المصريون ومنتصف العصا!!

حسام مقلد

المصريون ومنتصف العصا!!

حسام مقلد *

[email protected]

لا شك أن ثورة 25يناير المباركة قد أذهلت العالم، وبهر المصريون الدنيا كلها بتوحدهم وترابطهم وسلوكياتهم الراقية خلال أيام الثورة الثمانية عشر، لكن الشعب المصري الوَسَطِي المتسامح المعتدل المزاج المعروف بحدة عاطفته لم يكن للأسف حاسماً في إنجاز ثورته، وإحداث تغييرات جذرية حاسمة في بنية مؤسسات المجتمع المختلفة، واكتفى المصريون بإسقاط رأس النظام فقط دون تغيير منظومة الفساد بكاملها واجتثاثها من جذورها، كما يقتضي مفهوم الثورة فعله من حيث كونها تغييرا جذريا وشاملا!! ونتج عن ذلك الحالة التي نعاني منها الآن من الحسرة والندم والتشتت والانقسام والإحباط، ولعلي أوضح ذلك من خلال الوقفات التالية:

أولا:

ليس من باب الافتئات أو المبالغة القول بأن قيادات المجلس العسكري والأجهزة السيادية العميقة في الدولة المصرية لم تكن مرحبة تماما بالثورة، وبالتالي فضلت الإمساك بمنتصف العصا، فلم تقف مع مبارك ضد الشعب، ولم تتبنَ أهداف الثورة مئة في المئة، فكل ما كان يهم هذه الأجهزة هو القضاء على مشروع التوريث وإبعاد جمال مبارك عن الصورة، ونقل السلطة لنظام معدل شبيه بنظام مبارك في جوانب كثيرة كالجانب الاقتصادي والإعلامي والثقافي والاجتماعي، ومن الواضح جدا أن هناك أطراف عديدة من تلك الأجهزة السيادية العميقة قد تلاعبت بالشعب المصري، ساعد على ذلك طيبة هذا الشعب وميله للمسالمة والتغيير البنَّاء في هدوء وسلام، لكن الكثيرين خُدِعُوا بفكرة إمساك العصا من المنتصف، ووثقوا في وعود المجلس العسكري الذي لم يكن يتحرك قُدُمًا في مسيرة نقل السلطة إلا تحت ضغط المليونيات!!

ثانيا:

لا مبالغة أو تجاوزا للحقيقة إن قلنا: إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة السياسية الأقوى في مصر، وحزبها هو الحزب السياسي الأفضل تنظيما والأوفر حظاً، والأكثر شعبية وسط جماهير الشعب المصري، وهذا ما جعلها مؤهلة لقيادة الشعب والحفاظ على مصالحه وإتمام ثورته، لكنها حتى لا تثير قلق ومخاوف القوى المختلفة محليا وإقليميا ودوليا، وحتى لا تصطدم بالمجلس العسكري آثرت هي الأخرى الإمساك بمنتصف العصا، وفضلت التدرج في إصلاح النظام، لكنها وقعت في نفس الفخ كبقية القوى السياسية...!!

ثالثا:

لا شك أن نظام مبارك يمتلك منظومة قوية وشبكة معقدة جدا من البُنَى الاقتصادية والاجتماعية، وقد ازداد تغوُّل هذه البُنَى واستشرى فسادها في المجتمع بازدياد ضراوة النظام، وعلى مدى ثلاثة عقود كاملة من الزمن فرَّغ هذا النظام المجتمع المصري من قواه الحقيقية، الأمر الذي نتج عنه تجريف كثير من عقول وطاقات المصريين، وأوجد خللا حقيقيا في منظومة القيم، وتلوث الضمائر، واهتزاز المعايير الأخلاقية لدى قطاع واسع من كبار الموظفين في سلم البيروقراطية المصرية؛ لأن نظام الرئيس السابق كان حريصا جدا على محاربة النزاهة وإشاعة ثقافة الفساد بين الناس؛ لإفساد أكبر عدد من المحيطين بالنظام من باب كسر الأعين، وإخراس الألسنة!! وبكل تأكيد ليس من مصلحة فلول هذا النظام المتواجدين والمنتشرين في كل قطاع من قطاعات الدولة إحداث تغيير جذري شامل، وتفكيك بنية النظام السابق، وتطهير البلاد من منظومة فساده المتغولة في كل أرجاء المجتمع!

رابعا:

طبيعي جدا بعد كل هذه السنوات الطويلة من الحرب المنظمة على النزاهة ونظافة اليد أن تصاب مصر بأدواء اجتماعية خطيرة كموت الضمائر، وشيوع ثقافة المصلحة، وتغميض الأعين، وشيلني وأشيلك،  وهشاشة بنية منظمات المجتمع المدني، ووجود جيوش جرارة من المنتفعين والانتهازيين والطفيليين والمنافقين والمرائين وكل من لا يفكر إلا في نفسه ومصلحته الشخصية فقط، والقاسم المشترك بين كل هؤلاء هو تلوث نفوسهم وانعدام الوازع الداخلي الذي يهدي الإنسان إلى الخير، ويرشده إلى الصواب، ويعصمه من الانزلاق إلى منحدرات خطيرة من الفساد والإفساد، واستباحة نهش وانتهاك أعراض الناس، وأكل حقوقهم وأموالهم بغير وجه حق!! ونهب وإهدار المال العام!!!

خامسا:

لا ريب أن النظام الفاسد الذي حكم مصر طيلة العقود الماضية لا يزال حاضرا بقوة في كل دواوين الدولة رغم سقوط رأسه، ولا يزال دولابه العملاق راسخًا ومتغلغلا في بنية المجتمع البيروقراطية ولا تزال مساوئه الخطيرة وسلبياته الكثيرة متسللة إلى نفوسنا، ومترسبة في أعماق الكثيرين منا، وتشكِّل نمطًا من أنماط السلوك المعتاد لدينا ولو على مستوى اللاشعور، وهذه حقيقة مؤكدة من الحقائق الاجتماعية والنفسية التي لا يمكن تجاهلها، ففساد النظام السابق لم يكن في الفراغ، ولم يرتكب كل خطاياه وجرائمه في مجتمع آخر، ولم تظهر كل عيوبه ومساوئه وشروره وآثامه في كوكب بعيد عنا؛ فكل هذا الفساد وكل هذه الجرائم والخطايا ارتكبت بمرأى ومسمع منا، وبعضنا شارك فيها بالصمت أو التواطؤ، وعدم امتلاك الشجاعة الأدبية ولا الجرأة الكافية لرفض كل تلك السلبيات والاعتراض عليها، فضلا عن السعي إلى تغييرها، بل تقاعس الكثيرون عن مجرد إنكارها بالقلب رغم أن هذا هو أضعف الإيمان!! (وعلى المشككين في ذلك البحث في مليارات الجنيهات التي أنفقت وتنفق حاليا لشراء أصوات الناخبين لصالح المرشح أحمد شفيق... واذهبوا إلى الأحياء الشعبية الفقيرة والقرى والأرياف لتروا بأعينكم أن الفلول لا يزالون يمارسون الفساد السياسي ويشترون أصوات الناخبين في وضح النهار!!)

سادسا:

على كل المصريين مسلمين وأقباط مدنيين وعسكريين ليبراليين وإسلاميين المبادرة إلى بث الثقة فيما بينهم جميعا، وهذا يتطلب منا بكل وضوح الإخلاص لله تعالى، والعمل من أجل مصلحة مصر ومستقبل أبنائها، وهذا لن يتأتى دون القيام بعملة سريعة جدا لتطهير قلوبنا وتخليص عقولنا ونفوسنا من شوائب وأدران ومرارات وأحقاد وانقسامات الفترة الانتقالية وما أحدثته بيننا من فِتَنن عظيمة ومفاسد كثيرة، وبث مناخ الشك والريبة والانقسام والتخوين المتبادل، الأمر الذي أدى إلى انفراط عقدنا بعد نزع الثقة فيما بيننا جميعا.

سابعا:

إن ثورتنا المباركة التي صنعها شبابنا الأوفياء الأبرار بدمائهم وقوة إرادتهم تفرض علينا جميعا الآن الوقوف صفا واحدا في وجه فلول النظام السابق وأركانه المتواجدين في دواوين وأروقة الدولة العتيقة التي تلاعبت بكافة القوى السياسية على مدى السنة ونصف الماضية، فيجب أن تتحد قوى الثورة مجددا لإيجاد مخرج عملي عاجل مناسب للتخلص من أذرع هذا النظام الفاسد المنتشرة في كل أجهزة الدولة، ومن وجهة نظري ونظر الكثيرين لا سبيل لذلك سوى التوحد خلف مرشح الثورة الدكتور محمد مرسي ودعمه بقوة من كافة التيارات والتوجهات السياسية لتفويت الفرصة على الفلول ورجال النظام السابق من العودة للحكم مجددا.

ثامناً:

انطلاقا من قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد:11] علينا جميعا الآن التوقف فوراً عن تشويه سمعة بعضنا البعض، والمبادرة إلى توحيد صفوفنا، وجمع كلمتنا، وشحذ هممنا، وتوجيه كل طاقاتنا لإحداث تغيير إيجابي جوهري وحقيقي في نفوسنا أولا، ثم في منظومة الدولة كلها، وفي جميع هياكلها ومجالاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وإلا سنفيق ـ لا قدر الله ـ على وهم كبير وندرك بعد عقود أخرى من التغييب والتجهيل والفقر والحرمان والإحباط أن كل ما جرى كان مجرد وهم أو سراب، وأننا لم نفعل سوى استبدال طاغية بآخر...!!

               

* كاتب إسلامي مصري