غزة بين عاطفة اللحظة، والحاجة الدائمة

غزة بين عاطفة اللحظة، والحاجة الدائمة

م. محمد يوسف حسنة

اكتظت شوارع غزة عقِب حرب الأيام الثمانية بقوافل المتضامنين عرباً وعجماً من كافة بقاع الأرض، تنثر عبق التضامن وتستنشق رائحة الكرامة والصمود من شعب لم تُخضعه آلة حرب وشراسة حروب.

وعلّ رسالة التضامن الإنسانية ومطلب كسر الحصار أكبر وأهم بكثير من حجم المساعدات القادمة مع المتضامنين رغم أهميتها، فشعوب الأرض الحرة تُثبت مرة أخرى أنها الأقرب لنبض وآمال وطموح المحاصَرين في قطاع غزة بشكل خاص وفلسطين بشكل عام وهو أمر فطريّ خصوصاً من البلدان التي عانت ويلات الاستعمار وجرائم الاحتلال.

إلاّ أن غزة وجرحها الغائر لم يبدأ مع حرب الأيام الثمانية كما لم يبدأ مع حرب ديسمبر من العام 2008، واحتياجاتها تبقى مستمرة كانت هنالك حرب أو لم تكن.

قد تكون شراسة الهجمة والدماء المُراقة في سبيل الله ومن ثم الوطن هى المحرك الأول لأفئدة الشعوب ومبادراتهم وسرعة تحركهم تُجاه غزة ومشاطرتها أحزان فقد الأحبة ومشاركتها أفراح الانتصار، إلا أن ما تحتاجه غزة أكثر بكثير مما تُحركه عاطفة متأججة عندما تتدفق الدماء وتكثر التضحيات.

فغزة لا تعبر شاطئ الأمان بعد توقف العدوان وتدفق المساعدات الآنية، بل تبقى وحيدةً تُصارع أمواج الاحتياج المتلاطمة والتي تفرض على شعوب العالم الحرة ومؤسساته الوقوف إلى جانب غزة في كل حالاتها وقوفاً جدياً حقيقياً لا يتوقف عند الدعم المعنوي والقوافل البشرية المحملة بمساعدات آنية بسيطة.

غزة التي تبلغ فاتورة احتياجها الشهري من الأدوية والمستهلكات الطبية ثلاثة مليون ونصف المليون دولار شهرياً لا تستطيع تغطيتها بنفسها وتقف حائرة أمام مرضاها الذين ينتظرونها لتقديم الخدمة والعلاج، خلال حرب الأيام الثمانية وبعدها طرأ تحسّن نوعي في كميات الأدوية والمستهلكات القادمة نتمنى أن يستمر هذا الجهد المؤسسي والشعبي من الدول حتى يأتي يوم نرى فيه دولة من دولنا العربية والإسلامية تأخذ على عاتقها مسؤولية توفير مستلزمات الدواء.

غزة وبعد خلو الشوارع من متضامنيها ما زالت ترتدي ثوب العز والفخار المطرز بدماء الشهداء وتتعطر برائحة المسك المنتشر منه، وفي خاصرتها وجع متطلبات شفاء جروح مواطنيها بعد أيام صعبة بذلت فيها الكثير من دماء أبنائها وأطفالها ونسائها دون أن تعطي الدنية في كرامتها وعز أمتها.

إن مطلب غزة تاج كرامة العرب أن يتم تنسيق الجهود بما يضمن وصول مساعدات حقيقة تُلبي احتياجات أبنائها، وتطلب غزة أن تكون الشعوب ومؤسساتهم وحكوماتهم على قدر المسؤولية وعلى قدر تضحيات أهالي قطاع غزة، تُسلط الأضواء على غزة وحاجتها في كل وقت وحين.

تحنّ وتعشق وتريد غزة كل القادمين إلى التضامن معها ولكنها ترغب في قوافل متخصصة تعكس إضافة نوعية تُخفف من المعاناة وتوصل الرسالة الإنسانية.

ترغب غزة من منسقي القوافل التنسيق مع أهل الاحتياج كي تعكس القوافل تطلعات وآمال أهالي قطاع غزة ومؤسساته، بعيداً عن المشاريع المكررة والفائدة المتضاربة والمصالح المتداخلة.

غزة تنظر بعين الألم لحال 10 آلاف أسرة يُعانون الآن شتاء بارد جزء منهم يفترش الأرض ويلتحف السماء تضررت بيوتهم خلال الحرب الأخيرة وبعين الأمل للأيادي البيضاء التي ستُسارع لتضميد الجراح ومد يد العون والمساعدة لتلك الأسر.

 قد نحتاج لإطلاق مبادرة المسيرة العالمية نحو غزة على غرار تلك التي كان من المفترض تنظيمها للقدس وحالت الحدود دون ذلك، مسيرة دورية متكررة متخصصة مهمتها قبل الانطلاق تسليط الضوء على غزة ومعاناتها السياسية والاقتصادية والإنسانية، وتحديد الاحتياجات من ميدان الواقع، ومهمتها أثناء الانطلاق جمع المتخصصين واصطفاء الرواد، ومهمتها بعد الانتهاء التقييم والإعداد للمسيرة القادمة من جديد.