من متلقٍّ سلبيٍّ إلى محقّقٍ مبادِر
محمود صالح عودة
برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة شديدة السّوء والخطورة، تتمثّل في تصديق القرّاء، المستمعين والمشاهدين كلّ ما يرونه ويسمعونه من أخبار وروايات عبر وسائل الإعلام المختلفة، المرئيّة والمسموعة والمقروءة.
هي ليست ظاهرة جديدة بالطبع وموجودة منذ القدم، لكنها تبدأ بالتوسّع والانتشار عند وجود قضايا خلافيّة بين الناس، لا سيّما تلك المتعلّقة بالخلفيّة العقائديّة، الأيديولوجيّة والسياسيّة.
فهناك الصحف المطبوعة، ومواقع الإنترنت، والقنوات التلفزيونيّة التي تعمل لجهات حزبيّة، فتراها لا تخرج عن الخطّ المرسوم لها منذ البداية ولا تتعدّى حدود الهويّة الحزبيّة وخلفيّاتها الأيديولوجيّة. الأمر ذاته موجود لدى الفرق الدينيّة والمذهبيّة في معظم أشكالها وأطيافها، والفرق اللّا-دينيّة والعلمانيّة من ضمنها. هذه الوسائل الإعلاميّة لا تشكّل خطرًا ملحوظًا على القارئ، المشاهد، والمستمع المدرك لخلفيّات وسائل الإعلام هذه، ففي معظم الأحيان يكون المتلقّي على علم بالخلفيّة فيبني رأيه مع هذا العلم.
كلّ جهة تبرز حسناتها وتتستّر على سيّئاتها، بينما تعمل العكس مع خصومها، فتركّز على سلبيّاتهم وتخفي حسناتهم، وهذا ما يجب أن يأخذه بالحسبان كلّ متلّقٍ ويذكّر نفسه بذلك بشكل مستمرّ، كي لا يظنّ أنّه أو الذين يتبعهم أو يميل إليهم على الحقّ دائمًا.
الخطورة تكمن في الكذب المتعمّد لتشويه صورة الآخر والتّحريض عليه بغير حقّ، الذي يتقنه البعض من الجهات المذكورة آنفًا، إذ يقوم ببثّ هذه الأكاذيب والأباطيل أصحاب المصالح الشخصيّة والأجندات المشبوهة من تلك الأطراف، مع الذكر بأنّ هؤلاء يكثرون في جهات معيّنة ويقلّون في جهات أخرى.
فيسعى أولئك من غرفهم السّوداء بكيل الاتهامات الباطلة والتشويه المتعمّد لخصومهم، ولا يكون ذلك في كثير من الأحيان نصرةً لفكرة أو حقّ، إنّما خدمة لرأس المال أيًا كان.
ليس القصد من هذه السطور وعظ أصحاب النفوس المريضة الذين يبثّون سمومهم في المجتمع، فإنّ كثيرًا منهم وصلوا مرحلة اللّا-عودة. فلجمهم يكون واجبًا على سلطة الدولة من خلال القانون إن كان عادلاً، أو من خلال الشكاوى والاعتراضات القانونيّة من قبل المختصّين في هذا المجال.
ولأنّ السلطات في معظمها ليست عادلة فإنّ انتظارها للقيام بمقاومة الأكاذيب والأباطيل التي تنشر الفساد بين النّاس يصبح شيئًا من العبث، فكثير من المنابر الإعلاميّة هي ملك خاصّ، وتوقيفها يحتاج إلى موازنة دقيقة بين حريّة التعبير و"حريّة التدمير".
لذلك فإنّ تحويل المتلقّي من مجرّد قارئ، أو مستمع، أو مشاهد سلبيّ، إلى محقّق فعّال ومبادر، هو الحلّ. قد يقول البعض إنّ هذا الحلّ ليس واقعيًا لأن معظم الناس ينظرون إلى العناوين والأشكال ولا يدخلون أو يتعمّقون في المضمون، وهذا صحيح، إنّما هذا الواقع السلبيّ لا يجب أن يمنعنا من الدعوة إلى تصحيح المسار، لا سيّما وأنّ المسؤوليّة أصبحت أكبر بكثير من ذي قبل، فالمتلقّي السلبيّ لا يضلّ نفسه فحسب بل يضلّ غيره من النّاس بسبب كسله المؤدّي إلى جهله وبالتالي جهل غيره، وهذا الجهل يكون ثمنه أحيانًا الكراهية والحقد، بل القتل وسفك الدماء كما نرى اليوم من خلال الأحداث الجارية حولنا.
المسألة ليست سهلة وتحتاج إلى بذل جهد، وهذا الجهد في مساره الصّحيح يصبح جهادًا في سبيل الله، الذي لا يريد ظلمًا للعالمين. فبذل الجهد في التحقيق وإن أخذ مزيدًا من الوقت والتفكير والتدبّر إنّما يثمر ويزهر ويبدأ بتحويل المجتمع من مجتمع متصارع متضارب إلى مجتمع متقاهم، متسامح ومحترِم للآخر، "مجتمع السّلم".
"مجتمع السّلم" هذا من أهمّ أركان الأمّة والدّولة لأنّه يشكّل بنيانهما من الأسفل إلى الأعلى، كما أنّه يعين على تحصين هذا الكيان والبنيان من الاختراق الذي عانينا منه طويلاً وما زلنا. نحن بأمسّ الحاجة إلى بذل جهد لترشيد استيعاب المعلومات وتمييز خبيثها من طيّبها، وإيجاد السمّ في عسلها، لأنّ المعلومات التي نستوعبها تتحوّل إلى أفكار، تصرّفات، أخلاق وأعمال، فإن خبُثت خبُث ما بعدها، وإن طابت طاب ما بعدها.
فالله نسأل أن يوفّقنا ويهدينا إلى الحقّ دومًا، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4).