سوريا: أزمة الهوية السياسية وسيناريوهات التقسيم

د. بشير زين العابدين

سوريا:

أزمة الهوية السياسية وسيناريوهات التقسيم

د. بشير زين العابدين

تتسم المعادلة الأمنية في سوريا بوجود تداخل كبير بين مفهومي الأمن الإقليمي والأمن الدولي، إذ إن أهميتها الإستراتيجية تمتد إلى أقاصي الحدود السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، وتقع على خط المحور الرئيس لتقاطع مصالح القوى الكبرى التي لا يمكن أن تسمح لأي طرف بالهيمنة والاستحواذ.

ويمكن ملاحظة ندرة الدراسات التي تهتم بتحليل العوامل الاجتماعية للأزمة السورية، وعزوف المحللين عن دراسة تأثير عوامل الصراع الداخلي على السياسة الدولية، وبالأخص منها ما يتعلق بالعلاقة المتوترة بين الدولة والمجتمع، وطبيعة تعامل المجموعات الإثنية والمذهبية فيما بينها ضمن إطار المجتمع، وارتباط الفرد بالدولة وشعوره فيها بالمواطنة والانتماء، ومن ثم تأثير هذه العناصر الثلاثة على مفهوم "الدولة القومية" (Nation State) وشرعيتها.

أما الفجوة الثانية فتتمثل في قصور الدراسات المعاصرة عن استيعاب تأثير التفاعلات المحلية على الأمن الإقليمي والدولي، ومن ذلك: تنامي دور القوى الفاعلة خارج إطار الدول (non state actors) في تأجيج النزاعات الإقليمية وتأثيرها على منظومات الأمن العالمي.

وتحاول هذه الورقة دراسة تأثير الجماعات المتطرفة العابرة للحدود على مستقبل الكيان السوري والدول المجاورة له، وتقصي المشاكل المتعلقة بالبنية المجتمعية ودورها في تأزيم الوضع الأمني على المستوى الإقليمي، حيث تضمحل الدولة، وينحسر دور الإيديولوجيات، في حين تهيمن الجماعات الإثنية والمذهبية على مستوى الإقليم.

1- أزمة الهوية السياسية وانحسار مفهوم "الدولة القومية"

آذنت مرحلة: "الربيع العربي" باندراس آخر معالم الهوية السياسية للجمهوريات العربية التي قامت خلال العقود الستة الماضية على أربعة مكونات رئيسة هي:[1]

1-              الفكر القومي كمنطلق إيديولوجي

2-              الطابع الانقلابي-الثوري[2]

3-              القائد العسكري رئيساً للجمهورية

4-              الحزب الحاكم[3]

والحقيقة هي أن عوامل ضعف هذه الكيانات لم تأت بصورة مفاجئة، بل كانت تنخر في جسد الجمهوريات العربية التي كانت ترتكز على قواعد ضيقة من الفئات الحاكمة، وتستند إلى القوة العسكرية وأجهزة الأمن بدلاً من الدعم الشعبي؛ ومن أبرز هذه العوامل: ضعف البنية التحتية للدولة، وعدم قدرتها على تشكيل علاقة بناءة مع المجتمع، وسوء توزيع الثروة، وما نتج عن ذلك من توتر بين مختلف المجموعات السكانية داخل إطار المجتمع.[4]

ويمكن القول بأن الدوافع الفعلية للحركات الشعبية العارمة منذ عام 2010 قد جاءت نتيجة تراكم الخلل المجتمعي الناتج عن انعدام التوازن بين مفهومي "الدولة" (state) و"الأمة" (nation)، حيث نشأت أغلب الدول الحديثة في الشرق على أساس صفقات بين القوى الاستعمارية، دون مراعاة لمفهوم "الدولة القومية"، ونتج عن ذلك تعارض بين الهوية الوطنية الجامعة والمطالب الفئوية والانعزالية لبعض المجموعات السكانية، وما تبع ذلك من اندلاع صراعات حدودية متعددة.

وبناء على ذلك فإن اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، والحرب الحدودية بين العراق وإيران كانت لها نتائج وخيمة، ليس على الأمن الإقليمي فحسب، بل على الأمن الدولي بصفة عامة، وعلى الصعيد نفسه فإن أحداث 11 سبتمبر 2001 قد دفعت المجتمع الدولي للاعتراف بوجود مهددات أمنية جديدة تنبع من جماعات لا تتبع بالضرورة إلى دولة بعينها.[5]

يدفعنا ذلك للتأكيد على أن حالات التدخل الخارجي في دول المنطقة العربي هي في حقيقتها عوامل: "مؤثرة" وليست عوامل "مسببة" للصراع الإقليمي، حيث إن الدول الكبرى لا تستطيع أن تفتعل أسباب النزاع الإقليمي، ولكنها سرعان ما تبادر إلى الاستفادة من هذه النزاعات بهدف تعزيز مصالحها، وغالباً ما تندلع الصراعات المحلية والإقليمية نتيجة مسببات داخلية تتمثل في: الصراعات المجتمعية، والنزعات الانفصالية، والخلافات الحدودية بين الدول.

وبعيداً عن محاولة تحليل الصورة الكلية لمستقبل الإقليم واستشراف معالم هويته السياسية في مرحلة ما بعد الربيع العربي؛ تفرض الحالة السورية طرح أسئلة مصيرية تتمثل فيما يأتي:

-        ما هو البديل لحكم سوريا في ظل اضمحلال حكم البعث؟

-        ما هي معالم الهوية السياسية للدولة في المرحلة القادمة؟

-        ما الذي سيحكم العلاقة بين الأعراق والطوائف والأديان في ظل التوتر المجتمعي الذي أذكاه النظام وبلغ ذروته في مرحلة الثورة؟

ولا بد من الاعتراف بأن هذه الورقة لا تحاول الإجابة على هذه التساؤلات، بل تهدف إلى التنبيه إلى هذه المشاكل والبحث في مدى قدرة الجماعات السياسية القائمة على مواكبة الحراك المجتمعي، وأهليتها لطرح مشروع حضاري يقدم رؤية وطنية تشمل جميع عناصر المجتمع.

ففي ظل اندراس معالم الهوية المجتمعية للدولة، وفشل القوى السياسية في التوافق على مشروع سياسي وطني؛ بدأت تظهر ملامح أقلمة الأزمة السورية بصورة مقلقة، حيث تتصاعد نبرة الاستقطاب الطائفي والإثني وتهيمن الشبكات الراديكالية العابرة للحدود، ويأتي ذلك كنتيجة حتمية لانخراط المؤسسات الأمنية والعسكرية خلال حكم بشار أسد في ترسيخ مشروع التوسع الفارسي المتستر بأهداب "المقاومة".

وقد ازدهرت هذه القوى المتطرفة العابرة للحدود إثر مبادرة الإدارة الأمريكية بتمكين الجماعات الإثنية والطائفية من تولي حكم العراق عام 2003، مما أدى إلى اضمحلال الحكم المركزي، وظهور مشاريع التقسيم التي فتحت شهية الجماعات الفئوية الأخرى للمطالبة بالاستقلال السياسي أو الحكم الذاتي.

والأخطر من ذلك: اعتراف كل من طهران وواشنطن بالدور العسكري والسياسي للميليشيات العسكرية التي تعمل خارج إطار الدولة، وقيام الإدارة الأمريكية بدعمها وتسليحها وتنظيمها،[6] ومنها على سبيل المثال:

1- البيشمركة: تقدر المصادر الأمريكية تعداد قوات البيشمركة في كردستان العراق بأكثر من 100 ألف مقاتل، وقد اشترط الأكراد المحافظة على قوتهم العسكرية لبقائهم تحت سلطة بغداد، ولعل التطور الأبرز في الملف الكردي في سوريا هو انسحاب قوات النظام بصورة كاملة من القطاع الشمالي، مما أدى إلى بروز ظاهرة تمتع الأكراد بقدر من الاستقلال على النمط الذي تمتعت به كردستان العراق إثر حرب الخليج عام 1991، ومن الأمور التي لا يتنبه لها الرأي العام في المرحلة الحالية هي قيام بعض الجماعات الكردية في سوريا برفع أعلام كردستان في مناطقهم، وفتح الحدود بينهم وبين نظام أربيل، وتعزيز استقلالهم عن سائر البلاد، ويرى محللون أمريكان أن الحس القومي عند هؤلاء الأكراد قد يشكل خطراً أكبر من المشكلة الطائفية في المرحلة القادمة، إذ يمكن للأكراد متحدين أن يشكلوا من خلال ميليشياتهم قوة عسكرية يبلغ قوامها نحو 230 ألف مقاتل، وهي قوة تضاهي الجيش السوري في حجمه،[7] وأكدت مصادر أمنية في 18 أبريل 2013 أن الحكومة التركية قد أبرمت اتفاقية سرية مع حكومة أربيل تقضي بتزويد أنقرة بما تحتاجه من النفط والغاز، مما أغضب حكومة المالكي ودفع بنائب رئيس الوزراء العراقي حسين الشهرستاني للتاكيد على أنه ليس من حق أنقرة أن تبرم أية اتفاقيات جانبية مع أربيل، ومهدت تلك الاتفاقية لقيام مفاوضات مباشرة بين الأتراك وحزب العمال الكردستاني بهدف تأمين الحدود التركية مع سوريا، وتعهد الأكراد بحماية الشريط الحدودي بين البلدين في ظل ضعف السلطة المركزية بدمشق وعجزها عن تأمين حدودها.

2- منظمة بدر: ميليشيات طائفية منظمة تتبع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، ويبلغ تعداد قواتها نحو 10 آلاف مقاتل تم تدريبهم وتنظيمهم في إيران، ثم اعتمد عليهم الأمريكان في مواجهة الثورة ضدهم في الموصل والأنبار خلال الفترة 2003-2007، وقد تلقى عناصر ميليشيا "بدر" التدريب والتسليح من قوات المارينز على الرغم من علاقاتهم القوية وارتباطهم التنظيمي بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.

3- جيش المهدي: ميليشا عسكرية تتبع للتيار الصدري، تم تشكيلها وتنظيمها من قبل إيران، وتسيطر بصورة كاملة على مدينة الصدر التي يبلغ عدد سكانها نحو 2.5 مليون، وقد تحدث ضابط أمريكي سابق في المارينز عن قيامه بتدريب وتسليح عدد من هذه الميليشيات الطائفية وتنظيمها في فرق قوات خاصة يبلغ تعداد الواحدة منها نحو ألفي مقاتل، ومن ثم الاستعانة بهم في مواجهة التمرد في المحافظات السنية بالعراق، ومن أبرزها الكتيبة 36 والكتيبة 40 في القوات الخاصة والتي تم ضمها فيما بعد للجيش العراقي، وتشير المصادر إلى أن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر قد قام برحلة خاطفة إلى بيروت في الأيام الماضية حيث اجتمع مع حسن نصر الله، وتقرر في ذلك الاجتماع نشر عناصر من جيش المهدي في مناطق مختلفة في سوريا، وعلى إثر ذلك الاتفاق تم إرسال مجموعة سرايا تتكون الواحدة منها من 300 إلى 400 مقاتل إلى الأراضي السورية من جهة الشرق وذلك بالتزامن مع تدخل عناصر "حزب الله" لمساعدة قوات بشار من جهة الغرب، وتجدر الإشارة إلى أن عماد مغنية (الذي قتل في ظروف غامضة بدمشق عام 2008) هو الذي أشرف على تشكيل جيش المهدي وتدريبه عام 2003، وذلك على نفس النسق الذي تم به تنظيم ميليشيات "حزب الله" في لبنان.

4- قوات النخبة في الجيش السوري: في ظل إدراك النظام عجزه عن استعادة سيطرته على سائر البلاد، وتسليمه بفقدان أجزاء واسعة من المحافظات الشمالية والجنوبية-الغربية؛ تزايد اعتماد الجيش على قوات النخبة التي تم تأسيسها على أسس طائفية-عشائرية، ومن أبرزها: الحرس الجمهوري، والقوات الخاصة، والفرق المدرعة الثالثة والرابعة والتاسعة، والتي يبلغ قوامها نحو 70 ألف مقاتل، في حين تم استبعاد المجندين عن مناطق المواجهات بسبب حداثة أعمارهم وعدم ضمان ولائهم، وقد أكدت الدراسات التي نشرها معهد دراسات الحرب الأمريكي أن هذه الفرق لا تخضع لقيادة الفيالق السورية الثلاثة بل تعمل تحت إمرة ضباط في القصر الجمهوري، مما يرسخ صفتها كميليشيات طائفية مسلحة أكثر من كونها قوات عسكرية منظمة تخضع للقيادة العامة وهيئة الأركان.

5- فرق الشبيحة: ميليشيات طائفية-عشائرية انبثقت عن جمعية المرتضى التي أسسها عم بشار؛ جميل أسد عام 1982، وتولى فراس بن جميل الأسد زعامتها وتنظيمها آنذاك، ويبلغ قوامها نحو 9 آلاف عنصر يمارسون أعمال تهريب الأسلحة والأموال والمخدرات، إلا أن النظام اعتمد عليهم خلال الثورة لمواجهة الجيش الحر، وتؤكد المصادر أن قائد الحرس الثوري الإيراني يشرف في الوقت الحالي على إعادة هيكلة هذه العصابات وتنظيمها في قوة أطلق عليها اسم: "الحرس الثوري"، والتي يتوقع أن يبلغ تعدادها نحو 60 ألف مقاتل بحلول نهاية العام الجاري.

6- "حزب الله" في لبنان، وهو الامتداد اللبناني لفيلق القدس، يقدر تعداد منسوبيه بنحو 15 ألف، وإمكاناته العسكرية تفوق قدرات بعض الجيوش العربية من حيث التنظيم والتمويل وترسانة الصواريخ البالستية، وتتحدث المصادر عن زيارة سرية قام بها حسن نصر الله إلى طهران قبل فترة وجيزة حيث كلف من قبل المرشد الأعلى للثورة الإيرانية بزج كتائب من الحزب للمشاركة في العلميات شرقي البلاد، وتم إدخال كتيبتين من الحزب قبل نحو أسبوعين إلى منطقة القصير لمساعدة جيش النظام، وتولت إيران تزويد مقاتلي الحزب بالمدفعية والأسلحة الثقيلة التي تم شحنها جواً من طهران.

وبالإضافة إلى الانتهاكات الإنسانية والمهددات العسكرية الناتجة عن انسياب هذه الميليشيات الطائفية: الإيرانية والعراقية واللبنانية، وتورطها بالمشاركة في المجازر ضد الشعب السوري وفي المعارك ضد الجيش الحر؛ فإن الدخول المعلن لهذه القوات على خط الأزمة السورية يؤذن بتنامي النبرة الطائفية واضمحلال الهوية السياسية للقطر السوري.

وعلى الرغم من خطورة الدور الذي تمارسه هذه الميليشيات، وانخراط عشرات الآلاف منها في القتال الدائر في البلاد؛ إلا أن الصحافة الغربية تركز على الدور الذي تضطلع به أعداد محدودة من خلايا تنظيم القاعدة، وتتغاضى في الوقت ذاته عن خطر الميليشيات الطائفية العابرة للحدود والدعم الذي تتلقاه من بعض الدول الغربية، وذلك في ظل تصريحات مسؤولين أمريكيين برغبة واشنطن في الإبقاء على البنية الطائفية للنظام السوري والاستفادة منها في المرحلة المقبلة، فقد نشر أحد أبرز مستشاري وزارة الخارجية الأمريكية مقالاً دعا فيه إلى المحافظة على البنية الطائفية للنظام، متمثلة في: الجيش وقوى الأمن؛ باعتبارها الضامن الوحيد لمنع سوريا ومحيطها الإقليمي من الانفلات، وأضاف قائلاً: "إن بقاء نظام أسد القمعي العلوي بعد مغادرة بشار هو خيار مر المذاق، لكن البدائل الأخرى على أرض الواقع أسوأ من ذلك، هذا هو الخيار الأقل سوءاً".[8]

وفي إشارة إلى تبني الإدارة الأمريكية لهذا الطرح؛ أكد وزير الدفاع الأمريكي السابق على ضرورة المحافظة على بنية الجيش ومؤسسات الأمن في سوريا خلال مرحلة ما بعد الأسد، مشدداً على أهمية الاستفادة من التجربة العراقية في هذا الصدد.

وعلى الرغم من خطورة التصريحات المتمثلة في بيان أبي بكر البغدادي تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وإعلان أبي محمد الجولاني أمير "جبهة النصرة" تجديد البيعة لأيمن الظواهري؛ إلا أنه لا يمكن مقارنة تعداد هذه المجموعات الصغيرة مع الميليشيات المدعومة من قبل إيران، وامتداداتها الإقليمية، وما تمثله عملية انسياب هذه الجماعات المتطرفة على الهوية السياسية لمختلف الدول التي تنشط فيها.

2- المعارضة السورية: تقدم عسكري وتراجع سياسي

شهدت الأسابيع الماضية تقدماً لكتائب المعارضة في مختلف الجبهات، وخاصة في الجولان وحوران، وكذلك في القامشلي والحسكة ودير الزور حيث تشير المصادر إلى أن القطاع الشرقي من نهر الفرات قد بات محرراً بالكامل بعد تدمير اللواء 17 التابع لجيش النظام.

وتؤكد دراسة حديثة لمعهد الحرب أن النظام لم يعد يسيطر سوى على رقعة جغرافية محدودة لا تتجاوز ربع البلاد، إذ إنه فقد نحو ثلثي قدراته العسكرية من المشاة، ولم يتبق من طائراته المقاتلة سوى 200 طائرة من أصل 600 مقاتلة دمر أكثر من 150 منها، أما العدد الأكبر فلا يمكن الاستفادة منها بسبب قدم الطائرات وعدم توفر قطع الغيار لصيانتها، مما دفع بجيش النظام لاستخدام طائرات التدريب الروسية (YAK-130) التي لم تصمد أمام المضادات الجوية للجيش الحر، وكذلك الحال بالنسبة للمروحيات الروسية المقاتلة من طراز (MI-24) و(MI-25) التي تحمل مدفاع رشاشة وتتسع لنحو 8 ركاب، والتي شوهد العديد منها محترقة بفعل القذائف الصاروخية المحمولة على الكتف والتي أصبح العديد منها متاحاً للجيش الحر.

ونجحت كتائب المعارضة كذلك في شل حركة معظم الأولية المدرعة التابعة للنظام عبر استخدام مضادات دروع قادرة على تدمير دبابات النظام الروسية من طراز (T72) و(T82) التي لا تخترقها مضادات الدروع التقليدية، والتي تم تعديلها في جنوب أفريقيا لتزويدها بحقل مغناطيسي يبعد القذائف الحرارية عنها.

ومن أبرز مضادات الدروع التي أصبحت في حوزة الجيش الحر: قذائف (RPG6) الخفيفة التي تمتاز بدقة التصويب، وصواريخ (RPG22) التي يتراوح مداها بين 300-500 متر، وقذائف (Milkor MGL) التي يصل مداها إلى أكثر من 500 متر، وكذلك قذائف (M-79 OSA) عديمة الارتداد والتي يتراوح مداها ما بين 350 إلى 400 متر، كما تتحدث المصادر عن وجود عدد محدود من صواريخ (Kornet and Fagots) المضادة للدروع والتي يبلغ مداها نحو 4 كم وتستطيع اختراق أية مدرعة أو ناقلة جنود.

وفي مقابل النجاحات الكبرى التي تسجلها الكتائب المقاتلة؛ تقع المعارضة السياسية في سلسلة إخفاقات يمكن أن يكون لها أسوأ الأثر على الهوية السياسية للبلاد في مرحلة ما بعد سقوط النظام، إذ لاتزال هذه الأحزاب والجماعات تعاني من نقص الكوادر المحترفة، وتواجه مشاكل الاعتماد على التمويل الخارجي، ويبذل أعضاؤها النصيب الأوفر من الوقت والجهد في مناكفات إعلامية ومنافسات مريرة للاستحواذ على النصيب الأوفر من التمثيل في المناصب الافتراضية التي يشكلها الائتلاف.

وبدلاً من العمل على تطوير بنيتها التنظيمية وتحديث منطلقاتها النظرية لمخاطبة الشعب السوري؛ تستثمر معظم جماعات المعارضة رصيدها السياسي في كسب تعاطف إحدى القوى الإقليمية الممولة في معركة الاستقطاب، وتمارس الإقصاء والتهميش ضد بعضها البعض، لتبدو في حقيقتها وكأنها جزء من الأزمة بدلاً من أن تكون طرفاً في حلها.

وقد بلغ المشهد العبثي لدى المعارضة السياسية ذروته عندما بادر عدد من قيادات الائتلاف إلى تعليق عضويتهم بصورة جماعية للإعراب عن رفضهم نتائج انتخاب رئيس الحكومة الانتقالية، ثم عدلوا عن ذلك بصورة جماعية لتمثيل مقعد سوريا في الجامعة العربية!

وعلى الرغم من حالة التفكك والتنافس الداخلي للاستئثار بغنائم المعركة قبل موعد استحقاقها؛ إلا أن أغلب ممثلي الائتلاف يبدون تذمرهم من رفض المجتمع الدولي تسليمهم مقعد سوريا في مجلس الأمن وفي غيره من المنظمات الإقليمية والدولية، ويحتجون على عدم تمكينهم من السفارات السورية، دون أن يدركوا أن العائق الأكبر في تحقيق الاعتراف الدولي بهم هو فشلهم في الاعتراف ببعضهم البعض، ومسارعتهم إلى المطالبة بتمثيل المجتمع السوري على الرغم من عجزهم عن تمثيل أنفسهم بصورة لائقة أمام المجتمع الدولي.

3- سيناريوهات الحسم الإقليمي

في ظل استنزاف النظام وضعف الدور الفاعل للمعارضة السياسية؛ تتوقع بعض الدراسات الأمنية الغربية أن يدفع سقوط حكم بشار ببعض الأطراف الخارجية إلى التدخل العسكري لتأمين مصالحها، إذ تتحدث هذه المصادر عن قيام الرئيس الأمريكي -في زيارته الأخيرة للمنطقة- بتأمين موافقة إسرائيل والأردن وتركيا على خطة عسكرية مشتركة أعدتها الإدارة الأمريكية للتعامل مع تدهور الأوضاع في البلاد.

وعلى إثر عودة أوباما إلى واشنطن أعلن وزير الدفاع الأمريكي عن إرسال 200 مقاتل من القوات الخاصة التابعة للفرقة المدرعة الأولى إلى الحدود الأردنية-السورية، ويأتي ذلك ضمن ترتيبات تفعيل خطة الطوارئ التي وضعت اللمسات الأخيرة عليها في غضون الأسبوعين الماضيين، حيث قامت الاستخبارات الأمريكية بتوزيع خرائط مفصلة على السلطات الأردنية والتركية والإسرائيلية لتحديد الجبهات التي يتعين على كل جهة التحرك من خلالها لتأمين مواقع أسلحة الدمار الشامل، وتم توزيع كميات من حقن (atropine) المضادة لغاز السارين (sarin) وغيرها من غازات الأعصاب مثل (VX) و(soman) و(tabun)، والتي يمكن معالجة المصابين من خلال الحقن أو عبر الوريد.

وتؤكد المصادر أن هذه الفرقة المتخصصة لم تأت بهدف المشاركة في عمليات قتالية، بل تهدف إلى إنشاء قيادة مشتركة حيث تتضمن خبراء عسكريين في مجالات: الاتصال والإشارة والاستخبارات والتعامل مع الأسلحة الكيميائية، وتتمثل مهمتها في تشكيل قوة مشتركة من الدول الحليفة، وتنسيق العمليات العسكرية بينها.

ويمكن تلخيص أهم السيناريوهات المتوقعة للتدخل الخارجي فيما يأتي:

-         سعي أنقرة للتوصل إلى تفاهمات مع الأكراد والكتائب المقاتلة في الشمال لتأمين حدود تركيا الجنوبية.

-         تدخل عسكري إسرائيلي محدود في الجولان لمنع امتداد الأزمة إلى أراضيها ومنع تغلغل الكتائب الإسلامية في الجولان.

-         محاولات طهران تقوية موقف النظام السوري في كل من: دمشق واللاذقية وحمص كممر لإيصال الإمدادات إلى "حزب الله" اللبناني، وتعزيز ما تطلق عليه: "محور المقاومة".

ففي المحور الإيراني سربت بعض المصادر معلومات تؤكد قناعة القيادة الإيرانية أن بشار لم يعد قادراً على استعادة سيطرته على البلاد، مما دفع بهم للتركيز على المناطق التي يمكن المحافظة عليها وتوظيف العنصر الطائفي في هذه الأقاليم عبر تجنيد أبنائها في ميليشيات مسلحة بهدف شن حرب استنزاف طويلة الأمد ضد الحكم الانتقالي، ويمكن أن تنطلق هذه العمليات من جيوب محصنة غربي البلاد، وبالتالي فإنه يمكن أن يسفر الصراع عن نشوء حكومتين في آن واحد؛ حكومة تتبع للمعارضة شمالي البلاد وتتمتع بدعم تركي-خليجي، في مقابل حكومة في دمشق وحمص واللاذقية بدعم إيراني-روسي، بالإضافة إلى جيب جنوبي يشمل محافظات الجولان ودرعا وجبل العرب لحماية الحدود مع الأردن وإسرائيل من الجماعات المتشددة، ويمكن أن تكون تحت إشراف دولي.

أما في القطاع الشمالي؛ فإن أنقرة تعمل على التفاهم مع الأكراد لتأمين حدودهم مع سوريا، وقد سربت الصحافة التركية معلومات عن وجود توجهات لدى الحكومة التركية بإقامة منطقة عازلة أو حزام أمني داخل سوريا وذلك من خلال التعاون مع حكومة أربيل والأحزاب المعتدلة في شمال سوريا لكبح جماح حزب العمل الكردستاني، وذلك في ظل تردد الحديث عن قيام وفود كردية بزيارات إلى واشنطن لدعم مطالبهم بتأسيس حكم ذاتي عقب سقوط النظام.

وفي الجبهة الجنوبية من البلاد؛ تؤكد مصادر أمنية أن الاستخبارات الإسرائيلية تحضر لإنشاء منطقة عازلة من خلال الاعتماد على العناصر الدرزية في الجيش الإسرائيلي؛ فعلى إثر اندلاع صراع بين عناصر "جبهة النصرة" مع أبناء الدروز في قرية "الخضر" في الجولان، نظم الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل مظاهرة أعلن فيها أن: "مئات الشبان من أبناء الطائفة توجهوا إلي مبدين استعدادهم لدخول الأراضي السورية لنصرة إخوانهم في الجولان وجبل العرب"، وكشف أحد المسؤولين الدروز في الجيش الإسرائيلي عن وجود خطط من هذا القبيل بقوله: "لقد سبق وتعرض الدروز في لبنان إلى مذابح من تنظيمات مسلحة مسيحية فدخل الجنود الدروز في الجيش الإسرائيلي إلى لبنان وزودوا إخوانهم الدروز بالأسلحة ودربوهم وحاربوا إلى جانبهم في المناطق التي كانت تحت حكم إسرائيل في لبنان، واليوم يوجد الجيش الإسرائيلي في الجولان وشبابنا مستعدون لاجتياز الحدود والتحرك في سوريا من دون أي عائق".

ودخل الزعيم الدرزي اللبناني وئام وهاب خط التصعيد الطائفي بالتشديد على: "حفظ دماء الدروز في سوريا لأنها غالية الثمن"، وصرح في اجتماع له مع وفد من دروز السويداء أنه: "على الجميع أن يعرف أن الذي لا يحفظ إخوانه ويحرص عليهم هو ليس موحداً"، وأكد أن دروز لبنان قادرون على حماية إخوانهم في سوريا إذا تطلب الأمر.

وأشار تقرير أمني إلى أن الجيش الإسرائيلي يخطط لإقامة منطقة عازلة في داخل الاراضي السورية أسوة بما قامت به بعد اجتياح لبنان من إقامة حزام أمني جنوب لبنان خلال الفترة 1985-2000، وذكر التقرير أن الجيش الإسرائيلي سيزج بلواء مدرع وكتبتي مدفعية بهدف تأمين 47 ميلاً داخل سورية حالة فقد النظام السوري الحالي السيطرة عليها.

وتأتي هذه التحضيرات العسكرية المتسارعة إثر حالة القلق التي انتابت الجيش الإسرائيلي لدى تمكن كتيبة "المثنى" من السيطرة على المنطقة الحدودية بين سوريا والأردن وإسرائيل في 25 مارس الماضي، وذلك بعد تدمير اللواء الخامس لجيش النظام، وتمركزت هذه الكتيبة في موقع متقدم قبالة نحو 14 قرية تابعة لتل أبيب وعلى بعد نحو 5 كم عن المستوطنات الإسرائيلية الأقدم في الجولان المحتل.

وعلى إثر سيطرة كتيبة "شهداء اليرموك" على وادي الرقاد الممتد 70 كم على الحدود السورية مع اليهود، وأخذت مصادر الاستخبارات الإسرائيلية تتحدث عن خطورة بسط هذه الكتيبة سيطرتها على مصب نهر اليرموك، وإمكانية تفاقم الوضع الأمني نتيجة اندلاع صراع إقليمي على موارد المياه.

تدعونا سيناريوهات التقسيم تلك للتأكيد على أن غياب مفهوم "الائتلاف" لدى الجماعات الممثلة للائتلاف الوطني السوري قد خلق حالة من الفراغ الإستراتيجي الذي دفع بالقوى الإقليمية والدولية للمبادرة إلى التقدم بأطروحات تقسيمية تهدف إلى احتواء الأزمة ومنع امتدادها إلى بلادهم، ولا تخدم هذه الخطط بالضرورة مصالح الشعب السوري الذي لا يجد في أروقة السياسة الدولية من يحسن تمثيله، ويحترف ممارسة الدبلوماسية مع الكبار.

وبدلاً من الاستمرار في الجدل والملاسنات في الاجتماعات المغلقة التي سرعان ما تتسرب أخبارها إلى وسائل الإعلام؛ يتعين على القوى السياسية أن تتحلى بروح المسؤولية؛ وأن تعمل على تشكيل رؤية إستراتيجية تحافظ على الهوية السياسية للكيان السوري عبر التقدم بأطروحات أمنية واقتصادية واجتماعية تتناسب مع مستوى التحدي وعمق التحولات، وأن تتعامل مع مصادر القلق الإقليمي بأسلوب واع يتجاوب مع تخوف الدول المجاورة من امتداد الأزمة إليها.

ولا شك في أن غياب الرؤية الإستراتيجية لدى المعارضة يجعلها بالعرف الإستراتيجي قوى متأثرة، بدلاً من أن تكون فاعلة ومؤثرة في المشهد الإقليمي.

تعيد المناكفات الإعلامية لبعض المعارضين السوريين إلى الذاكرة مآل الثورات العربية التي قامت في العقود الأولى من القرن العشرين للتحرر من ربقة الاستعمار الغربي، والتي قدمت فيها الشعوب تضحيات كبرى من أجل تحقيق السيادة والكرامة، ثم عانت بعد ذلك من حكم الدكتاتوريات وتسلط الأحزاب الشمولية التي قضت على معالم الهوية السياسية وبنية الحكم الجمهوري...

فهل تستفيد أحزاب المعارضة من دروس التاريخ؟

               

[1] وذلك باستثناء لبنان التي قام فيها نظام حكم "الترويكا" الذي تتقاسم فيه الطوائف الرئيسة المناصب السيادية في الدولة، وكذلك نظام الحكم في العراق بعد عام 2003، إلا أن كلتا الدولتين تعانيان من مشكلة ضعف التجانس المجتمعي، حيث يندلع الصراع الأهلي، وينعدم الاستقرار، وتتوتر العلاقات بين أبناء المجتمع في ظل ضعف الهوية الوطنية الجامعة.

[2]  منها على سبيل المثال: ثورة يوليو 1952 في مصر، والثورة التونسية التي انتهت عام 1955، وثورة 26 سبتمبر في اليمن عام 1962، إضافة إلى انقلابي البعث في كل من سوريا والعراق عام 1963.

[3] التجمع الدستوري الديمقراطي في تونس منذ عام 1956، وحزب البعث في العراق وسوريا منذ عام 1963، والحزب الوطني في مصر منذ عام 1978، وحزب المؤتمر الشعبي في اليمن منذ عام 1982.

[4] Mohammed Ayoob, Regional Security in the Third World, (Westview Press, Colorado, 1986), p. 6.

[5] Benjamin Miller, States, Nations, and the Great Powers, (Cambridge Studies in International Relations, 2007), pp. 12-15.

[6] Katerina Dalacoura, “Islamist Movements as Non-state Actors and their Relevance to International Relations”, in Daphne Josselin and William Wallace (ed.), Non-State Actors in World Politics. (New York: Palgrave, 2001).

[7] Adam Garfinkle, ‘The Rise of Independent Kurdistan’, August 25th 2012.

[8] Vali Nasr (2012) 'Assadism Without Assad Could Prevent Sectarian Mayhem', Bloomberg, 12th February 2012.