هنالك عند التلال تلال ..

نافز علوان

قالوا أن هناك وراء التلال تقع فلسطينوقالوا أن وراء تلك التلال أيضاً مقاومين بطول التلال وعرضها يحاربون لإستعادة فلسطين. كنا نسمع أصوات موت وعندما كنا نسأل كان الجواب يأتينا أن القتيل من لدينا.  وإستمر الحال وإستمر الموت. تأتينا نفس الإجابة عندما نسأل عن من مات وهي أن القتيل من لدينا.  كأن الموت لا يعرف سوي طعم الأجساد الفلسطينيةوكأن الأرض لا تشرب ولا ترتوي إلا من دمائنا.  كنا نطاول بأعناقنا الصغيرة علنا نعلوا بأعناقنا الصغيرة تلك ونشهق بعلو يرينا ما وراء تلك التلال ولم تنجح إعناقنا الصغيرة في تلك المهمة وبقيت التلال تنتصر علي أعناقنا الصغيرة كما كان ينتصر الموت علينا ويسجل في دفاتره جثثاً فلسطينية جديدة.

ثم كبرنا وكنا نحسب أن بضعة السنتيمترات التي أضافتها السنين إلي قاماتنا قادرة علي أن ترفع رؤوسنا فوق تلك التلال لكي نراها ونمتع النظر إلي فلسطين لنرتطم مرة أخري بحقيقة وواقع أن التلال لاتزال عصية تمنع أنظارنا مهما طالت أجسامنا.  وكبرنا من جديد وأصبح بجوارنا أطفالنا يطاولون بأعناقهم الصغيرة بنفس ذات العفوية ونفس ذات الجهل الذي كان يخيل لنا أن بإمكاننا أن نري وراء التلال ولو لمحة من شجر زيتون فلسطين أو حتي مأذنة لمسجد علي أرضها أو كنيس.  لم نكن نستغرب نظرات الإحباط في أعين الأطفال لأننا ملكنا نظرات الإحباط تلك من قبل أن يعثروا عليها ولم نكلف أنفسنا عناء الشرح لهم عن ما يدور ولماذا يدور وكما علمتنا تلك الأيام المتربة والتي ملأت وجوهنا وأفواهنا بتراب الهزيمة واللجوء والهجرة ولياليها السوداء والتي كان في إغماض أعيننا الصغيرة لكي ننام خوفاً من سوادها الحالك موت خاص بنا نستفيق منه في صباح يوم تالي علي صوت قذيفة أو نواح أم ثكلي أو طفل صغير إستفاق لتوه علي كارثة أن لا أم له ولا أب.  ستعلم الأيام القادمة أبناءنا، ستعلمهم كل ما يحتاجون إلي معرفته، حتي وإن كانت وجوههم مغسلوة بالصابون المعطر وأيامهم التي التراب فيها يقبع تحت طبقات من الإسفلت الأسود وتؤنس وحشة ليلهم نواسة صغيرة تلقي بضوئها الخافت علي عتمة غرف منازلهم التي كلما أغلقنا باب إحدي تلك الغرف ينتابنا، إحساس لم يفارقنا، إحساس أننا البارحة فقط كنا نغلق علي أنفسنا في نفس ذات المكان أبوب غرفنا التي كانت تسبح بنا في عراء التشرد وأنظارنا لا زالت معلقة بتلك التلال ننتظر يد أحد المحاربين من أجل فلسطين والذين  كنا نتخيلهم في حجم تلك التلال، بل هم كانوا في مخيلتنا أكبر من التلال، أن تمتد إلينا أياديهم الضخمة وتحملنا كما يحمل بساط الريح علاء الدين وتأخذنا مع علاء الدين إلي فلسطين ونقول له أنظر كم جميلة هي فلسطين.

هنالك وخلف تلك التلال تقبع البيوت الفلسطينية متجمدة من الخوف علي أصحابها ترفض الأحجار في تلك البيوت مجرد القبول بفكرة أن تنسي أصحابها وساكنيها ومن وضع ذلك الحجر فوق ذلك الحجر وقام بتطيينه من طين تراب فلسطين والذي كان روح خلطتة الحقيقية هي عرق الفلسطيني الذي قام ببناء ذلك البيت. تلك البيوت لا تعرف السقوط ولا تعرف الإنهيار ولا تعرف كيف أن تحب من سكنوها عنوة.  هنا في مخيماتنا وفي بلاد شتاتنا إنهرنا ونسينا وفاوضنا وقلبنا أن نقبض ثمن التوقيع علي وثيقة عدم العودة إلي تلك البيوت فقأنا أعيننا حتي لا نري الدموع التي تساقطت من أحجار بيوتنا المهجورة. في فلسطين فقط تبكي الأحجار.

لا زلنا ننظر إلي تلك التلال إلا أن الشيئ المختلف أليوم هو أن التلال لم تعد تنظر إلينا كما كانت تبادلنا النظرات في الماضي كأن التلال قد أحست بمدي الخيانة التي إقترفناها. كأن التلال تقرف من مجرد النظر إلينا ترفض أن تنظر إلي أعيننا التي تفضح خيانتنا لتلك التلال ولما وراء تلك التلال. حدث كل ذلك عندما إستيقظنا في يوم من الأيام ودققنا النظر في العائدين من وراء تلك التلال، من كنا نحسبهم بطول تلك التلال وعرضها، فإذا بنا ننظر إلي مجموعة من الأقزام فهرلونا جميعاً نتسابق للتوقيع علي وثيقة التنازل...