في الإصلاح الجامعي
محمود القاعود
لعله من نافلة القول أن الجامعات المصرية تشهد تدهوراً ملحوظاً ، تسبب فى تخريج مئات الآلاف من الشباب الضائع الذى لم يتعلم أى شئ مما درسه طوال فترة الجامعة ، وهو ما انعكس سلبا على المجتمع المصري الذى استسلم لجميع الأفكار المستوردة لعجز شبابه عن المواجهة مع هذه الأفكار أو تبني رؤية تعبر عن هوية وحضارة المجتمع.
لقد صار التعليم الجامعى عملية روتينية فى غاية السخف ، لا تعتمد على أى أسس علمية أو معرفية سليمة ، فقط تكرار ممل منذ عشرات السنوات يعتمد على الحفظ والتلقين ، فكلما حفظ الطالب دون وعى كلما كان "نابغة" ، وكلما وعى الطالب دون حفظ كلما كان راسباً !
وهذه أم الكوارث فى التعليم الجامعى ، فالخريج الذى ظل يستخدم قدرته فى الحفظ ، عندما يتحول إلى مدرس أو معيد تجده يفقد أبجديات التعليم أو استيعاب المقرر الذى يُدرسه للطلاب ، كما يفقد القدرة على الإبداع أو الابتكار وهكذا ..
من أغرب الأشياء فى الجامعة ، الكتاب الذى يقرره الأستاذ على طلابه ، ومن المعروف أن 99 % من أساتذة الجامعات المصرية يقررون قبل الامتحانات حذف أكثر من نصف الكتاب المقرر ، والسؤال الذى يطرح نفسه : لماذا لا تحدد وزارة التعليم العالى عدد صفحات الكتاب الجامعى بمائة صفحة مثلا مركزة وفى صلب المنهج ، وتكون أسئلة الامتحان من المائة صفحة ؟
قد يرد البعض بأن الصفحات المحذوفة تكون لإفادة الطالب ، وهو ما أرد عليه بأن جُل الطلاب فى مصر لا يذهبون للجامعة من أجل التعليم وإنما باعتبار الجامعة فسحة للتنزه واللغو الفارغ واللعب وأكل الشيبسي وارتداء الأزياء الحديثة وتكوين العلاقات والحديث فى الموبايل والتسكع فى الطرقات والقاعات والسخرية من الأستاذ وفى بعض الأحيان سبه بالأب والأم باعتبار ذلك عملا ثوريا بطولياً وتمرداً على التقاليد والأعراف !
ومن الآفات الأخري فى الجامعة هى أن يقرر أحد الأساتذة عدة صفحات لمؤلف آخر بالإضافة لمذكرة تُباع فى المكتبات ومعها ورقات من مرجع قديم ! والسؤال لماذا يعجز الأستاذ عن تأليف "مادة علمية" محترمة فى تخصصه فى كتاب واحد بها ما أخذه من المراجع والكتب الأخري ؟ ولماذا لا تجبر الجامعة كل أستاذ بتدريس كتاب من تأليفه هو فى المادة التى يدرسها ؟ أم أن داء البطالة المقنعة انتقل من المجلس المحلية إلى الجامعات مع تعيين الكثير من الحاصلين على الماجيستير والدكتوراة؟
لا أرى سببا مقنعا يقول أن أستاذ الجامعة يعجز عن تأليف مادة فى تخصصه، ثم يدرس كتابا لمؤلف آخر ، فهذا إن دل على شئ إنما يدل على العجز ويطعن فى الشهادة الحاصل عليها .. فعندما يعجز شخص نال الدكتوراة عن تأليف مائة ورقة يقررها على الطلاب ، فللناس أن تسأل هل هو مؤلف شهادة الدكتوراة أم لا ؟!
ومن المضحكات المبكيات أن يكون للمادة الواحدة أكثر من كتاب وأكثر من أستاذ ، ويكون منهج هذا الأستاذ يعارض الأستاذ الآخر ! والسؤال : لماذا لا يكون لكل مادة أستاذ واحد فقط ؟ وهل على الطالب أن يجيب فى ورقة الامتحانات بإجابات متعارضة ومتناقضة تماماً ؟
والعجيب جد عجيب أن تكون مُدة الإجابة على مادتين وكتابين ساعتين ! في حين أن الواقع يقول أن الإجابة على كتاب واحد به أكثر من أربعمائة صفحة تحتاج إلى أكثر من ساعتين ، والغريب أن المطلوب من الطالب أن يكتب ما قرأه بالنص ، وكأنه يكتب آيات القرآن الكريم، وإلا عد الطالب فاشلا لا يستوعب ولا يفهم ، حتى صار الطالب الذى لا يستوعب ولديه القدرة على الحفظ هو " الأول على الدفعة" والمفكر والأستاذ والمعيد !
ولذلك إن أردنا الدقة والواقعية فلتكن امتحانات شفوية يُأتى فيها بالطالب الذى يحفظ ويُسأل ماذا فهم أو يشرح بأسلوبه ماذا يعنى هذا الكلام .. حتما سيكتفي بالتسميع دون أى إدراك .
إنه لمن المشين أن تكون الأمم الأخري تسبقنا بسنوات ضوئية فى التعليم والجامعات، فى حين أننا لا زلنا نراوح أماكننا بين الكتاب الجامعى والمقرر والملغي وتقييم الطالب على كمية الحفظ و "التسميع صم" كما يقولون !
إن الحديث عن معيار الجودة فى الجامعات المصرية " كلام فارغ" لا يسمن ولا يغني من جوع ، فالجودة الحقيقية هى إصلاح الجامعة وعمل اختبارات " ميول" للطلاب تكشف حبهم لهذا القسم أو ذاك ، وإلزام الجامعات بكتاب جامعى فى مائة ورقة موجز ومختصر بعيدا عن الحشو واللت والعجن ، بحيث يعد تقصير الطالب إخفاقاً حقيقياً ، ويكون تقييم الأستاذ للفهم وليس للحفظ ، فمن يكتب نصا من الكتاب قد يكون نقل هذا الكلام من زميله وهو فى الواقع لا يستحق أى شئ ..
كذلك فما يُسمي بالأبحاث لا فائدة له على الإطلاق من الناحية العلمية أو العملية، فالطالب يتجه مباشرة إلى الإنترنيت لنسخ عدة صفحات ولصقها مع ما يُسمي " الشيت" ووضعها فى دوسيه يتكوم مع مئات الدوسيهات الأخري بحثا عن درجة أو درجتين، وعليه فالضرورة تقتضى إلغاء البحث تماماً والاستعاضة عن ذلك بامتحان شفاهي يتم من خلاله تقييم قدرات الطالب الحقيقية..
إن التعليم فى مصر يمر بأزمة كبرى ، تبدأ من المنزل حيث الأسرة التى لا تربى ابنها على احترام أستاذه وتنتهى بالأستاذ الذى تأقلم مع منظومة بيروقراطية فاسدة مستخدماً مبدأ "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" ..
الإصلاح الجامعي ضرورة .. من أجل مصر.. ومن أجل المستقبل.