الكيماوي.

ما أصعب أن، تقهر وتدمر، ويفتك بك، والمجتمع الدولي، بكل مؤسساته يتفرج، ولنكن منصفين، يستنكر ويندد، وربما أصدر بياناً بذلك، أو صرحت جهة رفيعة المستوى، بضرورة الحل، ولزوم رحيل النظام، ولكن ؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!.

ما أصعب أن، تنتظر الليل كله مؤسسة دولية، لتقول كلمتها في مظلمتك التي لا مثيل لها، ولا نظير، فتكون المفاجأة بعد طول ترقب، مع تلهف يحدوه أمل، أنهم أصدروا بياناً ينتصر لدمك، ويعيد البسمة لوجهك، ويقتص به من القاتل الظالم؟؟؟!!! وهنا فعلاً، تتكون في النفس معالم حضور نفسي شديد الوطأة،، وفي الأول والأخير، حسبنا الله ونعم الوكيل.

ما أصعب أن، يتسلى الراقصون على الجراح بمصابك، بألوان مختلفة، وأشكال متنوعة، وصور ملونة، وروائح مذهلة، وطعوم في نكهة الدم، وأشربة بأصباغ الكارثة.

ما أصعب أن، يخرج المرء لعمله آمناً، وبعد ساعة يدعى، لدفن صغيره، وتكفين زوجه، وتوديع الشاب اليافع، والفتاة العروس، والعوض من الله، والابتلاء سنة الله تعالى في خلقه، والصبر مفتاح الفرج، والشهادة أعظم أبواب دخول الجنة.

رغم كل الصعوبات، لا أنسى بوارق الأمل، في إخوة ساندوا وقدموا وبذلوا، وأشقاء اصطفوا مع شعبنا، وأحرار ترجموا ما في سواكن النفس ليحولوها برامج عمل، شكلت بمجملها، لوحة رائعة مكتوب على رأسها. ( وتعاونوا على البر والتقوى).