حين يُحكم على أصحاب الرأي في سوريا
هيثم المالح أنموذجا
المحامي هيثم المالح |
الطاهر إبراهيم |
عندما أصبح الرئيس "بشار أسد" رئيسا للجمهورية، فإن الذين عارضوا الحكم البوليسي الذي حكم به والده الراحل "حافظ أسد" سورية على مدى ثلاثين عاما تنادَوا قائلين: ينبغي ألا نحكم على عهد الرئيس بشار بأنه استمرار لعهد والده إذا ما اختلفت سيرته عن سيرة والده، بغض النظر عن الكيفية التي تبوأ بها الرئيس بشار الحكم، خصوصا وقد بدأ خطاب القسم الرئاسي مناديا بحق الآخر بأن يأخذ دوره في حكم سورية.
صحيح أن عهد الرئيس "بشار أسد" لا يقارن بعهد والده "حافظ أسد"، وأنه أطلق سراح معظم من اعتقل في عهدوالده. لكن الصحيح أيضا أنه كان يطلق سراح ناشطين في حقوق الإنسان من المعتقل ليعتقل ناشطين آخرين غيرهم. وأن الكاتب "علي العبد الله" أطلق سراحه بعد أن قضى الحكم الذي صدر بحقه، ثم ليعتقل في اليوم الثاني لأنه كتب مقالا قبل عدة سنوات.
عندما نقول إن الرئيس بشار حاول أن يظهر عهده مختلفا عن عهد أبيه، فلا نتكلم من فراغ. في مقابلة مع"نيويورك تيمز" أواخر عام 2003، امتدح الرئيس بشار معارضي حكمه، ونأى بنفسه عن اتهامهم بالخيانة كما كان يفعل في عهد والده، قال للمحرر:"هم –أي المعارضون- ضد نظام الحكم وضد الدستور، لكنهم يرفضون التعاون مع واشنطن، بإمكانك أن تسألهم".
عادة ما يكافأ المحسن على حسن السير والسلوك. لكن المعارضة في سورية، وقد امتدحهم الرئيس السوري، لم يروا مكافأة لهم تتناسب مع مديحه بل العكس هو الذي جرى. فقد اعتقل أعضاء ربيع دمشق وحوكموا وحكم القضاء السوري "المسيّس" عليهم بالسجن.
من جهة أخرى، وفي مقابلة تلفزيونية في باريس قبل عامين، لم يُنكر الرئيس السوري "بشار أسد": "أن بعض قوانين بلاده قاسية في التعامل مع أصحاب الرأي الآخر في البلاد". لكنه في أرض الواقع لم يتغير شيء من هذه القوانين نحو الأحسن.
مؤخرا، حكم القضاء السوري "المسيس" على أحد مؤسسي منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في سورية المحامي "هيثم المالح" بالسجن ثلاث سنوات بتهمة "نشر أخبار كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة"، وهي التهمة "الكليشيه" التي حكم بموجبها كل من اعتقل في عهد الرئيس "بشار أسد"، ما أثار ردود فعل منددة بالحكم محلية وإقليمية ودولية نظرا لما يتمتع به الأستاذ "المالح" من مكانة حقوقية وقضائية ونقابية. فقد كان قاضيا في ستينيات القرن العشرين، ومن ثم محاميا بعد أن سرح من القضاء في بداية حكم حزب البعث، كما اعتقل ضمن من اعتقل من أعضاء النقابات في سورية في 31 آذار عام 1980، بعد أن دعوا للاعتصام العام.
ابتداء لا بد من التأكيد على أن الأنظمة التي تلجأ إلى اعتقال خصومها السياسيين إنما تعبر عن عجزها وفشلها الفكري في مقارعة خصومها الحجة بالحجة، فتلجأ إلى الاعتقال كسلاح للسلطة لإسكاتهم وتغييبهم في المعتقلات بدلا من الحوار معهم.
وإذا كنا شهدنا خلال سنوات حكم الرئيس "بشار أسد" محاكمات خضع فيها القضاء إلى ظلمة السياسة، فلا بد من التنويه بضوء وإن كان خافتا عند محاكمة عضو مجلس الشعب السوري السابق "رياض سيف" حيث صدر عليه الحكم بأكثرية عضوين وتحفظ العضو الثالث بحبسه خمس سنوات على خلفية انتقاده استشراء "الفساد" في بعض الوزارات في سورية. وقد جرى ذلك من "سيف" تحت قبة البرلمان، أي أنه تكلم في وضح النهار، ومن المكان الطبيعي حيث أدلي برأيه وهو يتمتع بالحصانة التي كفلها الدستور لأعضاء مجلس الشعب. لقد كان مشرفا أن يستنكف العضو الثالث في هيئة المحكمة عن تأييد الحكم متحفظا بقوله: "إني تحفظ على الحكم لأن "رياض سيف" يحاكم الآن على أنه متهم. لكنه في ظروف أخرى قد يعتبر بطلا".
وعادة ما يدلل دعاة حقوق الإنسان على قساوة الحكم الصادر بحق الناشط في حقوق الإنسان وفي حالتنا على المحامي "هيثم المالح" بقولهم: إن الحكم لا يتناسب مع التهمة ولا يتناسب مع سن المتهم، حيث بلغ "المالح" الثمانين من عمره، كما لا يتناسب مع الوظيفة التي تطوع المالح لخدمتها وهي الدفاع عن حقوق الإنسان، و...
أنا أؤكد هنا على سبب هام ورئيس وهو أن النظام –أي نظام- عندما يعتقل مواطنا ويحاكمه لأنه جهر برأيه منتقدا جنوح الحكومة إلى التعسف باستعمال صلاحياتها عندما تعتقل وتحاكم وتحكم، إنما يقع حكمها باطلا، إذ ليس ثمة تهمة. فالتهم التي توسل بها القضاء "المسيّس" في سورية لإسكات "المالح" تقع تحت عنوان إسلامي واضح في الشريعة الإسلامية وهو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
على أن هناك أمرا آخر هو أن النظام في سورية فعل مع دعاة الفكر والرأي ما لم يُفعل في عهد الاستعمار الفرنسي لسورية في الربع الثاني من القرن العشرين. فقد كانت فرنسا تعتقل لأيام وربما شهور الذين يدعون إلى مقاومة جيشها لإرغامها على الرحيل، ثم تطلق سراحهم من دون محاكمة. أما الآن فإن صاحب الرأي يعتقل ويحاكم ويحكم عليه بالسجن.
وقد سجل لنا تاريخ سورية في حقبة الاستعمار الفرنسي أن معظم الزعماء التاريخيين الذين قارعوا المحتل اعتقلتهم سلطة الاحتلال وأطلق سراحهم من دون محاكمة وقد أصبح هؤلاء فيما بعد حكاما لسورية بعد أن استقلت سورية ورحل الاحتلال عنها.
فقد اعتقل الاحتلال الفرنسي عدة شخصيات وطنية، لكنها لم تحاكم أحدا منهم. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: "شكري القوتلي" الذي انتخب ثلاث مرات رئيسا لسورية. و"هاشم الأتاسي" الذي انتخب رئيسا لسوريا في عام 1949. و"ناظم القدسي" الذي انتخب رئيسا في عام 1961. و"معروف الدواليبي" الذي أصبح رئيس حكومة في عام1961. إنه لا يشرّف أي حكم وطني أن يكون أشد قساوة بحق مواطنيه من سلطة الاحتلال الأجنبي.
على أنه لا تتمثل القساوة في أن الحكم على هيثم المالح كونه ثمانينيا ومحاميا وداعية لحقوق الإنسان فحسب، بل إن اعتقال المواطن السوري –أي مواطن- في وطنه عقابا له على فكره الحر الذي يعترض فيه –سلميا- على استبداد الأنظمة ثم الحكم عليه، لهو أمر ينخر في وجدان الأمة عندما ترى قائدا من قادة الرأي فيها يقف في قفص الاتهام كأي مجرم قضائي، وهو ما لم تجرؤ على فعله فرنسا أثناء احتلالها سورية.
استطرادا نقف هنا لنتساءل فيما إذا كانت تلك المحاكمات التي يحكم فيها على الحقوقي "هيثم المالح" أوالناشط في حقوق الإنسان "مهند الحسني" أوعلى الكاتب "علي العبد الله" بتهمة "نشر أخبار كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة"، نتساءل فيما إذا كان من ينظّر لهذه المحاكمات في سورية لا يعرف أن المواطن يعيش الآن عصر القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت، وأنه يأخذ الأخبار من مقابلات أجريت مباشرة مع هؤلاء الناشطين، وأنه يستطيع أن يستعيد تلك المقابلات متى شاء، وأنه سمع لهؤلاء فلم يجد فيه أي "نشر أخبار كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة". بل على العكس فإنه قد يجد في "نص الحكم" الذي أصدره القاضي "المسيس" "ما يوهن نفسية الأمة"، لأنه حكم على رمز من رموز الأمة يحظى بالاحترام والتوقير.
يبقى أن نقول إن الحكم بالسجن على قادة الرأي لا يحتاج إلى حيثيات للتدليل على قساوته، كأن يقال إن المحكوم عليه متقدم في العمر أو قاض أو داعية لحقوق الإنسان، فمجرد الحكم على مواطن غير مذنب بسبب رأيه وفكره هو قاس بحد ذاته.