من المعارضة السلمية إلى المقاومة المدنية
رسائل الثورة السورية المباركة (43)
الثورة السورية: المرحلة الثانية (9)
مجاهد مأمون ديرانية
أعتذر من القراء الذين أتعبتهم بقراءة المقالات التسع السابقة وصولاً إلى هذه المقالة، فقد اضطَرَرتكم إلى المشي في دهليز طويل لتصلوا أخيراً إلى الصالة الرئيسية، ولكني لم أصنع ذلك بنيّة تضييع أوقاتكم الثمينة بقراءة ما لا يلزم، بل إني اعتبرت أن المرور عبر المحطات السابقة أمر ضروري لازم للوصول إلى "النتيجة" التي سننطلق منها منذ الآن في هذه المقالة وما بعدها، وهي هذه:
لقد كانت الثورة السورية معجزة كبرى ونجحت في تحقيق جملة من المعجزات الفرعية في وقت قياسي، وهي ما تزال تمشي في الطريق الصحيح حتى اليوم وأرجو أن تستمر كذلك، بعيداً عن تحويل سوريا إلى ساحة حرب دولية. إن هذه الثورة لن تنتصر -بإذن الله- إلا بهمّة أبنائها وصمودهم، ولكن الطريق ربما يطول، لذلك تحتاج الثورة إلى تطوير أدواتها وتجديد دمائها، أو باختصار: على الثورة أن تدرك أنها حققت المطلوب في المرحلة الأولى من مراحلها وبات لزاماً عليها أن تنتقل إلى مرحلة جديدة بروح جديدة ووسائل جديدة، مرحلة أهم خصائصها:
(1) ابتكار أدوات جديدة للمرحلة الجديدة. لقد بلغت الثورةُ مرحلةَ النضج في التعبير عن رأيها بالمظاهرات الشعبية الصاخبة، فأيقظت النائمين من شعبنا وأذهلت الدنيا بجرأتها وعظمتها، ومن ثم صار لزاماً عليها أن تنتقل إلى أدوات جديدة ذات أثر في النظام، مع الاستمرار في المظاهرات لا بديلاً عنها. لا نريد من المظاهرات أن تقف، ولكن لا نريدها مقياساً وحيداً على نجاح الثورة، ولا نريدها وسيلة وحيدة للضغط على النظام.
(2) من أهم سمات المرحلة المقبلة ومن أهم خصائص أدواتها الجديدة أن تُبقي النظام تحت الضغط الدائم وأن تعمل على إنهاكه بشكل مستمر، وهذا ما ستهتم بتفصيله المقالاتُ القادمة إن شاء الله.
(3) الاستعداد لحرب طويلة. الذين تابعوا مقالاتي السابقة -منذ أيام الثورة الأولى إلى اليوم- سيقولون إنني استبدلت بالتفاؤل تشاؤماً وبالأمل يأساً. وليس الأمر كذلك، فأنا أحمل في قلبي أجمل الآمال على الدوام وأبُثّها في الناس، لأن الأمل والتفاؤل هو زادنا في المواجهة الصعبة مع النظام المجرم، لكننا الآن في طور التخطيط لعمل طويل، والتخطيط والعمل لا يُبنى على الآمال والأحلام، إنه يُبنى على توقع أسوأ الظروف والاستعداد لها، وكما يقول القادة الناجحون: "تفاءلْ بالأفضل وخطّطْ للأسوأ"، الأولى تبقيك في سلامة نفسية وعزيمة عالية والثانية تجهّزك لكل أنواع الطوارئ والمفاجآت.
* * *
بعد نشر عدد من المقالات التسع سمعت من بعض الإخوة في بعض مناطق سوريا الثائرة أنهم قد فرغوا من المرحلة الثانية وباتوا على أعتاب المرحلة الثالثة، لذلك فإنهم يريدون القفز من فوق المرحلة والانتقال إلى العمل المسلح كما يقولون! لا يا إخواني الكرام، ما تزال الثورة في مرحلتها الأولى طالما أنها لم تطوّر أدوات جديدة، أما ما ذكرتموه فهو رؤية رأيتموها نتيجةَ القفزات الكبيرة التي قفزتموها والخطوات العملاقة التي أنجزتموها حتى الآن. لا شك أن مناطق سوريا المختلفة ليست سواء
في مواكبتها للثورة، بل إن فيها السابق واللاحق والمتقدم والمتأخر، ولا يسعني أن أعلق على هذا التفاوت إلا بكلمة كتبها ابني حارثة في حوار له مع بعض المستعجلين الداعين إلى الحرب، أستعيرُها منه لمناسبتها لهذا الموقف، قال: "يبدو لي أن شاباً مقيماً في حمص المشتعلة التي بات أهلها على قلب رجل واحد يصعب عليه أن يدرك أن مدينته الأبيّة قفزت في طريق الثورة في سرعة هائلة وأن عليها أن تنتظر المناطق الأبطأ حتى تلحق بها، فالثورة لا تنضج بنفس السرعة في كل مكان، بل
إن أهل سوريا يمشون فيها بسرعات مختلفة، فليت المتقدّمين ينتظرون المتخلّفين قبل أن يفكروا في حمل السلاح".
إن التفاوت في السرعة بين الناس وبين الجماعات أمر طبيعي، وما دمنا كلنا في رحلة واحدة باتجاه الحرية فلا مناص من أن ينتظر السابقُ منا اللاحقَ حتى لا تتشتّت الثورة وتصبح جماعتُها جماعات. فأرجو أن يصبر السابقون على ثورتهم التي صارت مصدرَ إلهام للمناطق الأخرى وقدوةً لها، وسوف تتفجر تلك المناطق المتأخرة بالثورة مثل السابقة، إن عاجلاً أو آجلاً بإذن الله. ورد في الأثر: "سيروا على سير أضعفكم"، وهو توجيه مهم لحفظ حياة الجماعة الصغيرة المسافرة في الفَلاة حتى لا ينقطع بعضها فتتخطفه السباع أو يقتله العطش، ولكنه توجيه أهم لحفظ حياة الجماعة الكبيرة التي يقاتلها نظامٌ مجرم بَطّاش هو أفتك من سباع الفَلَوات ومن وحوش الغابات.
* * *
قبل الانطلاق في تفصيلات المرحلة الثانية ومناقشة أدواتها وآلياتها يجب أن نكون على يقين من أمر جوهري، بل لعله أكثر الأمور جوهرية في كل ما يمكن أن أكتبه أنا أو يكتبه غيري: إن عدم حسم المعركة حتى اليوم لا يعني أن الثورة لا تحقق إنجازاً في كل يوم.
فكروا في هذا المثال البسيط هُنَيهة: أنتم تشربون الشاي في كل يوم وتُعدون منه أباريقَ وأباريق طول النهار، فماذا يصنع من أراد إعداد الشاي؟ إنه يملأ الإبريق ماء ويضعه على النار ويلبث ينتظر، حتى إذا غلى الماء قذف فيه كمية من الشاي "الفرط" أو دلّى في الإبريق أكياس الشاي الجاهزة. ربما استغرق الماء عشر دقائق للوصول إلى نقطة الغليان، فهل يقول أحد في الدقيقة التاسعة: لم يحصل شيء إلى الآن، لا فائدة من هذه الطريقة في صنع الشاي، علينا أن نجرب غيرها؟ هل تبلغ قلة الإدراك بأحد من الناس لدرجة أن يزعم أو يظن أن غليان الماء هو العلامة الوحيدة على نجاح عملية إعداد الشاي؟ لن يفعل، بل إنه سيكون على يقين أن الأمور تمشي في الاتجاه الصحيح طالما أن حرارة الماء تزداد دقيقة بعد أخرى، وهو يعلم أن لحظة الغليان وتلقيم الشاي هي الثواني الثلاث الأخيرة التي تأتي نتيجة لمئات الثواني السابقة من التسخين البطيء.
لماذا يقبل القاعدةَ السابقةَ كلُّ الناس بلا تردد عندما تتعلق بالشاي ويرفضونها عندنا تتعلق بالثورة؟ لا، إنهم لا يرفضونها ولكنهم ينسونها، فأرجو أن يساعدني كل من يقرأ هذه المقالة على إعادة تذكير الناس بما ينسون، لا على تعليمهم ما لا يعلمون. إنهم يعلمون وسوف يقولون لك لو فكروا: "ثورتنا السلمية تمشي في الاتجاه الصحيح ولا بد أن تصل إلى هدفها بإذن الله"، لكن الضغط الشديد يعطل أحياناً مَلَكة التفكير. هل ألوم من يعاني من الحياة الصعبة مع التهديد المستمر بالقتل والاعتقال لو نسي تلك القاعدة؟ معاذ الله، لا أفعل، ولكني أساعده على التذكّر وأساعده على التفكّر، لأن التفكير الصحيح هو الطريق لاتخاذ القرار الصحيح.
يا أيها الثوار الأحرار: ضعوا أصابعكم في إبريق الماء مرة كل أسبوع، فإذا وجدتموه بارداً كالثلج فعودوا إلى بيوتكم، إن الثورة السلمية لم تصنع شيئاً، أما إذا سخن الماء فأكملوا الطريق، فإنكم في الطريق الصحيح. وما علامات ارتفاع حرارة ماء الثورة؟ منها: ازدياد عزلة النظام واستمرار الضغط الدولي عليه، ومنها تصاعد توتر وجنون النظام وأجهزة النظام وإمعانه في القتل والتنكيل والإجرام. والمظاهرات؟ إنها لم تتوقف رغم القمع والقتل والاعتقال والحصار والترهيب. هل تريدون رأيي في مظاهرات تخرج رغم ذلك كله؟ إن الواحد فيها بألف من الذين خرجوا من قبل. وكلما زاد القمع والترهيب سأرفع النسبة، حتى يأتي يوم أقول فيه إن الواحد من المتظاهرين بمليون. قبل أسبوعين اعتقل مجرمو الأمن في ركن الدين بدمشق سيدة متقدمة في السن وقفت وحدها تتظاهر وتحمل لافتة كُتبت عليها عبارات الثورة المطالبة بسقوط النظام، هل يقول مُنصفٌ إن تلك المرأة كانت شخصاً واحداً؟ ألا ترون فيها -بعين الإنصاف- عشرين ألف شاب من شباب الحي الذين اعتُقل منهم مَن اعتُقل وحُبس الباقون عن التظاهر بالقمع ومنع التجول في حي يخضع للاحتلال العسكري منذ شهرين؟
يا أهل الثورة: لا تظلموا ثورتكم السلمية، لا تكونوا أكثرَ جنايةً عليها من عدوكم. اخرجوا بخيالكم من عالم اليوم وعودوا إلى الوراء مئة وتسعين يوماً، ألا ترون أنكم حققتم المستحيل أو ما كان يبدو في حكم المستحيل؟ فكروا في وضع ثورتكم قبل ثلاثة شهور وقبل شهرين وقبل شهر، ألا ترون مبلغ صمودها في مواجهة آلة إجرام وقتل قلّ مثيلُها في الدنيا؟ أليس هذا نجاحاً عجيباً بحد ذاته بعد كل ذلك الجهد الهائل والسعي المحموم من قِبَل النظام لقتل الثورة؟ أليس كل يوم يمر على الثورة وهي ما تزال حيّة هو يوم نصر جديد؟ إنه نصر للثورة ولسلمية الثورة، وأرجو أن تتراكم انتصارات الأيام المتتالية الصغيرة وصولاً إلى يوم نصر شامل عظيم غيرَ بعيد بإذنه تعالى.
لا تستمعوا لصوت مثبّط يقول إن المظاهرات في تراجع. من قال ذلك فعزّروه أو أسكتوه. أما قلت لكم من قبل (وقال غيري) إن كل متظاهر حِيلَ بينه وبين التظاهر قسراً فهو متظاهر ولو لم يتظاهر؟ حسناً، أنا لا أعلم وأنتم -يا ثوار سوريا- تعلمون، كم علمتم من ثائر أو متظاهر قال: الثورة مكلفة، سأعود إلى تأييد النظام؟ كم من الثائرين كفر بعد إيمان؟ لا يبلُغْ بكم الإجحاف أن تَعُدوا من استُشهد ومن أُسر ومن حوصر ثم تقولوا: هؤلاء خرجوا من صفوف الثورة! أما إنهم ليزدادون إصراراً على ثورتهم في كل يوم ولو تخلّفوا عنها راغمين، حتى الشهداء في السماء يتمنون أن يعودوا إلى الأرض ليشاركوا فيُستَشهدوا مئة مرة بعد المرة الأولى لما يرون من الكرامة.
* * *
كلمة على الهامش
منذ بدأت بالكتابة عن الثورة السورية وأنا أتلقى رسائل وتعليقات من شبّيحة وعبيد النظام المجرم تحتوي على قصائد هجائية تبدأ بي وتنتهي بجدودي الأعلَين، وقد اعتبرتها جهداً ضائعاً ورصاصات طائشة في الهواء لأنها لم تهزّ في بدني شعرة، فقد علمت أنهم عدوٌّ وأن سهامهم لا بد أن توجَّه إلى صدري فلبست درعي، درع اللامبالاة فلا أبالي بما يصنعون، ودرع الاحتساب فأحتسبه كله عند الله فداء لثورة الحق والخير. لكني تلقيت -بعد نشر المقالات التسع الأخيرة- كثيراً من التعليقات من أهل الثورة وأنصارها، أقلّها موافق وأكثرها معارض، معارَضةً تتراوح بين الرفض الرفيق والهجاء الشديد. النوع الثاني لا يفيد لأننا نبحث كلنا عن الصواب ولا نريد بالثورة إلا خيراً، فلماذا يسبّ بعضنا بعضاً وينشغل بعضنا بحرب بعض؟ أما المخالفة المنهجية في الرأي فإنها تسرّني وأرحب بها، فأنا لست سوى فرد محدود العلم والرأي، والثورةُ أعظم من أن يحتكر الرأيَ فيها آحادُ الناس وأفرادُهم، ولولا أني أؤدي زكاة قلمي وأرى الكتابة واجبةً عليّ انتصاراً لثورة الكِرام المستضعفين لما قرأتم لي حرفاً. إنني أقدم ما أستطيعه ضمن قدرتي على التفكير والاجتهاد، وغيري يقدم ما يستطيع، والثورة -بجمهورها وقياداتها- ستنجح بإذن الله في انتخاب ما يصلح واستبعاد ما لا يصلح، وإذا سَلِمت النوايا فلن يخلو مجتهدٌ من واحدٍ من أجرين إن شاء الله.