سياسة التوحد البيبية
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
المتابع للسياسة الاسرائيلية، خاصة تصريحات رئيس حكومتها بيبي نتنياهو، يمكن ان يتعلم فن الديماغوغيا السياسية. الموسوعات العلمية تفسر الديماغوغيا بأنها إستراتيجية لإقناع الآخرين بالاستناد إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة. بالوقت نفسه هي سياسية للبقاء في السلطة وكسب للقوة السياسية من خلال استغلال المخاوف الشعبية وتوقعات الجمهور المسبقة، تُنفذ هذه السياسة عن طريق الخطابات والتصريحات القومية التي تثير عواطف الجمهور وتظهر الديماغوغ/ الزعيم بأنه رجل قوي وأهل للثقة والتاريخ البشري لا يخلو من نماذج..
الديماغوغ يقول شيئا ويتصرف باتجاه مخالف ب 180 درجة. نتنياهو تحدث مثلا عن حل دولتين. ما قام بعد حديثه كان نسف كل الجسور لمثل هذا الحل، تحدث بعد وقف اطلاق النار في عملية "الجرف الصامد" عن فتح افق سياسي جديد، القصد مع الفلسطينيين طبعا وليس مع اله اسرائيل.. لكنه فتح افق جديد مع سوائب المستوطنين!!
يتحدث عن السلام مع الفلسطينيين، بل ويقر بأن ابو مازن هو البديل المقبول لدية وليس حماس،بنفس الوقت يتهمه بانه عدو للسلام؟ هل يوجد سلام ليكون عدوا له؟ يصادر الاف الدونمات الجديدة ويقر بناء مستوطنات جديدة، يقر مشاريع بناء جديدة، يقوم باستفزازات ضد مواطني القدس بسرقة منازلهم بعمليات بيع مزورة او غير مزورة لكنها تنفذ تحت غطاء احتلال غير مشروع. يكرر اتهامه للسلطة الفلسطينية ورئيسها بأنهم أعداء للسلام ومثيري عنف. يقف مؤيدا لإستفزاز لا يشمل سكان القدس لوحدهم، ولا يشمل سكان المناطق الفلسطينية المحتلة او المحاصرة، بل يشمل العالمين العربي والاسلامي بمحاولة تقسيم المسجد الأقصى بين أصحابه المسلمين وسوائب المستوطنين الفاشيين المدعومين من اليمين السياسي في السلطة الاسرائيلية ودعم بالصمت من اليسار.
النماذج السياسية الدولية لديماغوغ اسرائيل كثيرة، لكني الاحظ ما هو أخطر من "الديماغوغيا الواعية" التي يمارسها بيبي نتنياهو. نحن امام زعيم يميني مصاب ب "التوحد السياسي الشخصي".هناك مرض التوحد المسمى "اوتيزم". نحن أمام "اوتيزم"/ توحد سياسي وهي عبارة عن ممارسة سياسة منغلقة شخصية لا يسمع فيها مواقف الآخرين، ان كانوا من حزبه او من جنرالات جيشه (الذين ارسلوا رسالة هامة يحذرون نتنياهو من استمرار سياسته)، او من اصدقائه، او من الأحزاب التي تسمى اعتباطا معارضة وتشكل جبهة دفاع عن سياسة الديماغوغيا خارج اسرائيل ومنتقدة خجولة في الداخل باسلوب أشبه بالمسرح الهزلي الشكسبيري، أن نهج التوحد باعترافهم يلحق الضرر بدولة اسرائيل ويعرضها لخطر الانعزال الدولي والنزاع مع الحامي الأعظم/الأمريكي لسياساتهم وعربدتهم وانفلاتهم ونقضهم كل القوانين المتعارف عليها دوليا، حقا وصف الأمريكيون نتنياهو ب "الجبان البائس"..لكنهم صفعوه بيد و"حسمسوا" على وجنتيه باليد الأخرى، اما الواقع السائد فهو ان المعارضة اليسارية داخل المجتمع الإسرائيلي مرتعبة من الديماغوغية البيبية.
اليسار في اسرائيل يفقد يساريته وشرعيته اليسارية بعد ان فقد عذريته لليمين. مثلا الدعوة لذكرى رئيس الحكومة يتسحاق رابين، الذي اغتيل بسبب اعترافه بمنظمة التحرير الفلسطينية وتعامل مع النواب العرب في الكنيست على قدم المساواة، بدا سياسة مساواة هامة في الميزانيات ومشاريع التطوير للوسط العربي، نجد ان العرب استثنوا من المشاركة في ذكرى مقتله. رئيس الدولة السابق شمعون بيرس غرد في كلمته للسلام ولم يقدم أي تفسير لتعثر السلام، لم ينتقد نتنياهو على خطواته وخطوات حكومته التي لا تترك فرصة لا تستغلها لنسف أي امكانية لحل الدولتين.
هذه الحالة تذكرني بطرفة:عاد جميل الى بيته ووجد زوجته وأفضل صديق له عراة في السرير. قبل ان يتمالك نفسه من الصدمة قفز صديقه من السرير وقال له: قبل ان تفتح فمك وتقول شيئاً، من تصدّق؟، هل تصدّق أفضل أصدقائك أم تصدّق عينيك؟"
من سيصدّق حسب رأيكم؟
أحسن صديق لديه، أم يصدق عينيه؟!
هذا سؤال فلسفي للتفكير.. وليس مجرد نكتة. السؤال الفلسفي هنا: أي مجموعة من المعطيات يجب ان يثق بها جميل؟ معطيات الرؤية المدركة الواعية؟ ام معطيات الكذب التي ستصدر عن صديقه؟
هذا السؤال موجه لليسار في اسرائيل الذي يفتقد لمرشح قادر على الوقوف امام بيبي نتنياهو وفضح ديماغويته وتوحده السياسي. هل يصدقون نتنياهو ام رؤيتهم المدركة الواعية لما ينفذ عمليا؟
لعل اليسار يستعيد وعيه المغتصب.. لكني اشك ان الجمهور الذي اعتاد على ديماغوفيا نتنياهو قادر على التحرر منها بدون وجود سياسة يسارية تحافظ على عذريتها ولا تلوثها بالاستسلام للديماغوغيا البيبية!!