مجزرة القامشلي

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

يوماً بعد يوم، يثبت نظام الوريث (غير الشرعيّ)، أنه امتداد لنظام القتل والعدوان المستمرّ منذ عشرات السنين من تاريخ سورية، هذا التاريخ الذي خضّبه الأسديّون بالدم السوريّ البريء، ولطّخوه بالإجرام والعدوان والاستبداد والاستهتار بالروح الإنسانية.. فكانت مجزرة القامشلي الأخيرة، واحدةً من سلسلة المجازر الكثيرة التي ارتكبها طغاة الشام بحق الأبرياء من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين.. وذلك ما يُعيد قضية الشعب السوريّ إلى واجهة الأحداث.. هذا الشعب المبتلى بنظامٍِ إرهابيٍ عدوانيٍ لا يراعي أبسط الحقوق الإنسانية لمواطنيه، في ظروفٍ بالغة الشدّة والدقة، يزعم خلالها هذا النظام السفّاح، أنه يحمي البلاد والعباد من التدخّلات الخارجية بشئون سورية، بينما سلوكه يثبت أنه أكبر عاملٍ في تفتيت الوحدة الوطنية، التي تُعتَبَر الشرط الأساس لصمود سورية وشعبها أمام أي عدوانٍ خارجيٍ يستهدفهما.

في سورية، كثيرة هي القضايا التي تحتاج إلى حلٍ وتجاوبٍ مباشر، لعل أهمها القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، والحريات العامة.. التي أصبحت شائكةً خلال حكم (حزب البعث)، طوال أكثر من أربعين عاماً، ولعل القضية الكردية بكل أبعادها.. هي إحدى أهم تلك القضايا التي تحتاج لدراسةٍ مستفيضةٍ واعية، تمهيداً لوضع الحلول المنطقية المعقولة لها، التي ترفع الظلم، وتُحِق الحق، وتُراعي حقوق الإنسان، ضمن مراعاةٍ شاملةٍ لحقوق الإنسان السوريّ على امتداد الوطن كله.. والقضية الكردية ليست قضيةً شائكةً في سورية، وحَلّها ممكن إذا كانت النيّة صادقةً في حماية الوطن السوريّ من عواقب المخططات الاستعمارية.

يبلغ عدد الأكراد في سورية مليونَيْن تقريباً، أي يشكّلون حوالي 10% من مجموع تعداد الشعب السوريّ، وقد شاركوا بكل الثورات السورية ضد الاستعمار، فكان لهم دور مشرِّف بمناهضة الاستعمار في العصر الحديث (من مثل: ثورة البرازيين في حماة، وانتفاضات (عامودا) ضد الانتداب الفرنسي).. ومن أبرز أعلامهم: القائد الضابط وزير الحربية (يوسف العظمة)، بطل معركة ميسلون ضد الجيش الفرنسي.. و(إبراهيم هنانو)، قائد الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي في شمالي سورية، وحسني الزعيم (رئيس جمهورية)، ومحسن البرازي (رئيس وزراء)، وعبد الرحمن الأيوبي (رئيس وزراء)، ومحمد كرد علي (أديب مؤرخ: أحد مؤسسي المجمع العلمي العربي بدمشق ورئيسه)، والشيخ أحمد كفتارو (مفتي الجمهورية)، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق).. وغيرهم.

*     *     *

إنّ القضية الكردية السورية، هي قضية جزءٍ من الشعب السوريّ، طالته يد الظلم منذ عشرات السنين، وقد تجاوبت الحركة الكردية السورية مع تحرّكات المجتمع المدني السوري، الذي يطالب بالديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، كما تجاوب بعضها مع حركة المعارضة السورية بشكلٍ عام، لأنها تلبي طموحاتها نحو الحرية والديمقراطية، وتتقدّم الحركة الكردية في سورية، نحو الانخراط في الحركة الوطنية العامة المنادية بالإصلاح السياسي والاقتصادي، وتقترب نشاطات بعض الأحزاب الكردية السورية من باقي الأحزاب السورية المعارِضة، نظراً لتاريخها الطويل من الخلاف مع النظام السوري، وتنسجم مطالبها مع مطالب المعارضة السورية وحركة المجتمع المدني، من مثل: تحقيق التعددية والديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان.. وذلك لكل أبناء الشعب السوري، على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية وطوائفهم وقومياتهم.. ولا شك أنّ الشعب السوري بشكلٍ عام، بمن فيهم الأكراد.. قد تعرّضوا للظلم واستلاب الحقوق الإنسانية، طوال عقودٍ متتابعةٍ من الدكتاتورية والتسلّط وحكم الحزب الواحد القائد، والقمع والاضطهاد بمختلف أنواعه وأشكاله.. وقد أدى ذلك إلى زعزعة استقرار المجتمع السوري، وبث روح الفرقة بين أبناء البلد الواحد، واهتزاز وشائج الثقة بينهم.. لذلك فحلّ القضية الكردية هو جزء من حل القضية السورية، الذي يُعيد للمواطن السوري كرامته المسلوبة، ويُلغي كل ما يتعارض مع حقوقه واحترام إنسانيته، وهو حل قائم على التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، وإلغاء الأحكام العُرفية وقوانين الطوارئ والقوانين الاستثنائية الظالمة (القانون 49 لعام 1980م مثالاً)، وتصحيح أوضاع المنفيّين والمهجَّرين، وإطلاق سراح سجناء الرأي والسجناء السياسيين، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين كل أبناء الشعب السوري -بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والفكرية، وعن قومياتهم وأعراقهم وطوائفهم ومذاهبهم-، واحترام حقوق المواطنة لكل السوريين.

لابدّ من تضافر كل الجهود الوطنية، لانتزاع الحقوق، مع ارتباط ذلك بالكفاح العام للشعب السوري لنيل حقوقه كاملةً، وليس هناك تضارب بين أن يكون المواطن كردياً وسورياً في نفس الوقت، إذ لابدّ لأي حلٍ للقضية الكردية في سورية.. أن يراعي المحافظة على الوحدة الوطنية ووحدة الأراضي السورية، وهذه الوحدة لا تؤسّس إلا على الحرية واحترام حقوق المواطنة بشكلٍ كاملٍ لكل أبناء الوطن السوريّ، ولا بدّ من إزالة كل ما يتعارض مع هذا المبدأ.

*     *     *

انطلاقاً من تعاليم إسلامنا التي تدعو إلى نبذ التفرقة، ورفع الظلم عن المظلومين.. فإنّ الأكراد المجرّدين من الجنسية السورية ينبغي أن تُعَادَ إليهم هذه الجنسية مع كامل الحقوق المترتبة على ذلك.. سواء أكانوا قادمين إلى سورية منذ عشرات السنين بسبب الاضطهاد، أو كانوا من سكّان سورية الأصليين.. لأن القادمين من تركية منذ عشرات السنين ليس لهم دولة، ولهم امتدادات عشائرية وصِلات قربى في سورية.. إذن:

- لابدّ من إلغاء كل القوانين الجائرة بحق إخواننا الأكراد، كقوانين: الإحصاء، والجنسية، والتعريب القسريّ.

- ولابدّ من احترام حقوق المواطَنة لهم، مواطنين سوريين لهم كامل حقوق المواطَنة، من مثل: التعليم، والعمل أو التوظيف، والانتخاب والترشيح، وشَغل المناصب الحكومية مهما صغرت (موظف حكومي) أو كبرت (وزير أو رئيس جمهورية)، وحرية السفر والتنقل، والخدمة العسكرية، والتملّك، وحيازة الوثائق السورية كالهوية الشخصية وجواز السفر وإخراج القيد، وتسجيل الزواج في الدوائر المدنية، وتسجيل الأطفال.. وما إلى ذلك من الحقوق المشابهة المعروفة.

- ولابدّ من السماح لهم بتأسيس المدارس والمؤسّسات الثقافية الخاصة بهم وبثقافتهم وبلغتهم.. وذلك في أماكن تجمّعهم، على أن يكون هذا خاضعاً للوزارات السورية المركزية المعنية، وبإشرافها.

- ولابدّ من السماح لهم أيضاً، بإصدار النشرات والصحف والمجلات الخاصة بهم بلغتهم، على ألا تتعارض في فكرها مع فكرة الوحدة الوطنية السورية، وتخصيص فتراتٍ إذاعيةٍ وتلفزيونية رسمية، للبث بلغتهم في مناطقهم.

- ولابدّ من تعويض المتضرّرين من القوانين الجائرة التي صدرت بحقهم، على ألا يتعارض ذلك مع حقوق غيرهم من العرب السوريين.

هكذا، يجب أن يشعرَ المواطن الكرديّ السوريّ بإنسانيته وكرامته، ويجب أن يتمّ الاعتراف له بقوميته وخصوصيته من خلال الأصول الدستورية، وما يتبع ذلك من تمثيل الأكراد في الهيئات المركزية بنسبٍ متوافقةٍ مع نسبتهم إلى عدد السكان في سورية.. ويمكن إحداث وزارةٍ رسميةٍ تهتم بشؤون القوميات والأقليات.

وكما أنّ الوحدة الوطنية لا تتحقق، إلا من خلال توفير الكرامة والحرية للمواطن السوري مهما كانت قوميته.. فإنّ ذلك يستوجب من الإخوة الأكراد، من خلال ممارسة خصوصيّتهم.. أن يحرصوا على خدمة سورية كلها، ويعزّزوا وحدتها الوطنية، لتكون أقوى وأرسخ وأعمق ما يمكن، لأنّ ذلك يحقق المصلحة المشتركة لكل أبناء سورية.

*     *     *

مجزرة القامشلي الأخيرة، تُعيد إلى الأذهان قضية شعبٍ أصيلٍ عريق، هو الشعب السوريّ، بِعَرَبِهِ وكُرْدِهِ وقومياته الأخرى.. هذه القضية، التي لا يمكن حلّها إلا بإزالة أسبابها، وسببها الأساس، هو وجود نظام حُكمٍ أحاديٍ استبداديٍ ظالمٍ متسلّطٍ على السوريين.. كل السوريين، فهل تتضافر الجهود وتتعاضد السواعد، لاقتلاع السبب الأساس لمعاناة السوريين، بكل شرائحهم القومية والدينية؟!..

               

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام