لصالح من العداء بيننا وبين اليهود؟
لصالح من العداء بيننا وبين اليهود؟
ألم نكن دائماً حلفاء؟
طريف يوسف آغا
لم يسجل التاريخ على مدى الأربعة عشر قرناً الماضية عداوة بين العرب وأبناء عمومتهم اليهود إلا خلال الفترة القصيرة التي رافقت وصول الإسلام إلى الجزيرة العربية. ومن الطبيعي أن يحارب الدين الجديد من قبل أتباع الديانات والمعتقدات الاخرى، إذ أيضاً حاربته روما المسيحية وفارس المجوسية وحتى العرب أنفسهم من عبدة الأوثان. ويجب أن لاننسى أن المسيحية نفسها حين أتت حاربها اليهود، واليهودية حين أتت حاربها الفراعنة ثم الرومان وهكذا تتكرر نفس القصة مع الديانات الجديدة.
وبالعودة إلى موضوعنا، وبعد أن استقر الأمر للدين الاسلامي، فسرعان ماتقبل اليهود وغيرهم الوضع الجديد وتأقلموا معه، بل ووجدوا في الدولة العربية الفتية والقوية التي هزمت الروم والفرس وامتدت من حدود الصين شرقاً إلى إسبانيا غرباً، وجدوا في تلك الدولة القوية خير سند وحماية خاصة وأنهم كانوا منتشرين على طول البلاد وعرضها، من اليمن والعراق والشام إلى مصر وتونس ودول المغرب. فكانوا ينعمون بالسلام والأمان طالما كانت الدولة العربية قوية، بينما يتعرضون للقتل والتنكيل كالعرب على يد الغزاة حين تضعف تلك الدولة وتتعرض للأطماع الخارجية. فهم تعرضوا للمجازر، مثلهم مثل العرب، أثناء الغزو المغولي وكذلك أثناء الحملات الصليبية. كما تعرضوا لنفس المجازر حين فقد العرب سيطرتهم على الأندلس، فأقيمت عليهم محاكم التفتيش كما أقيمت على العرب لاعتبارهم حلفاء لهم. كل هذا يدل أن اليهود، ولكونهم أقلية، فقد كانوا دائماً وخلال كل تلك القرون يعتمدون على العرب لحمايتهم. أما في أوقات السلم، فقد عملوا في كافة المجالات وخاصة التجارة، ولم توضع عليهم أي قيود تذكر تجعلهم مختلفين عن الأغلبية السكانية من العرب.
وكما ذكرت في مقدمة قصيدتي (القدس جرح التاريخ) التي ألقيتها أمام جمهور من الجالية العربية هنا في هيوستن عام 2009، فان االمجازر الحقيقية والمروعة التي تعرض لها اليهود كانت تلك التي جرت ضدهم وهم خارج حدود البلاد العربية. فتعرضوا للتنكيل على يد قياصرة الروس باسم الدين المسيحي، ثم أتت الثورة الروسية الحمراء وتابعت التنكيل بهم وبغيرهم من أتباع بقية الأديان والمعتقدات، ولكن هذه المرة باسم الشيوعية والعنف الثوري، ثم أتت النازية وأقامت عليهم المحارق باسم العنصرية والعرق الأبيض المتفوق. ولهذا فقد كان من المفهوم أن يفكروا بحل لايقاف تلك المجازر التي تعرضوا لها في الماضي، وخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين في روسيا وأوربة والتي جرت كما ذكرت خارج حدود الدول العربية وبيد غير العرب.
وبحسب فيلم تلفزيوني أمريكي أنتج عام 1982 عن حياة رئيسة وزراء إسرائيل الراحلة غولدا مايير، فقد جرى اجتماع سري بينها وبين ملك الأردن عبد الله في عمان قبل حرب فلسطين عام 1948. وقد طلبت منه خلال الاجتماع مساعد اليهود على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، أو على الأقل الوقوف على الحياد وعدم الاشتراك في الحرب ضدهم. فأجابها الرجل (أيضاً بحسب الفيلم) أن المشكلة الحقيقية لليهود تكمن في أنهم غادروا محيطهم الطبيعي الذي هو مع أبناء عمومتهم العرب، وقصدوا أوربة وروسيا حيث لم تتقبلهم المجتمعات هناك وأبدت حيالهم كراهية سرعان ماتطورت إلى اضطهاد ومجازر. ثم أضاف أن الحل لمشكلتهم ليس بسلب وطن فيه شعب لاقامة وطنهم عليه، وإنما بتركهم لتلك البلاد والعودة إلى كل البلاد العربية، وليس فلسطين فقط، حيث ستفتح لهم تلك البلاد أذرعها كما فعلت دائماً على مدى القرون الماضية. كما أنهم سيحضرون معهم الخبرات العلمية والتقنية التي اكتسبوها من خلال حياتهم في أوربة ، وسينعمون بحماية وطن عربي كبير من المحيط إلى الخليج بدأت دوله حينها بالاستقلال عن الاحتلال الأجنبي وباكتشاف ثرواتها الغنية وببناء آمالٍ كبيرة على التوحد وتشكيل دولة عظمى. كان جواب غولدا (حسب الفيلم) أن اليهود وبعد مجازر النازية ماعادوا يثقون بأحد وماعادوا يريدون الاعتماد على أحد سوى أنفسهم.
طبعاً لايمكن الاعتماد على فيلم تجاري كمرجع تاريخي، ولكني أتيت على ذكره هنا لأن الكلام الذي نسبه الفيلم لملك الأردن حينها فيه صدق تاريخي وحكمة. ومختصره أن العرب واليهود كانا دائماً حلفاء على مدى قرون طويلة مما خدم الطرفين، هذا بالاضافة إلى القرابة في النسب واشتراكهما في العرق السامي. علماً بأن الكثير من يهود إسرائيل اليوم ليسوا ساميين ولكن من أصل أسيوي ممن هاجروا إلى أوربة الشرقية واستقروا بجوار بحر قزوين (أيضاً يسمى بحر الخزر) في القرن الأول الميلادي ثم اعتنقوا الديانة اليهودية فيما بعد وهاجروا إلى فلسطين مع من هاجروا في بداية القرن الماضي. (انظر كتاب تاريخ فلسطين القديم للباحث الهندي ظفر الاسلام خان)
لقد ثبت تاريخياً أن بريطانيا العظمى لم توافق على منح فلسطين لليهود عبر الوثيقة المعروفة باسم (وعد بلفور) حباً بهم، بل على العكس كرهاً لهم وللتخلص من تحكمهم برؤوس الأموال فيها بشكل خاص وفي أوربة بشكل عام، فأرادوا (تصدير مشكلتهم) هذه إلى أعدائهم الآخرين، وهم العرب. وهذه كانت تحديداً الغلطة التاريخية التي ارتكبتها الحركة الصهيونية، وهي وقوعها في الفخ البريطاني هذا والذي يمكن أيضاً وضعه بالشكل التالي (تخلص من عدوك اليهودي بأن تزرعه في قلب عدوك العربي، فيقتتلان وتمثل دور الوسيط بينهما ولكن في نفس الوقت تبيع الأسلحة الهجومية لواحد والدفاعية للآخر). وسبب تسميتي له بالخطأ القاتل فلأن زعماء الحركة الصهيونية الذين تبنوا ذلك المشروع حينها نسوا أو تناسوا أن العرب هم حلفائهم التاريخيين، في حين أن الأوربيين والروس هم أعدائهم الحقيقيين وأعداء العرب أيضاً. وبالتالي فقد كان عليهم إما أن يختاروا وطناً آخراً لهم غير فلسطين يكون حقاً بلا شعب، وإما كان عليهم أن يصغوا لنصيحة ملك الأردن ويعودوا إلى كافة البلاد العربية كمهاجرين وحلفاء وأبناء عم وليس كغزاة ومغتصبين. أما لماذا لم يفعلوا ذلك، فأعتقد بأنه إما كان قصر نظر من هؤلاء الزعماء وإما أنهم خانوا الشعب اليهودي بتوريطه بالمشروع البريطاني مقابل فوائد شخصية.
إذا تركنا التاريخ وعدنا إلى الزمن الحاضر، وسألنا كيف يمكن لليهود اليوم إصلاح هذا الوضع الشاذ الذي أوصلتهم إليه الحركة الصهيونية في الماضي ومازالت مصرة عليه في الحاضر؟ الجواب ببساطة هو أن يباشروا بالتخلص من زعمائهم الذين مازالوا ينفذون المخطط الصهيوني والذين لايجيدون سوى قرع طبول الحرب، وهؤلاء هم من يمثلهم اليوم (حزب الليكود) الذي يرفع شعار (السلام من أجل السلام) وكذلك تلك الأحزاب الأكثر تطرفاً والتي ترفع شعار (الموت للعرب). وبعد إقصاء هذه الأحزاب عن الحكم، فعليهم إحضار الوجوه المعتدلة من (حزب العمال) و(حركة السلام الآن) وغيرها من الأحزاب والحركات التي تتبنى وترفع شعار (الأرض مقابل السلام). فتكون البداية باعترافهم بوجود الشعب الفلسطيني وباعادة حقوقه المشروعة وأولها حق العودة. وعليهم أن لايخشوا من فكرة أن الفلسطينيين سيصبحون بذلك أكثر منهم عدداً وبالتالي قد يصلون إلى الحكم بالانتخابات، فعليهم كما ذكرت أن ينظروا إلى العرب كحلفائهم وشركائهم وأبناء عمومتهم وليس كاعدائهم، وبالتالي سيفيدهم مايفيدهم، ويؤذيهم مايؤذيهم. أرض فلسطين تتسع للجميع بغض النظر من يشكل الأغلبية، بل وستفتح كافة البلاد العربية أبوابها لمواطنيها اليهود الذين هاجروا منها إلى إسرائيل وغيرها خوفاً على حياتهم خلال الستة عقود الماضية.
قد يسأل سائل هنا: ولماذا عليهم أن يفعلوا ذلك وهم الأقوى بلا منازع في المنطقة؟ الجواب بسيط، وهو أن عليهم أن يفهموا أن الغرب الذي يحميهم ويدعمهم على الخطأ اليوم لن يستمر بذلك إلى الأبد. فهذا الغرب كما ذكرت لايفعل ذلك حباً بهم بل كرهاً لهم وللعرب معاً. والبلاد العربية التي بدأت رياح الحرية تهب عليها ستتخلص عاجلاً أم آجلاً من بقية طغاتها وجزاريها وستسير بدورها في طريق التطور والقوة، وبالتالي ستجد إسرائيل نفسها بعد فترة وقد فقدت من يحميها من الحكام العرب، وعلى رأسهم سفاح سورية، وفقدت كذلك تفوقها العلمي والعسكري وتخلى عنها الغرب الذي يقف دائماً مع الأقوى. وكما أن اليهود الذين عادوا من أوربة وأمريكا بالعلم والتكنولوجيا هم من أمنوا التفوق لدولة إسرائيل الفتية حين قيامها، فان العرب الذين هاجروا إلى هاتين القارتين هرباً من قمع حكامهم، فهم أيضاً حين يعودون بعد رحيل هؤلاء الحكام سيكررون السناريو الاسرائيلي وسيعيدون التفوق لبلادهم. فلماذا لايبدأ الاسرائيليون بمد الجسور بينهم وبين أبناء عمومتهم اليوم باعادة الوضع الطبيعي معهم إلى ماكان عليه خلال القرون الماضية، أن يعودوا كما كانوا: حلفاء لا أعداء.