خطاب نصر الله.. بين التكفير والطّائفية
خطاب نصر الله.. بين التكفير والطّائفية
صلاح حميدة
لم يكن يدور بخلَد كاتب هذه السطور أن يخط قلمه كلمة ضد حسن نصرالله أو حزب الله اللبناني، وكان نصيراً دائماً لمقاومتهم الاحتلال الاسرائيلي في لبنان، بل أيدهم في قضايا إشكالية تتعلق بالصراع اللبناني الداخلي، ولكن التحولات التي طرأت على المشرق العربي أعادت التفكير في تقييم السلوك الميداني والخطاب الاعلامي للحزب، في ظل التحولات الخطيرة التي طرأت عليه فيما يخص الأزمة السورية.
ولمّا كان لزاماً أن ننحاز لخيارات الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة والمشاركة السياسية، باتت الخيارات أكثر ضيقاً فيما يخص الموقف من الحزب كلما أوغل في انحيازاته الطائفية وفي سفكه لدم السوريين، والذي بدأ بتبرير القتال دفاعاً عن الشيعة في سوريا، فالدفاع عن مقام السيدة زينب، وانتهاءً بالإعلان صراحةً عن المشاركة في هدم مدينة القصير على رؤوس أهلها الأربعين ألفاً بحجة محاربة "التكفيريين"، ولم يعط نصرالله تفسيراً حول الكيفية التي قام بموجبها "التكفيريون" في القصير باحتضان عائلات من يقتلونهم الآن خلال حرب تموز2006م، وعن سبب تحولهم ل "تكفيريين" إن كان كلامه صحيحاً، وكذلك عن مدى مسؤوليته وحزبه وحليفيه في طهران وسوريا في تحويل من كانوا يرفعون صوره إلى حاقدين معادين له؟.
لم يكن صعباً ملاحظة الخاصيّة الدعائية لخطاب نصرالله، فهو يسعى لتشويه الثورة السورية من خلال اتهام الثوار بأنّهم تكفيريون وعملاء لأمريكا وإسرائيل، وهو هنا يحاول شرعنة حربه ضد الثورة والشعب السوريين، وأغفل كونه يقدم أكبر خدمة للمشروع الأمريكي- الاسرائيلي في المنطقة عبر دعمه للمجرم بشار الأسد، فهو يحرف بوصلة الأمة عن محاربة المشروع الاستعماري لتتقاتل فيما بينها، فلماذا تنزعج أمريكا منه إذا كان يخدم مصالحها عبر انغماسه في حرب طائفية لا نهاية لها، تستنزف الأمة ومقدراتها لسنوات طويلة؟.
حاول تخويف الجميع من الثوار السوريين عبر تسميتهم ب"التكفيريين" وأنهم خطر على السنة والشيعة والمسيحيين وحتى على الغرب نفسه، وناقض نفسه عندما قال أن الغرب يتردد في مسألة تسليح الثورة السورية لخوفه من "التكفيريين" فهل هم عملاء للغرب أم حلفاء له يرفض تسليحهم، أم أعداء له ويريد نصر الله تسويق نفسه وبشار وايران كمقاولين لمحاربتهم في المنطقة، كما كانوا يلعبون هذا الدور فيما عرف بالحرب على الارهاب في أفغانستان والعراق ولبنان؟.
حاول نصر الله تخويف من يعتبرهم "التكفيريين" من الغرب والدول الاقليمية الداعمة للثورة السورية عبر تحذيرهم بأنهم "سيدفعون الثمن" في النهاية، في محاولة لتخذيلهم عن التطوع لمناصرة الشعب السوري، وهنا يثور تساؤل عن حُجِّيَّة مناصرة دول كبرى كروسيا والصين وايران وفنزويلا وحزب متخم بالسلاح والمقاتلين للسفاح بشار الأسد، فيما يمثل متطوعون بلا تنظيم حقيقي دفعتهم الحَمِيَّة للذهاب والقتال الى جانب الثوار السوريين. ويعطي خطاب نصرالله مؤشرات على قضية لم يطوها النسيان حول استخدام مخابرات النظام السوري والايراني وربما الحزب أيضاً للكثير من الشبان المتحمسين السُّنَّة في تنظيمات وهمية "تكفيرية" لتحقيق أهداف تلك الأطراف، ولا زالت قضية "أبو عدس" الذي قيل أنه اغتال الحريري ماثلة في الأذهان، وإرسال آلاف المقاتلين بعد جمعهم من كل العالم إلى العراق عبر سوريا وإيران واستخدامهم من حيث لا يدرون في تدمير الثورة العراقية، فأرسلوهم لقتل الشيعة العرب حتى ارتموا في حضن إيران، ودفعوهم لقتل السُّنَّة حتى أصبح الكثير من قادتهم "صحوات" في خدمة الاحتلال الأمريكي والمشروع الايراني، ثم الآن يقتلونهم، وبالتالي فهو يتحدث عن تجربة "التكفيريين" مع محور سوريا – ايران – حزب الله بالدرجة الأولى قبل الحديث عن تجربة " التكفيريين" مع الأمريكان ودولة عربية أخرى معهم.
يحاول نصر الله الإيحاء بأنّ المشروع الطائفي نقيض للمشروع التكفيري، وهذا غير حقيقي تثبته التجربة من خلال ممارسات المشروع الطائفي في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها، فهو مشروع قائم على التصفية والاحتواء والاقصاء للآخر، إما بالسياسة أو القوة العسكرية أو بالإبادة المباشرة، وهو مشروع لا يعترف بالآخر إلا في لحظة امتطائه لتحقيق مآرب يريدها، وفي حال اختلف مع الآخر وتصادم معه فلا مانع عنده من إبادته مثلما جرى في العراق ويجري في سوريا، وما تبدو مؤشراته جلية في لبنان، عبر تلويح وتلميح نصرالله في خطابه الأخير.
فإذا كان التكفيري "يقطع الرؤوس" كما يقول نصرالله، ويُعدم الأسرى ويقوم بتفجيرات عشوائية انتحارية ضد المختلفين معه في الأسواق والمساجد وغيرها، فالطائفي يعلن ويتفاخر بقصفه لمدينة كاملة ويهدمها على رأس أربعين ألف نفس، بالبراميل المتفجرة والصواريخ والغازات والذبح المباشر وحرق الجثث وتقطيع الأعضاء التناسلية للمعتقلين وإعدام الأسرى بعد التنكيل بهم واغتصاب النساء في المساجد، وهدم المساجد وقصفها، فهل الطائفي أنظف كفَّاً من التكفيري؟ بل لا نبالغ إن قلنا أنّ الطائفي يسير وفق رؤية وتربية ومؤسسة يمتثل لقواعدها بالتمام والكمال، بينما التكفيري إنسان مندفع متحمس تؤثر عليه الأحداث فيستغله الكثير من أجهزة المخابرات العالمية ومن بينها أجهزة مخابرات الطائفي التي يظنُّ التكفيري أنّه يحاربها بينما هو يخدم أجندتها، ولا أستبعد أنّ التنظيمات التكفيرية التابعة للمخابرات الايرانية والسورية وللحزب لها دور كبير في الإساءات والتجاوزات التي تتم لعامة السوريين ولثورتهم.
أما فيما يخص القضية الفلسطينية فلا يمكن إنكار الدعم الذي قُدِّمَ للمقاومة الفلسطينية من هذه الأطراف، ولا يمكن إلا أن يُشكروا على قيامهم بواجبهم تجاهها في فترة معينة، ولكن هذا لا يعني أنّ "وقوفهم مع المقاومة الفلسطينية في الحق، سيدفعها لتقف معهم في الباطل" كما قال أحد قادة المقاومة الفلسطينية، كما أنّ الاشتراطات التي تلت الثورة السورية والتي دفعت الكثير من قادة المقاومة لمغادرة دمشق أثارت تساؤلات عن الأجندة الحقيقية لهذا الدعم، وأنّ هذه الأطراف كانت تنتظر مقايضة دعم المقاومة الفلسطينية بمواقف سياسية تدعمها في معركتها مع الشعب السوري، وهذا أظهر نفاقها وأنّ دعم القضية والمقاومة الفلسطينية كان بهدف تمرير المشروع القومي الشعوبي الطائفي بلا معيقات، وباستخدام ورقة فلسطين ومقاومتها للتعمية والتبرير والمزوادة، وبالتالي فإنَّ الادعاء بأنّ فلسطين ومقاومتها ستضيع إن سقط النظام الإجرامي في دمشق لا يعدو عن كونه محاولة أخيرة للادِّثار بالورقة الفلسطينية من قِبَل مجموعة من القتلة الطائفيين، ومن الممكن أن يكون تمهيداً لتحولات خطيرة في مواقف الحزب في حال سقوط النظام وتحقيق نبوءة مؤسسه صبحي الطفيلي الذي قال:- أنّ الاستمرار في سياسة الحزب في سوريا سيضع الحزب في موقف لن يكون له "حليف سوى إسرائيل".
قد يبدو المشروع الطائفي نقيضاً للمشروع الصهيوني والاستعماري الغربي في بعض جوانبه، لكونهما اصطدما في بعض المواقع، بينما اتفقا في مواضع أخرى- إلا أنّ المشروع الطائفي توأم المشروع الصهيوني الاستعماري في سعيه لتقسيم وتفتيت الأمة و فرزها في طوائف وملل ونِحَل، ولنا أنّ نلاحظ المشتركات في خطاب الجانبين وممارساتهما على الأرض بحق من يقفون في طريقهما، الخطاب واحد، وساحات التوسُّع واحدة، والممارسات القذرة واحدة، والإجرام والتبريرات واحدة، والضحايا متشابهون في الكثير من السمات، وبالتالي فهما يختلفان ويتصارعان على الشعوب المظلومة، أيهما سيفوز بالصَّحن الأكبر لالتهامه.
كما يتقاسم الطرفان الرؤية تجاه "الربيع العربي" فهما يحاولان احتواءه وتجييره لصالحهما، ووأده قبل أن تكتمل إنجازاته، فهو يهدد مصالحهما ومشاريعهما المريضة في المنطقة، وفي حال نجحت تجربة هذا الربيع فستنهار تلك المشاريع العنصرية الدموية، وسيقوم مشروع الأمة الحضاري الجامع، ولذلك تلتقي أهداف الطرفين على القضاء على هذا الربيع في مهده، وموقفهما وتقاسمهما الأدوار فيما يخص الثورة السورية يشير بوضوح لعملهما الحثيث لوأد هذا الربيع وإيقاف عجلته في المحطة السورية، حتى يتفرغا لإفشال تجربته في الدول الأخرى، ولكي وعي الشعوب العربية ودفعها للقبول والاستكانة بالاستبداد والاستعمار والطائفية المقيتة.
وفيما يخص موقف الشعب الفلسطيني من ثورة الشعب السوري، فالفلسطيني لن يقبل أن ينال حريته على حساب حرية الشعب السوري؟ وهل من يقتل الشعب السوري والعراقي سيكون أكثر رأفةً بالشعب الفلسطيني لو تمكن من رقابهم؟ الحرية والقيم والأخلاق وحقوق الناس لا تتجزّأ، فإما أن يقف الانسان مع حريات الشعوب وحقوقها العادلة، وإما أن يقف ضدها، ولا يمكن أن يختار ما يناسبه ويرفض الذي لا يناسبه.
خيارات الأمة لا يمكن أن تنحصر بين التكفيريين والطائفيين، فكلا المنهجين لا يتفق مع واقع وتاريخ وطبيعة وتنوع ومستقبل الأمة، ولذلك سقطت وستسقط كل محاولة تسويق تلك المشاريع لأنها لا تناسب طبيعة وطموحات الشعوب، وستسقط وأصحابها، ومهما كانت تضحيات الشعوب فسيبزغ فجر مشروعها الحضاري الجامع مهما بلغت التضحيات.