عن أحوال مصر
عن أحوال مصر
د. رشدي سعيد*
(من ندوة في "مركز الحوار العربي"- 21/5/2008)
في مصر اليوم قلق اجتماعي يتمثّل في الكثير من الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات التي تكاثرت وتيرتها في العامين الأخيرين وطالت الكثير من الطوائف: عمال القطاعين العام والخاص، الطلبة، المدرسين، المهنيين على اختلافهم، موظفي الحكومة، الفلاحين، القضاة، أساتذة الجامعات، الشباب العاطلين عن العمل ومدوني الإنترنت وغيرهم. كما طال هذا القلق العلاقة بين المسلمين والأقباط التي شكّلت وحدتهم أحد أهم إنجازات الحركة الوطنية، وأصبح التوجس والخشية والتمييز على أساس الدين واضحاً يزكّيه تزايد النعرات الطائفية وازدياد الجرعة الدينية في الخطابين الرسمي والشعبي.
ويعود هذا الاضطراب في نظرنا إلى عدّة أسباب لعل أهمّها سوء توزيع الثروة وتراجع الأمل وزوال فرصة التقدم الاجتماعي لمعظم المصريين في ظل نظام تديره قلّة لصالحها أصبحت تملك الثروة وتعيش الحياة الرغدة وتدير شؤون الحكم والسياسة والاقتصاد لصالحها وبطريقة تعتقد أنّها الأصلح وأنّها الوحيدة التي يمكن تطبيقها في ظروف الانفتاح الاقتصادي في عالم اليوم والذي أدّى إلى عولمة الاقتصاد وانفتاح الباب واسعاً أمام تدفق الأموال وانفتاح الأبواب أمام الشركات عابرة الجنسيات. وعلى الرغم من أن نتيجة هذه الطريقة في إدارة الاقتصاد قد أدّت إلى نقل الثروة إلى قلّة من المستثمرين إلا أنّ هذه القلّة كثيراً ما تردّد أن الوقت سيوصل جزءاً من نتاج هذه الطريقة إلى عامة الشعب عندما تتسرب نتائجها إليه في مستقبل الأيام.
وتورد الحكومة والمستفيدون من هذا النظام الاقتصادي أرقاماً تبين نجاح طريقتها في إدارة الاقتصاد، فالناتج القومي قد زاد ومعدل النمو قد وصل إلى أكثر من 7% في السنة والاستثمارات الأجنبية تتدفق عل مصر بالمليارات ممّا يتسبّب في إنشاء الآلاف من الوظائف الجديدة والعالية الأجور والتي أصبحت متاحة بفضل عملية الانفتاح الاقتصادي على الشركات متعددة الجنسيات التي أصبح لها فروعاً في مصر لها نشاط اقتصادي واستفادت من الأجور المتدنية وتساهل الحكومة في تطبيق المقاييس لنظافة البيئة أو لحقوق العمال، واستغلال الثروات كالمياه والأحجار والطاقة بأسعار مدعمة ومتدنية. هذا فضلاً عن الإعفاء من الضرائب لمدة قد تزيد عن العشر سنوات.
أمّا عن الشريحة الصغيرة من المصريين التي حصلت على معظم ناتج هذه الطريقة من الاقتصاد فقد بلغ ثراؤها حدّاً فاحشاً. وحتى نبيّن حجم هذا الثراء، فليس علينا غير أن نذهب إلى حيث تعيش هذه الشريحة من السكان أو إلى الأماكن التي أعدّوا ليقضوا فيها عطلاتهم. فبالقاهرة والإسكندرية أحياء كاملة بنيت في السنوات الأخيرة وأحيطت بالأسوار، بها قصور وفيلات الصفوة محاطة بالحدائق وحمامات السباحة ومزوّدة بأحدث منتجات العصر من أدوات الرفاهية. وبالمدن مولات مليئة بأفخر البضائع والمجوهرات وأدوات الترفيه. أمّا عن المنتجعات التي تقضي فيها هذه القلّة عطلاتها مثل قرية مارينا على ساحل البحر الأبيض أو شرم الشيخ على خليج العقبة فقد أصبحت مثالاً للرفاهية قلّ أن يجد المرء مثيلاً له في أغنى بلاد الأرض. ويمكن للمرء أن يتصوّر ذلك بعد أن يعرف أن منتجع شرم الشيخ استضاف هذا الأسبوع المنتدى الاقتصادي العالمي واستطاع منظمو هذا المنتدى أن ينظموا فيه اجتماعاً لأكثر من 1500 زائر وأن يجدوا مكاناً لائقاً لإسكان هذا العدد الهائل الذي كان يضم فيما يضم اثني عشر ملكاً ورئيس جمهورية وصلوا وهم يصطحبون حاشية وحرساً وأطقم للخدمة، هذا بالإضافة إلى العدد الكبير من رجال الصحافة والإعلام ومنظمي المؤتمر والعاملين على حراسته. أمّا عن منتجعات سواحل البحار، حدّث ولا حرج، فالكثير منها محاط بالأسوار وبه مراسي لليخوت وملاعب الجولف وأماكن لتأجير السيارات التي لا يقل مستواها عن الرولس رويس والفراري وغيرها. ومن الأمور ذات الدلالة هي أن منازل كل هذه المنتجعات معفاة من الضرائب بسبب أنها غير محسوبة في عداد المدن!
كم يا تُرى عدد هذه القلّة التي تتحكم في شؤون مصر وتدير دفة حكمها؟ في تقديري أن حساب عددها يكون بمقدار من يمتلكون في مصر رموز الثروة، كعدد من يملكون اليخوت البحرية أو الطائرات الخاصة والتي لا يزيد عددها عن 25000 يخت وأقل من مائة وخمسين طائرة خاصة. أمّا عن السيارات الفاخرة فإن كان عددها غير معروف على وجه الدقة فإن جملة عدد السيارات الملاكي في مصر لا يزيد عن 1,909,149 سيارة حسب آخر إحصاء (ديسمبر 2006). وإذا أردنا أن ننزل بمستوى مالكي الثروة في مصر إلى كل من يملكون سيارة مهما كان حجمها أو سعرها، فإننا بصدد مليون ونصف مليون مواطن من بين 72 مليون مواطن هم جملة عدد السكان في سنة 2006، أي أن نسبتهم لا تزيد عن 2،5% من السكان.
وما هو جدير بالذكر أني عدت إلى تعداد سنة 1996 فوجدت أن عدد السيارات الملاكي المسجلة في مصر في ذلك التاريخ لا تزيد عن 1،225،479 بنسبة 5،2 من سكان مصر في تلك السنة والبالغ عددهم 59،313،00 مواطن.
هذه القلة التي تحتكر الثروة في مصر تحتكر السلطة أيضاً وهي تحكم عن طريق حكم الطوارئ وتتخذ القرارات المصيرية وتضع السياسات التي تتعلّق بمصائر البلاد دون رقابة أو مساءلة. فالمجالس التشريعية التي يفترض أن تضع القوانين وأن تراقب السلطة التنفيذية مغيّبة تكاد أن تكون صورية وبلا سلطة. ولم يحدث أبداً أن حاسبت أحداً أو أسقطت وزارة أو منعت قانوناً حولته إليها الحكومة عن الصدور... أما عن قرارات قلة الحكام فإنها تتخذ في أغلبها لصالح هذه القلة ودون النظر إلى الصالح العام أو إلى المستقبل. وإذا أخذنا على سبيل المثال القرارات التي تتخذها هذه القلة الحاكمة في مصير المصادر الطبيعية للبلاد على سبيل المثال لوجدنا أنها تؤدي وبلا استثناء واحد إلى تبديدها. ويأتي هذا التبديد واضحاً في استخدامات الأرض التي أصبحت تباع في مساحات شاسعة لعدد محدود من الملاك في حالة الأراضي الصحراوية المحيطة بوادي النيل أو المنتشرة على طول سواحل البحار. أما في حالة الأراضي الزراعية القديمة في الدلتا ووادي النيل فقد أصبح استخدامها في غير أغراض الزراعة مسموحاً به مما قلّص من مساحة الأرض الفائقة الخصوبة للزراعة في وقت شح فيه الغذاء. ومصادر الطاقة تصدّر إلى الخارج وتباع بأبخس الأسعار ويتم تزويد المصانع الكثيفة الاستخدام للطاقة بأسعار مدعومة. ومصادر المياه تهدر وتمد إلى المدن الساحلية البعيدة والأراضي الصحراوية العالية ذات العائد المتدني. وكل هذه القرارات وغيرها تُتّخذ وكأنّ الغد لن يجيء!
* نائب سابق في "مجلس الشعب" المصري.