كنت في رئاسة الوزراء

إبراهيم جوهر– القدس

وصلتني الدعوة الهاتفية من مكتب رئيس الوزراء قبل الموعد المحدد بخمسة أيام وهي مدة شبه كافية للتفكير والتخطيط ووضع الآليات والاقتراحات لتطوير الوضع الثقافي العام في مدينة القدس .

فرحت بالدعوة، فرحت بهذا الانتباه المتأخر للمدينة المقدسة بعدما حزنت في سنتها عاصمة للثقافة العربية، وأظنها قد حزنت هي أيضا كما حزنت.

وحين استوضحت من المتحدّثة الداعية حول الموضوع -الفكرة العامة للدعوة- أعلمتني بعمومية واضحة بقولها: حول الشأن الثقافي العام دون تحديد محاور أساسية للشأن الثقافي العام المنوي مناقشته، وهل هو عام لفلسطين بجميع مكوّناتها السياسية والجغرافية، أم لفلسطين كما فرضتها اتفاقيات أوسلو، أم للفلسطينيين أينما كانوا، أم للقدس وحدها كونها تقف على رأس الهرم الإعلامي، ولأنها تذوب بشكل متسارع يدعو للوقوف في وجه هذا التسارع اللئيم باتجاه تهويدها، وأسرلة أبنائها سياسيا وثقافيا، مما استدعى هذه الدعوة ..

لهذا فرحت بالدعوة ... فأن تصل متأخرا خير من ألاّ تصل.

نحن أبناء القدس، مواطنيها ومثقفيها، نظن أن من الواجب إعلاء شأن مدينتنا عاصمة دولتنا العتيدة والارتقاء بها إلى أولويات الاهتمام، بل إلى أول هذه الأولويات، وأن توضع فاتحة لأي لقاء أو تشاور أو تفاوض أو اشتباك أيّا كان شكله ونوعه ومكانه وزمانه.

ذهبت إلى رام الله حيث مكان الاجتماع في ديوان رئيس الوزراء في قاعة القدس، وقد سررت لاسم القاعة ولصورة القدس وهي تغطي مساحة كبيرة من صدر القاعة، ثم بدأت وفود المدعوين بالحضور، أكثر من ستين مدعوا حضروا الاجتماع ، وحين حضر الدكتور سلام فياض رئيس الوزراء، والسيدة سهام البرغوثي وزيرة الثقافة والأديب يحيى يخلف وزير الثقافة الأسبق، وعُرضت الخطوط العريضة للاجتماع وقعت في إشكالية الفهم التي لم تسعفني بها داعيتي التي استوضحت منها.

كنت قد هيّأت نفسي للحديث حول شأن القدس الثقافي، والتخطيط للنهوض الثقافي للمدينة، وإذ بي أفاجأ بعنوان الاجتماع الذي يطلب الإسهام في وضع تصوّر لاستراتيجية ثقافية عامة، وإذ بالاقتراحات والنقاشات تدور حول عموميات ثقافية، وتذكير بمشاريع ثقافية كانت ثم توقفت، أو بادت وانتهت، وهي على أهميتها تقفز عن مهمة الإسراع لنجدة القدس وحمايتها.

لم أتحدث عن القدس وسط جمع غفير كل من فيه جاء وبين يديه شكوى أو اقتراح، لم أشعر أن القضية التي في بالي تناقش بهذه الطريقة وبهذه الكيفية.

لم أتحدث عن القدس لأن القدس يجب أن تكون حاضرة من حيث تخصيص الاجتماع لها وحدها ومن ثم لتنقل تجربة الثقافة في القدس إلى أي مكان آخر .

لم أتحدث عن الثقافة التي باتت في عاصفة الضياع والتهميش والفرقة رغم المساعي العملية الجادة التي يقوم بها رئيس الوزراء ووزيرة الثقافة .

تتحدد الاستراتيجية الثقافية الفلسطينية وفق الوضوح السياسي، والإمكانيات المتاحة بالمعنى الواقعي الإداري، وسقف المتاح اليوم شديد الانخفاض لا يسمح بالأحلام الواقعية، والاقتراحات الثقافية لاختراقه، وهنا تبرز بحدّة جدلية الثقافي والسياسي و بوضوح لا يسمح سقف أوسلو به.

لقد أنتجت أوسلو ثقافتها وجلبتها معها، فغيّبت ثقافة المقاومة والصمود وقيم الانتماء والتضحية والإيثار والغيرية، والصدق والحرص على المجموع العام بناسه وترابه لصالح الذات الأنانية التي تستدعي الغيرة والشكوى، والتزلّف والكذب والمتاجرة والسعي للغنى بكل الوسائل ...وهكذا غابت روح التطوّع، وغابت معها قيم الأصالة والمقاومة الثقافية .

والتجربة الفلسطينية في السنوات الأخيرة تنعكس سلبا وإحباطا على الناس، إذ اخترقت المحرمات الوطنية، وفتحت أبواب الشر، وغابت القدوة للأجيال الجديدة مما يستدعي الإسراع لإنقاذ البلد.

كنت قد هيأت نفسي لأقول ما يحمل معنى المدح والإعجاب، أن تصل متأخرا خير من ألاّ تصل ...

وكنت أظن أن القدس ستكون حاضرة وحدها كونها قلب الوطن، ولا وطن بلا قلب، وكونها عاصمة تعصم من الخطأ والزلل، وتمثّل المشروع الوطني والثقافي الإنساني .

وكنت سأنتقد ظاهرة(البزنس الثقافي)  وأنشطة رفع العتب التي تقام من أجل تضمين التقارير بنودا تثبت (!!) النشاط ، و( يا دار ما دخلك شر ) !!

وكنت سأنتقد التنظيمات السياسية جميعها لفشلها في إيجاد ثقافة وبلورة هوية، ثقافة مقاومة واعتزاز وكرامة، وهوية انتماء، وقد استسلمت لقدرها وباتت غائبة عاجزة، وغادرت تنظيراتها وأيدولوجيتها، وأخلت الساحة (للفرسان الجدد ) بثقافتهم الانهزامية التغريبية المناقضة.

وكنت سأنتقد المدارس والأندية والجمعيات والمراكز الثقافية، وسأعرّج على أساليب التعليم والمناهج المدرسية، والجامعية، التي فشلت في أهدافها، ولم توجد مثقفا منتميا وخريجا مطالعا متذوّقا للفنون الإنسانية، واقفا باستعداد وقناعة أمام موجات التغريب والأسرلة والتهويد ...

وكنت سأقول: نحن بحاجة إلى إعادة تربية على القيم (التربية للقيم) والسموّ الروحي الذي حلّ محله خواء زاعق !!

وكنت سأجيب عن السؤال الذي يفتح أبواب المعرفة، كيف ؟؟

يجب وضع خطة ثقافية استراتيجية شاملة غايتها إيجاد مخرجات ثقافية إنسانية ذات هوية مميزة تتسم بسمات الأصالة والانتماء والحب والغيرية، تحترم الوطن والكتاب والمسرح والموسيقى والتفكير العلمي، اقتراحات تشمل الطفل والمرأة والطالب والمعلم والمجتمع .

وكنت سأطرح ( الهوية ) كمشكل غائب ...

استراتيجية ثقافية، نعم، هذا وقتها المتأخر الذي يحضر بإلحاح، إنها مطلب حيوي مهم وملحّ، ولكن لقاء يوم الثلاثاء 29 / 6 /2010 لم يكن قادرا على وضع آليات عملية للوصول إلى غاية ثقافية منشودة واضحة المعالم، والأهداف يؤمل لها أن تحقق جزءا كبيرا من مكوّناتها التي يقف على أولى درجاتها: إيجاد الإنسان الصادق المنتمي، وهذا ما يحتاجه الوطن جميعه، والقدس بالتحديد وبسرعة.

كنت سأقول هذا، وربما أفصّل رؤيتي ... ولكن أن تصل متأخرا خير من ألاّ تصل ...