هل حقا اخترقت القاعدة الجيش السوري الحر؟

هل حقا اخترقت القاعدة الجيش السوري الحر؟

أم أنها من فبركات المحافظين الجدد؟

الطاهر إبراهيم

كنت من بين الذين رفضوا الدعوات التي ظهرت بداية الثورة في 15 آذار 2011، وتطالب بالاستعانة بالأجنبي لتحرير سورية من حكم الاستبداد والطغيان. كانت قراءتي لا تبعد كثيرا عن الموروث الوطني السوري منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين التي ترفض أن نستعين بالأجنبي للخلاص من قمع بشار أسد وأجهزة أمنه وشبيحته، حتى لو جاءت المعونة الأجنبية "مجانا"، مع أن واشنطن لا تقدم المساعدة مجانا ولا تمد يدها -لوجه الله- لمظلوم.

استطرادا فقد عجبت كيف أن الأستاذ "رياض الترك" يقبل معونة الأمريكي إذا جاءت"مجانا".  ففي مقابلة له مع إذاعة "سوا" عقب احتلال أمريكا للعراق، قال، وبالحرف الواحد: (الشعب العراقي كان في السالب في عهد صدام حسين، وهو الآن ارتفع إلى مستوى الصفر).  

اليوم، رغم الحماس الذي أظهرته إدارة الرئيس باراك أوباما لإرغام بشار أسد على الرحيل، لكن أيا من رموزها لم يعمل على وضع هذا الحماس موضع التطبيق. حتى إن "رجب طيب أردوغان" رئيس الحكومة التركية أصيب بالإحباط بعد أن ظن أن "أوباما"سيدفع باتجاه إنشاء منطقة عازلة في شمال سورية، أو على الأقل يسمح بتزويد الجيش "الحر" بأسلحة مضادة للطائرات والدروع، خصوصا في الأشهر الأخيرة حيث كانت طائرات بشار أسد تقصف المدن والبلدات بالبراميل المملوءة بمتفجرات (t n t). كما عجبت كيف أن التبريريين في أوروبا وافقوا واشنطن علي رفضها تسليح الجيش الحر مبررين بخوفهم أن تقع هذه الأسلحة بأيدي القاعدة.

فعن أي قاعدة يتكلمون؟ سورية لم تعرف القاعدة في تاريخها إلا يوم ألبس بشار أسد بعض ضباط مخابراته عمائم المشايخ، فقام هؤلاء بتجنيد بعض المغرر بهم من بعض الدول العربية وأرسلوهم إلى العراق لقتال الأمريكيين. يومها كانت مصلحة بشار تقتضي ذلك. يوم أن استلم نوري المالكي الحكم في العراق، أصبح نظام العراق في نفس خندق سورية وإيران وحزب الله. عندها طلب نظام بشار من مشايخه الضباط إعادة المقاتلين لأن مهمات جديدة تنتظرهم. اعتقلوا ووضعوا في السجون. ولإخفاء ذلك أمر باغتيال زعيم هؤلاء الضباط المشايخ "محمود قول أغاسي" المعروف ب"أبو القعقاع" عند خروجه من خطبة الجمعة في المسجد الذي يخطب فيه الجمعة في حي الصاخور في حلب. وهنا لا بد من التفصيل، عما إن كان التخوف من الإسلاميين له رصيد على أرض الواقع في سورية أم لا؟

جماعة الإخوان المسلمين كانت محكومة بسيف القانون 49 الذي يحكم بالإعدام على كل من يثبت انتماؤه لهذه الجماعة(ليس بالضرورة أن يكون إخوانيا فهم يجعلونه تحت التعذيب كيف يعترف أنه من الإخوان المسلمين). على أن اليساريين والقوميين والليبراليين والشيوعيين لم يكونوا بأفضل حالا، إلا أنهم كانوا يحظون بهامش ضئيل من الحرية على الساحة السورية. أما الإخوان المسلمون فاستطاع القانون 49 أن يجعل من وجودهم صفرا وعدما في سورية.

اندلعت الثورة في سورية ابتداء من 15 آذار في مناخ اضطر فيه المتظاهرون أن يجعلوا سقف آمالهم أخفض مما وصل إليه إخوانهم في تونس وفي مصر فقد كانت "الحديدة حامية"، كما يقولون. كانوا يقبلون بالوصول مع النظام إلى قواسم مشتركة بحيث "لا يموت فيه ذئب النظام ولا يفنى فيه الغنم السوري". كان الكل يخشى سطوة أجهزة الأمن. كانوا من مشارب شتى، فيهم الذي لا يعرف الصلاة إلا في يوم الجمعة، وفيهم من يصلي وقتا وينام عن آخر، وفيهم من يواظب على صلواته كلها، لكن الجميع يصومون في رمضان.

قبل الثورة كان هؤلاء المتظاهرون يتسكعون على مقاهي الأرصفة، وربما للتحرش بالفتيات . يسمع أحدهم الأذان فلا يترك "الأركيلة" ليقوم إلى الصلاة في المسجد. كما ألزم حافظ أسد المدارس بتدريس مقولات "زكي الأرسوذي" في مادة الثقافة الوطنية ودروس التربية الحزبية التي كان نظام حافظ أسد يسعى ليستبدلها بالثقافة الإسلامية، فضعف التزامهم بالعبادات المفروضة. لكن هذا التشويه الأخلاقي المتعمد لم يكن لينسيهم أن كرامتهم مهدورة وحرياتهم مقموعة، وأنهم كعلبة التبغ الرخيص "نوع خامس"(1) في سوق النظام. 

انطلق الشباب في الجمعة الأولى يهتفون: سلمية .. سلمية. ربما لو تصرف الأمن بكياسة وسياسة، لكان الوضع في سورية مختلفا عما نحن فيه. لكن فظاظة رئيس الأمن السياسي في درعا "عاطف نجيب" جعل من محافظة درعا كلها مرجلا يغلي، والجميع يعرف كيف آلت إليه الأمور بعد ذلك. مع تعاظم التظاهرات تطورت الهتافات على وقع سقوط الشهداء وتدفق الدماء في الشوارع، تغير الهتاف وانطلقت الحناجر بالتكبير مع سماع زخات الرصاص.

الشباب الذين أرغمتهم البطالة والفراغ على ارتياد المقاهي لقتل الوقت صارت الشوارع هي مكانهم المفضل يتظاهرون فيه. يودعون بعضهم مغرب كل يوم بعد أن يدفنوا شهداءهم. في اليوم التالي يلتقون من غير ميعاد، تشتبك أيديهم ينشدون الأناشيد بعد أن حورت من الأغاني التراثية السورية، يهتفون لسقوط النظام. وحين تحاصرهم الأجهزة الأمنية بالرصاص يكبر بعضهم فيكبرون معه ويدعون: "ما لنا غيرك يا ألله". أصبحت هذه "اللازمة" يرددها الجميع في مظاهراتهم. وصار هذا الدعاء "علَمهم" الذي يحتمون به إذا حاصرهم الرصاص. 

أما الجيش الحر الذي انشق عن جيش بشار أسد فإن وضعهم ربما كان أبسط من الذين يتظاهرون. فكما حاول حافظ أسد أن يفسد عقول الناشئة في المدارس والجامعات فقد أراد أن ينشئ جيشا عقائديا بعيدا كل البعد عن الإسلام. ما يعني أن أفراد الكتائب المنشقة بعيدون عن اتهامات واشنطن لهم بأنهم "سيفرخون" مع الأيام سلفيين وقاعدة وأخواتها. وكما عاد من كان يتظاهر إلى فطرته الإسلامية، فقد عاد أكثر المنشقين إلى فطرتهم الإسلامية، عندما كان يطلب منهم أن يطلقوا النار على المتظاهرين بدون ذنب. وكلما كانت مجموعة منهم تنشق، تعلن عن نفسها في تجمع يضمهم، ثم يقول أحدهم: "تكبير" فينادي الجميع: الله أكبر.

ربما لفتت تلك اللازمة وهذا التكبير انتباه واشنطن فأعلنت أنها تخشى أن يصل السلاح إلى أيدي أولئك الذين يقولون "ما لنا غيرك يا ألله"، وهؤلاء الذي يكبرون عند انشقاق مجموعة جديدة. سيئو الظن بها يقولون إن واشنطن تعرف أن هؤلاء الذين يكبرون من المتظاهرين والمنشقين ليسوا من القاعدة، لكنها لغاية في نفس المحافظين الجدد والقدامى يريدون أن يبتزوا قادة الثورة في سورية، خصوصا قادة ألوية الجيش الحر الذين يقاتلون جنود النظام، لفرض شروط واشنطن على النظام الذي سيخلف نظام بشار.

سيئو الظن هؤلاء يذكّرون كيف فبركت واشنطن أسباب سقوط الطائرة المصرية رقم الرحلة 990عام 1999 قبالة ساحل ماساتشوستس الأميركي بعد ساعة من إقلاعها. دلت تسجيلات الصندوق الأسود أن آخر كلام الطيار "جميل البطوطي" كان: "توكلت على الله". الأمريكيون فسروا كلام البطوطي بأنه قام بعمل إرهابي لإسقاط الطائرة. سيئو الظن قالوا إن الطائرة المصرية أسقطها صاروخ أمريكي، وجاءت "الفبركة" لذر الرماد في عيون المصريين.

شقيق "البطوطي" علق على تفسير كلام أخيه "توكلت على الله" بأن المصلين في المساجد يكبرون بشكل جماعي، ما يعني أنهم كلهم إرهابيون.

يبقى أن نقول: حسنو الظن وهم كل المتظاهرين السوريين أدركوا أن مماطلة واشنطن في تسليح الجيش الحر متناسب مع أجندة إسرائيل التي تريد تدمير سورية جيشا وشعبا. لذلك لافتات المتظاهرون في آخر جمعة تحمل شعار: أمريكا! ألم يشبع حقدك من دمائنا؟

 (1) نوع خامس هو تبغ رخيص كان ينتج في سورية.