طريقنا انتظار للوعد وثقة في النصر
إن الذي يعيش مع الركع السجد في الميادين وخاصة ميدان رابعة العدوية ليتأكد وهو يراهم يلحّون على الله بالدعاء وينتظرون فرج السماء أن تفتح أبوابها ويستجيب المولى لدعائهم، فما جاؤوا للميدان من أجل مال ولا جاه ولا سلطة يبغونها إنما جاؤوا ليحققوا معية الله فيهم القائل: (وقال الله إن معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأقرضتم الله قرضا حسنا) فصاموا نهارهم وأقاموا ليلهم وأنفقوا أموالهم وهم يقولون للناس جميعا (لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا).
إنهم يقتدون بالجيل الإسلامي الأول الذي تربى أفراده تربية إيمانية عميقة في ميدان الصراع والمدافعة بين الحق والباطل، وفي زحمة الحركة اليومية، وفي سط التدافع والاندفاع والتحدي، والشخصية التي تربيها التجارب والأحداث أقدر على العطاء، وأنجح في مخاطبة الناس وهي في نفس الوقت أقدر على مواجهة المشكلات وتجاوز المصاعب والعقبات وكل ما يصد عن السبيل لإعاقة تحقيق الأهداف السامية.
إن المعاناة التي يعاني منها أصحاب المبادئ والقيم وهم يعلمون سنن الله في كونه التي لا تتبدل ولا تتغير وهي أن الأيام دول فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُساء ويوم نُسر (وتلك الأيام نداولها بين الناس) فدوام الحال من المحال، فلا القوي يبقى قويا مدى الأيام ولا الضعيف يبقى ضعيفا مهما تقلب الليل والنهار، ولكن مع الإيمان بهذه السنن إلا أن العاقبة للمتقين، ومهما أصاب المسلمين من بلاء وشدة فإن النصر حليفهم وهذا وعد الله ولن يخلف الله وعده (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ...).
إن هذه المعاناة جزء من المنهج التربوي واللازمة التي تكررت على طريق النبوات والدعوات على امتداد التاريخ والتي تبدأ بتحمل الإيذاء سخرية واستهزاءً وتعذيبا وتنكيلا، وافتراءات كاذبة وادعاءات لا أخلاقية حتى تصل إلى إخراجهم من أوطانهم كما يحدث اليوم في سوريا وبورما والفليبين وسائر بلاد المسلمين (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)، فاصبروا وصابروا ورابطوا فالنصر آت آت ولكن الجنة والفردوس الأعلى لهم ثمن فسلعة الله غالية (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب).
إن شعار المرحلة (كلا لا تطعه واسجد واقترب) فاكثروا من الركوع والسجود فأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وبهذه التربية الإيمانية صنعت من الجيل الأول رجالا عقدوا عزمهم على غاية تناهت في العدالة والسمو ونذروا لها حياتهم على نسق تناهى في الجسارة والتضحية والبذل، فجددوا للحياة قيمها الروحية، وأنجزوا كل الذي أنجزته في بضع سنين وشادوا بالقرآن علما جديدا يهتز نضرة ويتألق عظمة ويتفوق اقتدارا.
إن ما نراه في الميادين معجزته الحقة تتمثل في تلك القدرة النفسية الهائلة التي تتمتعون بها والتي فتقها الإيمان وقواها اليقين وزاد اعتصامكم بإيمانكم على نحو تتعجب معه الدنيا من حولكم لصمودكم وثباتكم واستمراريتكم حتى حققتم قول الله (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
وإن تعجب فأتعجب لهؤلاء الأخوات اللائي في الميدان يشاركن الرجال وقفتهم وترى واحدة منهن وقد حملت على كتفها صغيرها أو إن شئت فقل رضيعها لا تبالي حرارة الشمس ولا قسوة الجوع والعطش في هذا الشهر الكريم، يذكروننا بأسماء بنت أبي بكر وأم عمارة بل بالخنساء فقد سمعت بالأم التي تفخر باستشهاد ابنها وتقول: زغردي يا أم الشهيد ونسأل الله أن يلحقها بابنها في مستقر رحمته.
هذا هو المنهج الحق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. إنه بناء الرجال والنساء بهذه التربية صبرا ومثابرة وثقة في نصر الله وهو مستمد من العقيدة الواقعية التي تعتبر من حاجات الإنسان، وهي وطنه، وهي مطالبه، وهي آماله وأشواقه، إنها مطابقة له تماما متناسقه معه دائما يجد فيها أنس روحه وتحقيق طموحه، وسعادة قلبه، ونظام عبادته ومعاملاته، وقوانين مجتمعه، حتى تصبح صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين.
فحق لنا جميعا أن نقول: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
*************
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل