هي الانتفاضة
معين الطاهر
"منشان الله ... ياضفة يلا"، نداء تردد في شوارع القدس، قبل أسابيع، سبقته وأعقبته عشرات الفعاليات الشعبية لحماية المسجد الأقصى أمام انتهاكات المستوطنين اليومية، والتي وصلت إلى حد منع الآذان في رحاب المسجد، في سابقة لم تشهد مثلها حتى الحروب الصليبية. وترافق ذلك مع اعتداءاتٍ للمستوطنين على أبناء القدس، بالحرق أو الخطف أو الشنق وإطلاق الرصاص. وما تلا ذلك من رد شعبي فلسطيني بالحجر والسكين والدهس وإطلاق النار في عمليات ومواجهات يومية، توجت، حتى كتابة هذه السطور، بعملية بطولية، قام بها الأسير المحرر، غسان أبو جمل الذي كان منتمياً إلى الجبهة الشعبية، وابن عمه عدي. هذه العملية وغيرها من عمليات أبناء القدس والضفة باركتها كل الفصائل في بيانات لها، على الرغم من غيابها الكامل عن المشهد الفلسطيني الشعبي، واستنكرتها السلطة وقيادتها وتبرأت منها، ما يعكس أزمة عميقة بين النخب القيادية والجمهور الفلسطيني.
إنه نداء أهل القدس المدوي الذي يناشد كل فلسطين، وكل العرب، لكي تصبح انتفاضتهم المستمرة من دون توقف، منذ استشهاد محمد خضير، واندلاع الحرب على غزة، انتفاضة لكل فلسطين، وجرساً يدق لكل أحرار العرب، يذكّرهم بأن فلسطين كانت، وما زالت، قضيتهم المركزية الأولى، وهم يواجهون الفساد والاستبداد، والتخلف والتحالف، ويخوضون عشرات المعارك الثانوية التي تفرق ولا تجمع، وتقسم ولا توحد، وتبعدنا عن آمالنا في الوحدة والاستقلال والتقدم والتحرير.
هي الانتفاضة التي استجاب لها القسم المحتل الأول من أرضها السليبة، بجرأة وشجاعة وإقدام وتعبير واضح عن الهوية الوطنية الواحدة. واستجابت لها مختلف المناطق الفلسطينية، عبر هبات متعددة، تفاوتت في شدتها وقوتها، وتباينت في مداها الزمني بين عاصفة وهدوء ما قبل هبوب عاصفة أخرى. وكلما توهم أحدهم أن ما يحدث ليس سوى لحظة عابرة، زفت الملائكة شهيداً جديداً قاوم بصدره العاري أو بحجره، بسكينته أو سيارته، بصلاته في الأقصى أو صموده في أرضه، لتلتهب الأرض من جديد تحت أقدام الغزاة.
وهي انتفاضة بدأت فلسطين في حصد نتائجها مبكراً، اذ اضطر نتنياهو إلى التراجع مؤقتاً أمام اندفاعتها، والتعهد الكاذب بعدم المساس بالوضع الراهن في الأقصى، وذلك بعد أن استحالت القدس بأسرها ثكنة عسكرية، وتحفز الباقي الفلسطيني إلى الزحف باتجاهها، وسحبت الأردن سفيرها في تل أبيب. وحذر الرئيس محمود عباس من أن الانتفاضة حتمية، ملمحاً إلى أنه لن يقوى على وقفها هذه المرة. وتدخلت الولايات المتحدة، عبر زيارة وزير خارجيتها جون كيري، إلى المنطقة، في محاولة يائسةٍ وخجولةٍ لوقف اندلاع الانتفاضة، لكنها لم تجد، في جعبتها، بعد عملية الثلاثاء في القدس، إلا أن تدينها، وتطلب من السلطة الفلسطينية السيطرة على الأمور، مرفقة ذلك بتهديد بوقف مساعداتها المالية، إذا استمرت السلطة في محاولاتها التقدم بطلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة. وهي بذلك كمن يصب الزيت على النار، حين تنزع من السلطة الفلسطينية آخر قشةٍ، تتعلق بها وسط البحر الثائر والمضطرب.
هي الانتفاضة على الرغم من اختلاف صورتها عن تلك الماثلة في الذهن من صور نمطية للانتفاضات السابقة. صورتها وملامحها وآفاقها ستتشكل عبر تصاعدها، وقطعاً لن تكون هذه الانتفاضة نسخة طبق الأصل عن الانتفاضات السابقة، إذ عليها أن تستفيد من الدروس والعبر والتجارب، وأن تقدر تقديراً صحيحاً واقعها الراهن، وإمكانات الحركة وأساليب المقاومة المتاحة. أما أنها تأتي على شكل هبات، فلعل هذا يقويها ولا يضعفها، ويجعل العدو في حالة ترقب وإنهاك دائم.
هي الانتفاضة على الرغم من عدم وجود قيادة موحدة لها حتى اللحظة الراهنة، بل ارتكزت مجمل نشاطاتها على جهود الأفراد والفعاليات الشعبية، في ظل شلل العمل الفصائلي شبه الكامل. ولعل من المفيد التذكير بأنه، حتى في الانتفاضة الأولى، فإن القيادة الموحدة ولدت بعد انطلاق الانتفاضة، والانتفاضات دومًا ليست وليدة قرار من أحد، بقدر ما تشتعل شرارتها بفعل الظروف الموضوعية المناسبة.
وهي الانتفاضة التي تأتي بعد أن اصطدم الفلسطيني بالجدار الأخير، ولم يعد أمامه سوى أن يحطمه بيده العارية أو يبيد. إثر المفاوضات التي تلد أخرى في حمل كاذب، لا ينتج عنه سوى الاستيطان والتهويد، واستمرار الطرد والتشريد، وطغيان التنسيق الأمني لصالح العدو.
نعم، هي الانتفاضة التي تشتعل في القدس والمناطق التي لا تخضع لسيطرة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، بوتيرة أعلى من باقي المناطق. لكن، لا يشكل ذلك مؤشراً على هدوئها، بقدر ما يدلل على خطورة استمرار التنسيق الأمني وضرورة التوقف عنه، وإنهائه كلياً، وعدم الاكتفاء بالانحناء أمام عاصفة الهبات الشعبية، كما حدث في أثناء الحرب على غزة، ومن ثم تعود حليمة إلى عادتها القديمة، أو أشد.
هي الانتفاضة التي تشتعل في ظل فرض نمط استهلاكي على حياة السكان في الضفة، و تنامي عدد المنظمات غير الحكومية الممولة من الخارج، واعتماد عدد كبير من الأفراد على رواتب السلطة، ما دفع بعضهم إلى الاستنتاج بصعوبة قيام الانتفاضة، في ظل هذه الظروف. لكن، توضح، بجلاء، نظرة متأنية على طبيعة الوضع الاقتصادي التي سبقت الانتفاضة الأولى أو الثانية، أن العامل الاقتصادي لم يكن قط عاملاً حاسماً في اندلاع أي منهما. بل كانت الظروف، حينها، أفضل بكثير مما هو عليه الآن، بما في ذلك حرية الحركة، وعشرات آلاف فرص العمل المتاحة داخل إسرائيل، إذ أن الهم الوطني والرغبة في تغيير الواقع والانقلاب عليه ودحر الاحتلال وشعور المواطن الفلسطيني بأنه يواجه مسألة وجود يتفوق، بوضوح، على أي حديث عن وضع اقتصادي.
هي الانتفاضة التي ستختلف، حتماً، آفاقها وأهدافها وشعاراتها عن السابق. لم يعد للفلسطيني ما يخسره، وعليه أن يطوي صفحة "أوسلو"، بكل ما نتج عنها، وأن تعود انتفاضته لتوحد الشعب الفلسطيني في كل مناطق وجوده، ومن رحم الانتفاضة ستخرج قيادة شعبية جديدة عابرة للفصائل، تعيد للوطن مبادئ ثورته الأولى في دحر الاحتلال وتحرير القدس وكل فلسطين.
لا توجد ظروف موضوعية أفضل من هذه للانتفاضة، وهي الحل السحري لمعضلة الانقسام الفلسطيني، بتوحيد الجهود ضد العدو في الميادين والساحات. وهي ليست قراراً يصدر من أحد، ولن يتمكن من وقفها أحد، وأغلب الظن أن الشرارة اندلعت، ولعلها شرارة تمتد، أيضاً، إلى السهل العربي، لتعيد توجيه أولوياته من جديد.