مذبحة باب البلد في حماة

عبيد الله شدهان

مذبحة باب البلد في حماة

عبيد الله شدهان

بعد تسع وعشرين سنة من المجزرة الكبرى التي نفذها النظام الأسدي في حماة الصابرة المجاهدة ، بعد هذه السنوات اتضح وضوح الشمس أن النظام الأسدي جيء به لينفذ مقولته ( الرجعية أخطر من إسرائيل ) ، وقد قتل عشرات الألوف من خيرة أبناء الشعب السوري ، ومن خيرة الشعب الفلسطيني ، بل قتل من الفلسطينيين أكثر ماقلته الصهاينة ، وهاهو اليوم يقتل الشعب الليبي ، عندما يرسل طياريه الذين دربهم على حساب خزينة الشعب السوري ليحرر الجولان ، يرسلهم اليوم ليقتلوا الشعب العربي الليبي .

أما الجولان ، فمنذ أربعين سنة أو تزيد يسوده الأمن والسلام ، وفي هذا الأسبوع الأول من شباط (2008) تستمر المحادثات في استامبول بين مصطفى سليمان وآلون الصهيوني ، ومازالت مأساة حماة راسخة في أذهان المسلمين وسوف تبقى حتى يعود الأمن والعدل إلى سوريا ويحاكم القتلة وسفاكي الدماء ، مجرمي الحرب ...وتشفى صدور من بقي حياً من الآباء والأمهات ....

فالجرائم التي ارتكبها النظام السوري ، نظام البطش والإرهاب ، هذه الجرائم البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية ، وتأنف الوحوش في الغابات أن تفعل مثلها ، هذه الجرائم جدير بنا أن نجمعها من ألسنة شاهدي العيان الذين مازالوا يعيشون بيننا ، الذين كانوا فيها ، واكتووا بنار جمرها ، وأقل الواجب علينا  معشر المثقفين  أن نسجل الحقيقة ، وننشرها ، لنتغلب على الكذب والتضليل و ( الدجل الثوري ) ،  الذي يمارسه النظام السوري منذ أربعين سنة .

وقعت مذابح كثيرة في وطننا المستلب ، في حماة وحلب وجسر الشغور وجبل الزاوية ، وفي غيرها من ربوع سوريا .

خبراء الجريمة السوفييت :

 وكانت هذه المجازر الجماعية بناء على نصيحة خبراء الجريمة السوفييت ، الذين استقدمهم نظام الطغاة بعد أن كادت تسحقه ضربات الثورة الشعبية المسلحة التي نشبت في حماة وحلب وجسر الشغور وغيرها ، عندئذ وصل خبراء أو (خبثاء ) الجريمة السوفييت ، ولاشك انهم (صهاينة ) ، وعاينوا مكان وزمان وقوع اغتيال عملاء النظام ، وعرفوا أن الشعب متعاون مع الثوار ، ومتضامن معهم ، ونصحوا النظام أن يقتل خمسين مواطناً على الأقل في مكان وزمان الاغتيال ، عسى أن يكون القاتل أحدهم ، وعسى أن يفصلوا الشعب عن الثوار ، فيستطيع النظام عندئذ السيطرة على الطليعة المقاتلة ، التي كانت تلقن عملاء النظام دروساً موجعة خلال النصف الأول من عام (1980) .

أما مجزرة باب البلد  :

 فهي إحدى المجازر الثانوية بعد مجازر ( 1982م ) وقد تمكنت من مقابلة أحد الناجيين منها ورواها لي كما وقعت .

يقول ( أبو حيان الحموي ) كنت زائراً عند بعض أقاربي في حي باب البلد ، أتفقدهم لغياب رب أسرتهم الذي غيبته المخابرات العسكرية ، ومازال غائباً حتى اليوم ، وشاء الله عزوجل أن أشهد أقسى تجربة يشاهدها إنسان في حياته ، عندما يشاهد الموت على بعد ثوان فقط منه :

( في الرابعة من فجر يوم : 22/4/1981م كانت مجموعة من الطليعة المقاتلة  تختبأ في مقبرة باب البلد ، وتكمن منتظرة سيارات الوحدات الخاصة ، ولما مرت سيارة للوحدات الخاصة اشتبكوا معها ، وقتلوا سبعة عناصر منها ، ويبدوا أنهم تمكنوا من الفرار .

لذلك قرر قائد الكتيبة ( رائد من السويداء ) الانتقام من الحي المجاور للمقبرة وهو حي باب البلد وبجواره البرازية ، عملاً بالاستشارة التي قدمها الخبراء السوفييت ( يهود) ، الذين استقدمتهم الحكومة السورية عام (1980م) لدراسة الحالة الأمنية في حماة  ، وقد عاينوا عدة مواقع في حماة جرى فيها اغتيال بعض أعوان السلطة ، وكان خلاصة تقريرهم أن هذه المدينة كلها مجرمة ، وهي متعاونة مع هؤلاء ( المخربين ) ،  لأن ( المخرب ) يقتل ضحيته ويفر ثم يختبئ أمام هؤلاء المواطنين ، ولايسهمون في القبض عليه ، أو على الأقل إرشاد وحدات الجيش المنتشرة في كل مكان من المدينة ، والتي تصل إلى موقع الاغتيال بعد بضع دقائق فقط ، ولاتتمكن من القبض أو معرفة الجاني ، لذلك ننصح بقتل عشرات المواطنين ، في الموقع الذي جرى فيه اغتيال أي عميل للسلطة ، حالاً وبدون تحقيق ، وبدون التعرف على الأسماء ، يكفي أنهم من ذلك المكان ، كي نجبر أهالي مدينة حماة على الوقوف مع السلطة ضد ( أفراد العصابة  ) ، وعلى الأقل يمنعونهم من البقاء بينهم أو التحرك في حييهم . هكذا كانت نصيحة الخبثاء اليهود السوفييت ، وطبقها النظام السوري بحذافيرها عام (1981م) ، وكانت هذه النصيحة بداية رجحان الكفة عسكرياً نحو جانب السلطة ، بعد أن كانت الكفة العسكرية ترجح نحو مقاتلي الطليعة خلال (1979 ، 1980 ) .

في الخامسة فجراً تقدمت وحدات خاصة من الشارع المحاذي لكلية الطب البيطري ، وأخذت المواطن مصطفى دياب من بيته ( أصله من قرية بسيرين ، ويسكن حماة منذ ربع قرن ) ، ثم أخذوا سبعة مواطنين وجدوهم في فرن ( عفشة ) ، ثم أخذوا ولدين شابين من أولاد أبي صالح الزعبي ، ثم أخذوني من بيت أقاربي ، وكنت الحادي عشر ، والحمد لله أنهم لم يعرفوا أنني من خارج الحي ، ولو عرفوا لقتلوني منفرداً ، ولكن شاء الله أن أبقى حياً ،  وقبل وصول شارع باب البلد صفونا في الشارع  وأهل الحي يتفرجون علينا من نوافذ بيوتهم ، ورمونا بالرصاص فوقعنا جميعاً ، وقد أصابتني ثلاث رصاصات إصابات غير قاتلة والفضل لله ، وكان غيري جريحاً أيضاً ، وتركونا ممددين في الشارع ، وتابعوا سيرهم إلى باب البلد فأخذوا المواطن خالد الرزوق وأولاده الثلاثة من بيته ( وهو صاحب بقالة كبيرة ومشهورة في المنطقة ، يشتهر بدماثة خلقه وسماحته في البيع ، وغيرته على الدين يرحمه الله ) ، وأخذوا المواطن شمدين الملي ، وأبا أكرم الحلاق وولده ، ( استطاع أن يهرب الأب من خلفهم ويدخل في زقاق جانب خان سليم حمادة ولم يلحقوه وبقي ابنه معهم ، فنجا الأب وقتلوا الإبن ) ثم أخذوا عبد المنعم حداد ( شقيق الشاعر عبد القادر حداد ) ومواطن من آل البرازي وآخر من آل تركماني ، وكلما وصل عدد المواطنين معهم إلى مايزيد عن عشرة رشوهم في الشارع وتركوهم ممددين تحت المطر . كما أخذوا عدداً من المواطنين من بيوتهم من شارع أبي الليث الذي يصل البرازية مع باب البلد ورشوهم عند سوق النحاسين .

ووصل عدد المواطنين الذين رشوهم في صباح ذلك اليوم إلى اثني وسبعين مواطناً أخذوهم من بيوتهم ، وقد استشهد منهم سبعون يرحمهم الله ، ونجا منهم اثنان كنت أحدهم .

بقينا ممددين حتى السادسة صباحاً حيث رجعوا إلينا ، وكنت ممدداً على بطني ، وشعرت أن الموت اقترب مني ، وصرت أهمس في قلبي  دون أن أحرك عيني المغمضتين ، وكنت أتمنى لو أستطيع أن أسد أذني كي لا أسمع الجندي وهو يطلق عليّ رصاصات الإجهاز ،  وأجهزوا على مصطفى دياب يرحمه الله ، وقال أحدهم لزميله القريب مني : تفقد ذاك الذي نام على بطنه يبدو أنه لم يمت ، واقترب العسكري مني ثم ناداه الضابط بسرعة فذهب إلى الضابط ولم يتفقدني [ لأن أجلي لم ينته ]  ، وبقينا ممددين أمام أعين أهلنا وأقاربنا حتى العاشرة صباحاً تحت المطر ، حيث انسحبت كتيبة الوحدات الخاصة من المكان .

كنت مصاباً بجرح كبير حول الكلية ، ولما تأكد أهلونا من ذهاب الوحدات الخاصة أسرعوا إلينا ، ووجدوني حياً فنقلني أحد هم إلى مخفر الشرطة لكنهم رفضوا أن يفعلوا شيئاً ، فأعادني وفي شارع العلمين صادفتنا سيارة الإسعاف فأوقفهم وحملتني إلى المستشفى الوطني ، وهناك وجدت عشرات الجثث مازال دمها ينزف ، ووجدت مسؤولين من المخابرات وغيرهم من وحدات الأمن ولما حققوا معي [ ولأن أجلي لم ينته ] ؛ هداني الله ولم أقل لهم أن الوحدات الخاصة ضربوني ، وإنما قلت لهم جماعة مجهولين وغالباً يكونوا من عصابة الإخوان ، لذلك  تركوني وشأني ، أما المستشفى فكان مكتظاً بالجرحى ، ولم تسمح لي المخابرات العسكرية بالمعالجة فيه ، فأعادني أقاربي إلى بيتي ، لأعالج هناك بحقن مضادة للالتهاب ، وينظفون لي الجرح بالمعقمات ، وبقيت خمسة عشر يوماً فيه حتى كتب الله لي الشفاء .

وقد عرفت فيما بعد أن جريحاً كان معنا نقله أهله إلى دمشق للعلاج ، ولما حققت معه الوحدات الأمنية وقال لهم ضربتني الوحدات الخاصة أجهزوا عليه في الحال .

وعرفت في المستشفى أنه في نفس اليوم ( 22/4/1981م) وفي المساء وقعت مجزرة جماعية في حي بستان السعادة ذهب ضحيتها قرابة سبعون مواطناً .

هذه عينة من المجازر الجماعية التي ارتكبها نظام الأقلية في سوريا ، ارتكبها ضد المواطنين الأبرياء ، عملاً بنصيحة أسياده اليهود السوفييت . نسأل الله عزوجل أن ينتقم من الظالمين في الدنيا وفي الآخرة ، وأن نرى بأعيينا ذلههم ومهانتم ، والله على كل شيء قدير .