جنرال الأزهر
أحمد فال ولد الدين
لا أرمُقُ محيّا شيخ الأزهر – أو جنراله على الأصح- إلا تذكرت عبارة بليغة كان علماء المسلمين يرددونها قديما: “إذا أكل العالِمُ من مرْقة السلطان احترق لسانُه عن قول الحق”. ولا أردد النظر في مواقفه مما تمور به مصرُ ومساهمته فيها إلا اقتنعت بقدرة حسني مبارك على اقتناص طراز رجاله بعناية.
فلقد نجح هذا الجنرال المعمّمُ في الظهور حيث كان ينبغي أن يختفي، وفي الاختفاء حيث كان ينبغي أن يظهر. فعندما قرر عسكريٌ متعطشٌ للسلطة والدمِ الانقلابَ على رئيس منتخب جاء الجنرال الأزهري متلففاً بعباءته يتعثر بين العباءة القبطية والبرادعية ليسوغ اغتيال أحلام المصريين بالكرامة الآدمية. أما عندما سالت دماء المصلين صبيحة مجزرة الحرس الجمهوري فأعلن السيد أحمد الطيب أنه معتكف! وعندما سالت دماؤهم أخيرا في أنحاء مصر كلها أعلن أنه لم يكن على علم بنية فض الاعتصام.
كنتُ لحظتها أرْمُقُ التلفازَ وقلبي يكاد يقفز من بين جنبي مرددا: “وإن يروا سبيلَ الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلا”.
لقد ظل للأزهر في النفس المصرية الشعبية مكانة مرموقة وموقع خاص إلى أن جاءت قامات مثل شيخه الحالي فقزمته إلى مقاسها العقلي والنفسي. لقد ظل الأزهر تاريخيا مؤسسة أهلية منفصلة عن السلطان تحظى بشعبية هائلة بين الناس. لكن من أدوء الداء الذي زرعه العسكر في مصر خلال سنوات حكمهم العجاف إحكام قبضتهم على الأزهر وربطه بأمن بالدولة انتهاء بتعيين مشايخه.
عندما وصل المحتل الفرنسي نابليون إلى مصر وجه كل طعناته الأولى للأزهر لعلمه بمكامن القُوى في المجتمع. فالأزهر يمكن أن يجيّر ليصبح كتيبة من جحافل الظالم كما يمكن أن يستقل يصبحَ أقوى قلعة لصد الظالمين.
لقد فهم جمال عبد الناصر وخلفاؤه من بعده ذلك جيدا وطبقوه.
أدت تلك الإجراءات إلى وصول شخص مثل الجنرال أحمد الطيب إلى مرتبة شيخ الأزهر في النهاية. لقد كان أدنى حالات شيوخ الأزهر المساهمة في الحياة الثقافية على الأقل حتى بعد إخضاع العمامة للحذاء العسكري. فكان شيخ الأزهر دائما شخصية تُثري الثقافة على الأقل – مثل محمود شلتوت وعبد الحيم محمود وآخرون. لكن الانحدار أوصل في النهاية إلى أحمد الطيب، حيث لا إسهام مقنع في الثقافة ولا مواقف مشرفة. بل لسان كليل عن قول الحق، وعقل عاجز عن إثراء الفكر.
لكن ما يحيريني أنه إذا كان أحمد الطيب لا يؤمن بالمُثُلِ ولا يخشى ربه، وكل ما يهمه أمر الدنيا فكيف غاب عنه أن للدنيا طريقا كان يمكن نيله بطريقة أفضل وأشرف.
فلولا الخور لاستطاع ضابط الأزهر أن يجد لنفسه مكانة تؤدي إلى أن يحترمه الجميع بعيدا عن الإيغال في مشروع المؤسسة العسكرية التي أتت به. كان يمكن أن يتبنى مباردة جادة، أو ينزل إلى الميادين معلنا حياديته –وإن كانت زائفة- ودعوته للجميع أن يتفقوا سريعا. حتى خطوات باردة مثل هذه عجز عنها الضابط الأزهري.
لكن المتأمل في تاريخ أحمد الطيب لا يُفاجأ برسوخ قدمه في المداهنة وعلوّ كعبه في تملق العسكر وعطفه على الاستبداد.
فالرجل اختاره مبارك تحت ضغط عالم ما بعد 11 من سبتمبر، فعينه شيخا للأزهر عام 2003. وأنت إذا تأملت في اختيار الرجل لمنصب ديني حساس في تلك الأيام ستفهم درجة الثقة فيه. لقد نثر مبارك كنانته في تلك الأيام فلم يجد أصلح للمنصب منه. ومن المعبر عن نمط تفكير الرجل أنه كان عضوا بلجنة السياسيات العامة لحزب مبارك، فطلب منه البعض الاستقالة بعدتعيينه فرفض رفضا باتا.
يُروى عن الإمام أحمد بن حنبل، أن حراس السجن سأله: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له: لا، لست من أعوان الظلمة. إنما أعوان الظلمة من يخيط لك ثوبك ويطهو لك طعامك. أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!
إن شيخ الأزهر من الظلمة.
منقول عن مجلة العصر
http://alasr.ws/articles/view/14545