أحلام العصافير
أحلام العصافير
د. هبة رؤوف عزت
أتأمل المشهد في مصر بين الحين والحين من مسافة، إما مسافة مكانية عندما أسافر للسير والنظر في أرض الله الواسعة، أو مسافة تصورية افتراضية حين أحلم، فعصر اليوتوبيا لم ينته، ولا حتي عصر الأيديولوجيا.. والفارق بينهما ليس كبيراً.
اليوتوبيا كلمة تعني خارج المكان أو اللا مكان، حلم لا يتحقق داخل هذا العالم، أو على وجه الدقة: لم يتحقق بعد. والأيديولوجيا هي منظومة أفكار متماسكة لتفسير العالم ببساطة وبشكل واضح يدور حول عدة مفاهيم مركزية تشرح كل شيء، مثل مفهوم الصراع الطبقي في الرأسمالية، أو مفهوم المجتمع الذكوري والثقافة الأبوية المركزية في النسوية التي كانت تياراً ينادي بالمساواة ثم أضحت أيديولوجية تنطلق من التمركز حول المرأة، أو مفهوم العقلانية والفردية والمنطق الوضعي في الليبرالية. وبين الأيديولوجيا واليوتوبيا علاقة وطيدة، فالأيدلوجية أياً ما كان لونها تستبطن حلماً، والأحلام لا تموت..
منذ فترة يلح عليَّ هذا المقال، تناقشت في فكرته مع أصدقاء من تيارات فكرية وخلفيات سياسية مختلفة، فلم يوافقني علي أفكاري أحد، البعض قال هذا مستحيل من الناحية العملية، والبعض الآخر قال هذا غير مفيد، وفريق ثالث قال لي في حكمة واتزان: ستخسري الكثير لو أعلنتي عن هذا المشروع المقترح، وقد تدخلي في دائرة الخصومة مع من تربطك بهم صداقة عمر.
لكن السيناريو ظل يتطور في ذهني، وأصبحت تلك الأفكار تلح عليّ، وأصبح كتمانها يمثل بالنسبة لي عبئاً نفسياً وأخلاقياً مع استمرار جمود مشهد الواقع السياسي، فقررت أن أتوكل علي الله وهو حسبي، وأن أكتبها وأجري يتراوح بين نصيب من اجتهد فأصاب، أو علي أقل تقدير أجر من اجتهد فأخطأ.
أما خسارة الأصدقاء أو اكتساب الأعداء فليس من اختصاصي، فأنا لا أشتغل بالسياسة بل أشتغل مواطناً، وأنا بحكم أنني مواطن محترف نتيجة التخصص أسعي لاكتساب الأصدقاء، فمن وجد في كلامي ما يستدعي مخاصمتي، أو مهاجمتي، فلا بأس، نصيب بقي.. نعمل إيه.. الله غالب.
ندخل في الموضوع بعد تلك المقدمة.
لم يعد معقولاً أن تستيقظ مصر كل صباح علي نفس الأسئلة، من سيخلف حسني مبارك، هل جمال مبارك سيرث الحكم أم سيتدخل الجيش، متي يتوقف احتكار الأقلية للحكم والثروة، ما التعديل القانوني القادم الذي سيمر من فوق رأس الإخوان ومن تحت أنف الناس، سواء كما حدث في قانون الطفل وقانون المرور، أو باقي القوانين علي القائمة؟!
لم يعد معقولاً أن يشعر المصري أنه إما مواطن مضحوك عليه، أو مواطن منهوب، أو مواطن مستباح، ويعيش أيامه لا يملك أن يغير من الوضع شيئاً، إما لأنه خائف من الدولة البوليسية القادرة علي إلصاق أي تهمة بأي أحد لتقفيل أبواب السياسة أو قفل المحاضر بتلبيس الناس قضايا، أو علي أقل تقدير تسريح جيش من العاطلين الذين قرروا أن العمل في الماكينة الأمنية فكرة لا بأس بها، واستغلوها لممارسة بلطجة مقننة علي خلق الله في الشارع، وهذا موضوع سأكتب عنه قريباً شجوني.
لم يعد معقولاً هذا الاستقطاب بين الحكومة والإخوان في حين يقف الشعب مسلوب الإرادة، وتدور الأحزاب المحدودة الموجودة فعلياً علي الساحة في دائرة مصالحها دون وجود حقيقي في الشارع.
حرام أن يكون هذا هو حال مصر، وأن يكون أقصي المراد أن يطيل الله عمر السيد الرئيس خشية مصير مجهول لا نعرف عنه شيئاً، وأن يتم قطع لسان أي أحد يتحدث في الموضوع، من منع هيكل من الظهور في الإعلام المصري بما فيه الفضائيات بعد محاضرته الشهيرة التي قال فيها ما أقوله هنا في الجامعة الأمريكية والتي نقلتها «قناة دريم» فحدث لأحمد بهجت ما حدث، إلي محاكمة «إبراهيم عيسي» لأنه تجرأ وسأل عن أحوال صحة الرئيس فأصبح بهذا هو الذي يهدد الاستقرار ويدمر الاستثمار.
جربنا بناء لجان شعبية لم تحقق النجاح، وبرزت حركة كفاية وهي بين مد وجزر، وحاولت من قبل أحزاب تحت التأسيس أن تحرك الماء الآسن كحزب الكرامة وحزب الوسط فأغلقت لجنة الأحزاب الباب علي أصابعها، وسعي شباب زي الورد لحشد الشارع فتم إرهابه وترويعه وتم إطلاق رصاص حي ليسقط القتلي في المحلة.
طيب نناشد الحكومة والنظام، لا فائدة، ومقال عبد المنعم سعيد في الأهرام الأسبوع الماضي عن قانون الطواريء يقول بالفم المليان للحزب الوطني:«أليس منكم رجل رشيد؟».والواضح أن.. لا.
وعندي باختصار سيناريو لكسر تلك الحلقة المفرغة لا يراهن على الناس ولا على الحكومة ولا على النخبة المثقفة التي انفصلت عن الجماهير إلا من رحم ربك، وهو سيناريو يراهن ـ متفائلاً ـ علي الإخوان.
السيناريو كالآتي:
1 ـ أن ينسحب الـ 88 عضواً من المجلس ويخلوا الدوائر التي يمثلونها لأنهم غير قادرين علي تمثيل مصالح الناس، ولا معارضة القوانين، ولا ترويض الحزب الحاكم القابض بأسنانه علي كرسي السلطة، والحكومة تستفيد من وجودهم بأكثر مما يستفيد الناس ويستفيد الوطن.
2 ـ أن يتنحي المرشد العام للإخوان المسلمين وهو رجل له تاريخه ولطيف علي المستوي الإنساني وأن يختار الإخوان مرشداً عاماً ويغيروا اللائحة الداخلية لكي لا يتجاوز سن المرشد 50 سنة ويكون مرشداً مرة واحدة لفترة لا تزيد علي ثلاث سنوات، ويكون أمامهم ثلاث سنوات ليطوروا برنامجهم ديمقراطياً داخل الجماعة.. ومع شركاء الوطن من تيارات وطوائف، وبعدها ينطلقوا ـ هداهم الله ـ للمشاركة «بتواضع» في بناء تحالف ديمقراطي يخوض الانتخابات القادمة.
3 ـ أن يتم تعيين متحدثين رسميين للإخوان، الأول متحدث سياسي يتم اختياره من الأخوات وفيهن أستاذات ومحاميات وطبيبات ومهندسات ولا ينقصهن عقل ولا لسان، والثاني متحدث إعلامي من شباب المدونين لا يزيد سنه علي ثلاثين سنة.
4 ـ أن يشكل الإخوان حكومة ظل ديمقراطية تبدأ في تطوير سياسات واقعية لمصر اليوم وهنا من أجل تجنب فراغ سياسي في المستقبل القريب حين يأتي أمر الله.
بس خلاص.
إنني فقط أحلم من أجل مصر، وليس لي في هذا الحلم ناقة ولا جمل، وأعلم أنها أحلام العصافير، لكن من حق العصافير.. أن تحلم.
(نقلاً عن جريدة “الدستور” المصرية بتاريخ 8/6/2008، العدد 376)