ظاهرة التسول

الطيب عبد الرازق النقر

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

لعل الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أن الغلاء الذي قد نشر بنوده، وأعلن عن وجوده، في كل صقع وواد قد تمخضت عنه الكثير من الظواهر السالبة التي جاءت عاقبتها حسرة ووبالاً على مجتمعنا الذي أمسى يردد اللوعة والأنين، ويرّجع الشكوى والسنين، فالمواطن الذي أصابته شآبيب البلاء، واجتاحته أغوال الزمن، تسرع إليه همم الراغبين، وتتنافس فيه أمال الطالبين، وتمتد نحوه أعناق المتوسلين، من قوافل الطامعين الذين وجدوا حياتهم عبارة عن ضباب لا يشع بين جنباته أمل، فمن استغنوا عن العمل الدائب، والعناء المرهق، واكتفوا ببسط الأيدي في ضراعة يدركون جلياً أن شرائح هذا الشعب المعطاء سوف توسع لهم كنف رحمتها، وتوطئ لهم مهاد رأفتها، لأنها مفطورة على اللين، مجبولة على الشفقة، والواقع الذي لا يتسرب إليه لحن، أو تشوبه عجمة أن لبعض هولاء المتسولين حالات تتوجع لها القلوب رقة، وتنفطر لها المهج رحمة، وتذرف لها العيون رأفة، وقميناً بمن يتفيأون ظلال الرحمة، ويتقلبون بين أعطاف النعيم، أن يطوقوا هذه الفئات بعطاء جزل، ونائل غمر، ولكن الشيء الغريب أن من يأنف عن العار، ويتكرم عن الدنيئة، ويترفع عن النقيصة، وينوء بنفسه عن إتيان المخازي، هو من يدّر عليهم أخلاف نعمته، ويرضعهم أفاويق بره، نعم من توازعت أفكاره، وتمزقت خواطره، وأعياه الرزق الشرود هو من يهب صرعى الفاقة، وأسرى الجهل، وطرائد المرض، الصدقات العجاف، أما من استرسل إلي الرخاء، وخالط الرّفاهة، وحالف الجاه، فنادراً ما يبل لهاتهم بناطل.

إن الشعب السوداني على ما بين شرائحه من اختلاف في الأصل، وتباين في الأمزجة، وتفاوت في الثقافة، يدرك بحسه من تكأدته المصائب، وطرقته المحن، ومن لا تؤلمه الغضاضة، أو يمضه الهوان، فصاحب المجد الأصيل، والشرف الأثيل، الذي يكفكف عبرات العين بالصبر، ويخفف حسرات الفؤاد بالرجاء، يعلم من رضّه الفقر رضا، وأفضّه الجوع فضا، ومن يرسل نغمة استدرار الأكف حلوة الإيقاع، صافية الرنين، ولا أعتقد من المغالاة أن أزعم أن جلّ قبيلة الشحاذين هم عبارة عن عكارة أجناس، وبقايا نظم، مضوا إلي غايتهم المنشودة بلا إبطاء بعد أن تواترت إليهم الأنباء عن سخاء من يرتاح للندى، ويهتز للعطاء، ويخف للمعروف.

إن المتسول أنبل ما فيه الصدق، وأقوى ما فيه الضعف، فضعفه هو الذي يدفعك دفعاً لاغاثته ومنحه المال الذي يعينه على اقامة أوده وأود عياله، بعد أن شلت يده، وكلّت ذراعه، وعضته الأيام بنابِ مسموم، وصاوله الزمان بمخلبِ قاتل، وأخشى ما أخشاه  أن ينضم كل من تقسّمته الهموم، وتشعبته الغموم، إلي هذه الطائفة، حتى يحتار الكريم 

 من هو الجدير برفده