المشروع الأميركي: رفضٌ أم قَبول؟
مجاهد ديرانية
أثار مشروع أميركا الجديد جدلاً طويلاً، وتباينت الردود عليه بين الرفض والترحيب. المرحّبون تفاءلوا بقرب انتهاء المحنة، والرافضون خافوا على الثورة أن تضيع بعدما بالغت في التضحيات وقطعت الشوط الأطول إلى النصر. ثم قال الأوّلون للآخِرين: إنكم لا تتقنون غير الرفض، وقد تعب الناس ويريدون مخرجاً من محنتهم، فهلاّ قبلتم بالمشروع أو أقنعتمونا بسبب الرفض حتى نكون فيه شركاء؟
صحيح؛ الرفض سهل ويتقنه كل واحد، فإنه لا يحتاج إلاّ إلى حرفين يُنطَقان في ثانيتين، اللام والألف. ليس الرفض أو القَبول هو المطلوب؛ المطلوب هو التوضيح والتبرير. لن أقول للناس: افعلوا ولا تفعلوا. ومَن أنا حتى أقول؟ يكفيني أن أقول: لماذا ينبغي أن تفعلوا ولماذا ينبغي أن لا تفعلوا؟ وبعد ذلك افعلوا ما تحبون.
* * *
سأَفْصل أولاً بين المشروعات والرجال، فإننا ينبغي أن ندرس أي مشروع يُطرَح لحل المشكلة السورية بمعزل عن أصحابه، فما كان خيراً قبلناه وما كان شراً رفضناه. هذا المنهج صالح مع المشروع الأميركي الجديد ومع أي مشروع مشابه قد يأتي لاحقاً، فلا بد أنكم تتوقعون -كما أتوقع- أن يأتي غيرُه وراءه إذا فشل في تحقيق الهدف الذي أُنشئ من أجله. دعونا من "الأشخاص" ولندرس "المشروعات" كلها بمنهجية واحدة:
(1) لنتفق ابتداء على قاعدة مهمة، ولنسمّها قاعدة القواعد: "أيّ مشروع لا يحقق هدف الثورة الأعلى مرفوض، مهما كانت مكاسبه الآنية وفوائده الجانبية".
وما هدف الثورة الأعلى؟ ليس هذا مما يقرره أنا وأمثالي من المنظّرين والمتفلسفين. افتحوا الشبابيك في أي شارع من شوارع سوريا واسمعوا ما يهتف به الناس في المظاهرات، وإن اختفت المظاهرات من هذا الشارع أو ذاك، أو لم يعد في سوريا شارع ولا شبّاك ولا هاتفون بعدما قصف النظام المدن وقتل الناس، فدونكم مئة ألف تسجيل محفوظ في سجلات الثورة، استخرجوا منها المقطع الذي تشاؤون واسمعوه. ماذا طلب الناس وبأي شيء هتفوا في كل المظاهرات؟ لقد كان الهتاف وكان الشعار: "الشعب يريد إسقاط النظام".
إننا نريد إنهاء القصف العشوائي على المدن، ونريد فكّ الحصار وعودة الجيش إلى الثكنات، ونريد وقف القتل وإطلاق المعتقلين من السجون... ولكن هذا بعض الذي نريد وليس هو ما قامت الثورة من أجله، ولو كان هو ما تريده الثورة لما قامت أصلاً، لأنها يوم قامت لم تكن في سوريا مدن تحت القصف ومدن تحت الحصار، ولا كان قنص في الشوارع واعتقال عشوائي للمدنيين في كل مكان. لقد قامت الثورة لإسقاط النظام، واستمرت لإسقاط النظام، وسوف تمضي إلى آخر الطريق إن شاء الله، وآخر الطريق هو سقوط النظام.
(2) لكي لا يحاول أحدٌ خداعَنا والاستخفافَ بعقولنا فإننا سوف نعرّف معنى هذه العبارة الموجزة، "إسقاط النظام". ما هو النظام الذي نريد إسقاطه؟ إنهم يخدعوننا فيقولون: سنعزل الأسد ونُسقط الحكومة ونحل مجلس الشعب. ولكن الأطفال في سوريا يعلمون أن الحكومة دمية من دمى النظام لا حول لها ولا قوة، فإن الوزراء يأتمرون بأوامر مديري أجهزة المخابرات في الصغائر والكبائر ولا سلطةَ للواحد منهم على بوّاب مكتبه. ومجلس الشعب دمية أخرى، إنما هو "سيرك" يضم قطيعاً من المهرجين والمصفقين. والأسد، ما الأسد؟ لقد مات أسد وجاء أسد ولم يتغير النظام.
لا يا سادة، ليس أي واحد من هؤلاء هو النظام، ولكنه جزء من النظام، رأس وأطراف، أما الجسم والجذع والقلب فهو الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية الطائفية وضباط القوات المسلحة الكبار.
والآن إلى درس الحساب: ما هي نتيجة عملية الجمع 1+2 ؟ سوف تصبح قاعدة القواعد هي: إن الهدف الأعلى والأسمى والنهائي للثورة، الهدف الذي لا ينبغي ولا يجوز أن تتوقف الثورة قبل تحقيقه، الهدف الذي ستتحول الثورة إلى عبث وتضحيات عشوائية ما لم تنجزه كاملاً، هذا الهدف هو: عزل "الرئيس" ومعاونيه ومستشاريه واعتقالهم جميعاً، وحلّ الأجهزة الأمنية واعتقال قادتها الكبار والصغار على السواء، وحل التشكيلات العسكرية الطائفية، وتسريح واعتقال قيادات الجيش الملوثة بالدماء، وتحويل ذلك القطيع المجرم كله إلى القضاء.
البقية تأتي تلقائياً، فإنك عندما تقطع الكهرباء عن المبنى تنطفئ كل المصابيح وتتوقف الأجهزة الكهربائية عن الدوران.
* * *
أيها السادة: إن الخط الفاصل بين نجاح الثورة وفشلها هو تحقيق الهدف المذكور أعلاه بتفصيلاته الكاملة، وهذا هو جوهر الصراع الحالي بين الثورة السورية والقوى الدولية (الولايات المتحدة وحلفائها). هذه القوى لها مصالح رعاها النظام السوري وحفظها على مدى العقود الماضية، وهي تعلم أن بقاء "العصابة الحاكمة" أمر مرفوض شعبياً، لذلك فإنها تتوسل إلى تحقيق مصالحها بإسقاط العصابة، العصابة فقط، والحفاظ على المؤسستين الأمنية والعسكرية (أو على الجزء الأكبر منهما). هذا ما تريده أميركا؛ تريد الإبقاء على الأجهزة الأمنية وعزل ومحاسبة رؤوسها فقط، وتريد المحافظة على الهيكل الأساسي للجيش وبقاءه تحت سيطرة الأقلية العلوية.
هذا هو "مفصل الصراع" بين الثورة السورية والغرب حالياً، هذا هو ما يدور حقيقةً وراء الكواليس أنقله إليكم بأمانة: إنهم يريدون تغيير "الرأس" فقط، ونحن نريد تغيير الرأس والجسم كله، نريد إسقاط النظام من أعلى الرأس إلى أسفل الأقدام بالكمال والتمام.
* * *
قد يسأل سائل: لو حقق أي مشروع من المشروعات الدولية ذلك الهدف فقط، فهل توافقون عليه؟ أو بعبارة أخرى: ماذا لو فرض الأميركيون وغيرُهم قادةً علمانيين لقيادة المرحلة الانتقالية التالية لسقوط الأسد؟ ماذا لو لم تحترم تلك المبادرات والمشروعات هوية سوريا الإسلامية وتجاهلت الإشارة إليها؟ هل تعطلون المشروع كله وترفضونه لسبب من هذا النوع؟
وجوابي: إنما أنا واحد من الناس، أقول رأيي كما يقول غيري رأيَه، ورأيي أن ذلك يكفي؛ يكفي أن يضمن أي مشروع سقوطَ النظام كاملاً وحل الأجهزة الأمنية كلها وتحرير الجيش من السيطرة الطائفية، والباقي هَيّن بإذن الله.
أنا واثق أن الولايات المتحدة ستستمر في الضغط على الثورة ومحاصرتها وخنقها، وأنها ستبذل كل ما تستطيع لتطويل معاناة الشعب السوري حتى يرضى بحل يُرضيها، ولن يرضيها أبداً حل يصرّ على هوية سوريا الإسلامية. لو كنت مسؤولاً عن اتخاذ القرار فلن يقلقني هذا الأمر ولن يدفعني إلى تعطيل المبادرة وإطالة محنة الناس، ذلك لأن ثقتي كبيرة بأن الإسلام سيكون هو اختيار غالبية السوريين إذا كانوا أحراراً في الاختيار، لا سيما وأن الشعب السوري بطبيعته متدين قريب من الله والحمد لله، وبعدما جرّب السوريون التجاربَ المريرة مع الحكم البعثي واليساري والاشتراكي والقومي والناصري فلا أظنهم سيرضون بديلاً عن الإسلام.
صحيح أنني أدعو إلى الإسلام على الدوام، وسوف أستمر بالدعوة إليه إلى الممات إن شاء الله، ولكني أدعو إليه بلا إكراه ولا إلزام؛ أحب أن يختاره الشعب السوري -برضاه- هوية له ومنهجاً لحياته وحاكماً لدولته، وثقتي أن الإسلام هو ما سيأتي به صندوق الاقتراع إلى سوريا. وماذا نفعل إن لم يفعل؟ سندعو الناس. هذا هو عملنا، فإننا نعلم أن أي اختيار لهم غير الإسلام يعني أننا نحن المقصّرون ونحن الفاشلون، وأن علينا أن نستمر بالدعوة والإصلاح حتى يصير الإسلام هو اختيار الناس ومطلب الناس.
* * *
يكفينا أن يحقق أيُّ مشروع هدفَ الثورة الكبير، أن يتضمن سقوط النظام كاملاً وبالتفصيل الذي ذكرته قبل قليل، وبعد ذلك سنكمل الطريق بإذن الله، بشرط أن يخلو من الأمور الثلاثة الآتية (وقد حرصت على النص عليها والتحذير منها لأن تصحيح أي منها أو تغييره بعد إقراره وتثبيته صعبٌ أو مستحيل). الشروط الثلاثة هي:
أ- أن لا يقسّم سوريا ولا يفصل عنها أي قطعة منها.
ب- أن لا يربط سوريا بمعاهدات واتفاقيات دائمة، لا سياسية ولا اقتصادية ولا غيرها، فالبتّ في ذلك كله من اختصاص البرلمان الذي سينتخبه الشعب بعد التحرير وليس من عمل أي كيان سياسي انتقالي مؤقت.
ج- أن لا يتضمن أي مبادئ فوق دستورية تقيّد سوريا بقيود علمانية، فلا يحق لأحد أن يحدد هوية سوريا إلا الشعب السوري الحر نفسه، ونحن لا نريد أن نتعب نصف قرن كما تعب إخواننا الأتراك ليخرجوا من النفق المظلم الذي أدخلهم فيه مصطفى كمال.
إذا حقق المشروع هدفَ الثورة وخلا من المحاذير الثلاثة السابقة فحَيْهلا به، كائناً مصدره ما يكون، حتى لو جاء من أميركا أو روسيا أو إيران. لماذا؟
(1) لأننا حريصون على إنهاء معاناة الناس وإيقاف المجزرة، ولا نريد أن ننشغل بأي معركة جانبية يمكن أن تطيل المعركة الأساسية، وهي معركة إسقاط النظام والوصول إلى مجتمع حر كريم. إن الإسلام هو أهم قضية نعيش من أجلها، ولكننا ندرك أننا في جو الحرية الذي سنعيش فيه لاحقاً -بإذن الله- سنجد متسعاً للدعوة والحوار، ولبناء الدولة العادلة وإعادة الإسلام إلى الحياة.
(2) ولأننا ندرك أن المؤامرات ستستمر في المستقبل كما كانت في الماضي، وأن المشوار صعب طويل، ولكن مهما يحصل فإن الشعب السوري العظيم ليس اليومَ كالأمس، فقد تخطى العتبة، كسر الوهم وغلب الخوف واعتاد الاعتراض واستسهل الخروج إلى الشوارع تحت الرصاص، فسوف يتصدى للمؤامرات القادمة وسوف يستمر في الخروج -بإذن الله- حتى يحصل على حقوقه الكاملة.
(3) ولأننا نفكر بأسلوب واقعي. ندرك أن الانتصار الكامل يحتاج إلى وقت، وأن ما خرّبه وهدّمه النظام القديم في نصف قرن يحتاج إلى سنوات لإصلاحه وإعادة بنائه. قد لا يتحقق كل ما نريد مع انتصار الثورة وسقوط النظام، ولكننا سنستمر في العمل. بإذن الله لن يتكرر الواقع القديم: "سكوت وسكون نتيجته خسارة كاملة"، بل سيحل محله واقع جديد: "ضغط وعمل نتيجته انتصار جزئي"، والأجزاء مع الأجزاء ستغدو كلاً متكاملاً. في وقت ما سنحقق الانتصار الكامل إن شاء الله.
* * *
والآن وبعد ذلك كله: ما هو موقفنا من المشروع الجديد؟ جواب هذا السؤال متعلق بجواب السؤال الآخر: هل يحقق هذا المشروع هدفَ الثورة الكبير؟ هل يُسقط النظام كاملاً أم يقتصر على رأسه فقط؟ الجواب قدمه أصحاب المشروع أنفسهم؛ ألم يقولوا إنهم حريصون على تجنب الخطأ الذي ارتكبوه في العراق عندما حلوا الجيش وأجهزة الأمن، وإنهم يريدون أن يحافظوا على الجيش والأجهزة الأمنية في سوريا؟ أما سمعتم ما قاله جورج صبرا قبل يومين: "إننا نتعرض إلى ضغوط هائلة للدخول في حوار سياسي مع النظام"؟ أما قرأتم ما كتبه ياسين الحاج صالح في مقالته الأخيرة: "إن مآخذ الأميركيين على المجلس تتمثل أساساً بسقفه السياسي الذي يطابق ما يقوله الثائرون على الأرض، أي إسقاط النظام"؟
فيا أيها الأحرار: انظروا إلى أين يذهب مشروعهم واسمعوا ما يقولون. لا تسمحوا لهم بالالتفاف على ثورتكم وإجهاضها بعد كل الذي قدمتموه من تضحيات، وبعد ما حققته ثورتكم العظيمة من إنجازات وانتصارات.