كعكة أمريكا: لماذا يلتهمها الجميع؟

كعكة أمريكا: لماذا يلتهمها الجميع؟

زانة الشهري / كاتبة سعودية

عندما اكتسح طوفان الثورات المنطقة العربية بدأ المؤرخون في دراسة الحالة الشرق أوسطية، حيث يرى الكثير منهم أنها مرحلة من مراحل التحول الديمقراطي العالمي الذي تعود جذوره تاريخيا إلى الثورة الفرنسية، والتي يرى البعض أنها، رغم البعد الزمني فيها، لا تعدو كونها تجربة واحدة تجوب العالم بين الفينة والأخرى.

ومسائل الجدل هنا محدودة، فالسيناريو في كل الثورات يكاد يكون متطابقا. لكن الجدل الأكبر في التجربة الثورية للمنطقة، ليست في كيف صنعت بل في من صنعها؟!

ذهب البعض إلى القول بان قوى غربية كبرى كالولايات المتحدة هي المخطط والمدبر لثورات العرب أو ما يعرف بالربيع العربي مستشهدين بتاريخ هذه القوى في العبث بخارطة المنطقة، كالدعم البريطاني لثورة الشريف حسين وسقوط الخلافة العثمانية والدور المفضوح تاريخيا لهذه القوى في دعم نشوء الدول العربية بشكلها الحالي.

ويغفل أو يتغافل هؤلاء عن مقاومة شعبية أثرت هي الأخرى في التاريخ العربي، وعلى رأسها قصص الكفاح التي سجلتها الشعوب العربية لطرد المستعمرين.

إلا أنني هنا لست بصدد الحديث عن تاريخ الشعوب العربية في رفض الاستبداد بل سأتحدث عن واقعها الذي رفض ولا يزال يرفض الاستبداد. وسأقدم تفنيدا لمن يدعون أن الربيع العربي صناعة أمريكية بالدرجة الأولى، فهو نضال شريف لشعوب وجب علينا احترام دماء شهدائها وجرحاها بدلا من اتهامهم بأنهم ينفذون أجندات أمريكية.

يرى مفكرون شرقيون وغربيون أن محرك الربيع العربي داخلي ناتج عن سياسات قمعية واستبدادية لم تحقق لشعوبها الرخاء والازدهار المأمول.

وهذا يبدو مبررا كافيا للرد على أي ادعاء بان الثورات محركها خارجي، إلا أن تتبع الثورات العربية في ما يسمى بالربيع العربي حاليا قد يكشف لنا أيضا بطلان هذا الادعاء بشواهد لا تقبل الجدل.

بدأ الربيع العربي في تونس التي تمثل الأنموذج الأكثر انفتاحا في دول المغرب والمشرق، إلا أن شعبها في الوقت نفسه كان يعاني من ضيق العيش وتدهور اقتصادي ملحوظ أرهق التونسيين وزادتهم سياسات القمع قهرا فوق ما يجدون.

فقصة البوعزيزي مع الشرطي الذي صادر عربته وصفعه تمثل القهر الذي كان يجده المواطن التونسي من ضنك العيش وفوقه قمع النظام، فلماذا لا يثور؟ إ

لا أن هناك شواهد أخرى على الإرادة الشعبية في الثورة التونسية، فقد برر الوزير الغنوشي استقالته في 17 يناير عام 2011 بفشله في كسب ثقة الشعب، تاركا القرار لهم لعلمه بأن الشعب الآن لا يزايد على حريته التي بذل من اجلها أغلى ما يملك.

نجاح الثورة في تونس وهروب بن علي وتجميد أرصدته ألهمت الشعوب العربية بإمكانية التخلص من الطغيان والظلم، فلم تكن أفضل حالا من الشعب التونسي.

وامتد الطوفان إلى حليف استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة وهي مصر، فقد اجتمع المصريون المخنوقون بقانون الطوارئ منذ عام 1967 في ميدان التحرير معلنين رغبتهم في إسقاط النظام ليلحق بنظيره التونسي.

عندها قامت ما تعرف بثورة 25 يناير التي خططها ونفذها الشعب المصري عير شبكات التواصل الاجتماعي على مرأى ومسمع من العالم اجمع. وصرح بعض الثوار ممن وقفوا في ميدان التحرير أن من مساوئ مبارك خضوعه التام لرغبات أمريكا وحمايته لمصالح إسرائيل.

فتاريخ مبارك يشهد له بأنه حليف جيد للأمريكان، وقد دعم العمليات العسكرية في العراق لإسقاط نظام صدام حسين مقابل إعفاء مصر من ديونها العسكرية التي بلغت 7 مليار دولار.

خسارة كهذه جعلت الولايات المتحدة متحفظة في تصريحاتها بشأن ثورة 25 يناير، إلا أن الطوفان والغضب الشعبي في مصر أحرج الإدارة الأمريكية فخرج الرئيس الأمريكي في 11 فبراير، معلنا أن على الرئيس المصري التنحي عن الحكم "اليوم وليس غدا".

وقد تحفظت الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون على  وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، ورغم محاولات التقرب للحكومة الجديدة في مصر، إلا أن الأحداث تدل يوما بعد يوم على ميلها للمعسكر الشرقي، فكيف يمكن أن تخطط أمريكا ربيعا عربيا يفقدها حليفها الإستراتيجي المصري بهذه السهولة؟!

ورغم قرب تجربة الثورات التونسية والمصرية من ليبيا، إلا أن نظام القذافي استمر في نهجه القمعي والديكتاتوري، فانطلقت عقب اعتقال المحامي "فتحي تربل" تظاهرات حاشدة توسعت لتصبح ثورة ضد النظام الليبي في ظل نجاح التجربة في الجارتين تونس ومصر.

وقد يبدو تدخل قوات حلف الناتو عبر عملياتها التي أطلق عليها (فجر اوديسا) لحسم الصراع الليبي مقنعا لمن يعتقدون بالمخطط الأمريكي، إلا أن ما كشفته مصادر إعلامية إسرائيلية عن تخوف الحكومة الإسرائيلية من وصول نظام إسلامي للحكم في ليبيا دعاها إلى تفويض مؤسسة أمنية إسرائيلية (تدعى غلوبال سي اس تي) لإرسال مرتزقة أفارقة للقتال مع قوات النظام مقابل امتيازات في مجال التنقيب عن النفط والغاز الليبي تقدم لإسرائيل.

وهذا يدحض وبقوة فكرة أن تكون هذه الثورة صناعة أمريكية، فلن تصنع أمريكا ما قد يرهب حليفتها إسرائيل، ويبدو أن تدخل الناتو أتى بعد أن تمكن الثوار من فرض سيطرتهم، وبشروط وضمانات فرضتها دول الناتو وقبل بها بعض من قادوا الثورة الليبية.

وانطلقت في اليمن شرارة الثورة التي لم تتوقف حتى تم التخلص من النظام السابق. وتجاوزت إرادة اليمنيين الحلول الهشة والمؤقتة التي قدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون، واستمروا في المظاهرات إلى أن تم عزل أقارب الرئيس صالح من المناصب التي كانوا قد حصلوا عليها في عهده وزيادة ممثلي التيارات المختلفة في البرلمان وتشريع إصلاحات مؤثرة في السياسة الداخلية لليمن.

وفضحت الثورة السورية المواقف الدولية عامة والأمريكية خاصة. فخلال سنتين من الدمار والقتل والإرهاب من نظام الأسد التزمت الدول الصمت.

وقامت دول المعسكر الشرقي بدعم النظام صراحة، فيما اكتفت دول أخرى بالتهديد وبوضع الخطوط الحمراء التي يبدو أنها شفافة في ارض الواقع.

لقد تجلى في الثورة السورية براءة الولايات المتحدة من صناعة الثورات العربية كبراءة الذئب من دم يوسف، فلا اعتقد أن الوضع المتأزم الذي تمر به الولايات المتحدة الآن مع القضية السورية قد يكون شي سعت الحكومة الأمريكية إليه.

فبين رغبتها في تسليح المعارضة نتيجة الضغط الشعبي وتخوفها هي وحليفتها إسرائيل من البديل الإسلامي، شاهدناها تتأرجح لعامين ما بين التهديد واللعب من تحت الطاولة لمحاولة تثبيت نظام الحكم الحالي أو ضمان بديل حليف أو في أفضل الظروف إطالة عمر الصراع بدلا من الاصطدام بواقع حكومة إسلامية.

واستمرت الولايات المتحدة في المراوغة فترة من الزمن، إلا أن صبرها نفذ أخيرا عندما صرحت بأنها ترغب في تسليح (مشروط) للمعارضة.

لا يمكن لدولة كالولايات المتحدة استماتت زمنا في حماية إسرائيل أن تغامر الآن وتضع أمن إسرائيل على المحك من خلال خلق ثورة لا تعرف نتائجها، كما إن محاولة استمالة بعض المعارضين السوريين يدل على حجم الارتباك الذي خلقته ثورة (الشعب) السوري للولايات المتحدة.

وأخيرا، إذا كانت صناعة الثورات العربية تقاس بحجم التدخل فيها، فمن باب أولى أن نقول إن الثورات العربية صناعة إيرانية، فإيران وضعت قدمها بقوة في كثير من دول الربيع العربي قبل وبعد وأثناء الثورات، فلماذا نستمر في المكابرة والإصرار على أنها صناعة أمريكية؟

كما إن تدخل تنظيمات معادية للولايات المتحدة كالقاعدة وحزب الله، وولادة تنظيمات جديدة كجبهة النصرة يلغي تماما فكرة أن تكون ثورات العرب تدبيرا أمريكيا، فكيف يمكن أن تصنع الولايات المتحدة كعكتها ثم تعجز عن حمايتها من أفواج الجائعين الذين انقضوا عليها من كل جانب، وهل ينقصها الحنكة أو الأموال لتحمي ما صنعت؟

إن الربيع العربي هو ثمرة جهد شعوب شريفة مناضلة عانت الأمرين وذاقت من حكوماتها ويلات الظلم والاضطهاد والتهميش والاستبداد والاستئثار بالحكم.

وقد سقى العرب بدمائهم زهور ربيعهم وبذلوا أرواحهم ليذوق أبنائهم ثمار الحرية لولا الأيادي القذرة التي تدخلت هنا وهناك فشوهت جمال هذا الربيع وطمست معالمه وحرفت مساره.