فعادَ بلا أذنين
أ.د/
جابر قميحةأنا أكتب هذه الكلمات على عجل ، وأنا على يقين أن كثيرا من الإخوة والأصدقاء سيعتبون عليَّ أنني شغلت قلمي بشخصية لا تهمنا في شيء ؛ والأولى أن أجعل مهمة القلم تناول القضايا الكبرى ، والأمور المهمة التى تتعلق بالدين والعروبة والوطن .
ولكني أخالف من يذهب هذا المذهب ؛ فالأمور ينظر إليها في ذاتها بصرف النظر عن قيمة مضمونها ، ومدى تآثيره على القراء . فالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر مطلوبان على سبيل الإلزام ... كل بقدر استطاعته ، وفي الحديث الشريف " أن امرأة عُذبت لهرة حبستها فلا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض " .
وقد قال الإمام أبو حامد الغزالي " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه ، وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الفترة ( الضعف ) ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق،وخربت البلاد،وهلك العباد،ولم يشعروا بالهلاك إلى يوم التناد ".
( إحياء علوم الدين 7/ 1186 ) .
والسيد رفعت السعيد عضو مجلس الشورى بالتعيين يعتقد أنه جاء عضوا بإرادة الشعب ، بناء على انتخاب حر نظيف لا تزييف فيه . وقد تحدثت ذات يوم لواحد من كبار أعضاء " حزب الأهالي " ، اشتهر بالعلم الواسع والحكمة والالتزام : " قائلا "أنا أعتقد لو أن رفعت السعيد رشح نفسه على المستوى الشعبي لمجلس الشعب أو مجلس الشورى لما حظي بأكثر من مائة صوت ... " .
فكان جوابه " ولا عشرة أصوات " ، ومع ذلك يعيش الرجل في وهم أنه ضرورة الضرورات في هذا المجلس ،
*********
وأخر ما قرأت له بتاريخ 12 / 6 / 2010 بالأهرام مقال بعنوان المتأسلمون وتحالفاتهم :
1- وهو يقصد بالمتأسلمين جماعة الإخوان وقد أصر على ألا يسميها بغير " الجماعة المحظورة " ، فهو بتضخمه المتخيل لا يمانع في السخرية من جماعة تمثل الأغلبية في هذا الشعب .
2- ويرى أنهم حين يحاولون أن يوحدوا صف المعارضة إنما هم مخادعون يعدمون الصدق والتأثير .
3- وهو يشبه الإخوان بالمختار الثقفي وحركته الدامية ، وأنا أؤكد أنه لم يعرف عن هذه الحركة إلا قشورا كعادته في النظر إلى الأمور .
4- وشبههم به في أنه أفاق متأسلم لم يعدم وسيلة للانقضاض على فريسته .
5- وكنت أعتقد أنه على الأقل سيحكم على المحاولة الإخوانية ــ في مد أيديهم للأحزاب الأخرى ــ بأن هذا حقهم كمواطنين . ولكنه ـ بتضخمه المنفوش ـ يوجه هذه الأحزاب توجيها تحذيريا بالعبارة الأتية : " وإلى كل من يتلقون بترحاب يدا ممدودة من هذه الجماعة أن يتذاكروا المختار الثقفي ومحمد بن الحنفية ، وأن يتلقنوا الدرس ، هذا إن أرادوا " .
*********
ورفعت السعيد كأنما وُلد للهجوم الخسيس على جماعة الإخوان :أعضاء , ومرشدا , وتاريخا ,وعقيدة , وشعارات, وسلوكا . وله فى ذلك عشرات من المقالات وعدد من الكتب منها كتاب :"الإرهاب المتأسلم لماذا و متى و أين ؟ " .
و ليس فيما كتب عبارة واحدة ذات طابع علمي . لذلك لم أعجب حينما رأيته مساء يوم 20 /7 / 2008 فى برنامج الساعة العاشرة , وقد استعمل كلمة " أنا " أكثر من ثلاثين مرة , و كلمة " أتحدى " قرابة عشرين مرة : أنا اتحدى ... أي واحد من هؤلاء الإخوان ... ثم وصف الجماعة بأنها جماعة إرهابية , من أول نشأتها حتى الآن , فالقتل هو شريعتهم , وإذا لم يجدوا من يقتلونه قتل بعضهم الآخر , وأنا أعلم أنهم عاشوا و ما زالوا جامدين , لم يطوروا أنفسهم , فلم يغيروا كلمة واحدة مما جاء به حسن البنا , و هم يخدعون الناس بالشعارات الدينية مثل"الإسلام هو الحل " .
وفي جلسة مجلس الشورى التي انعقدت في 24- 12 - 2006 شبه رفعت السعيد أعضاء جماعة الإخوان بالأفاعي والثعابين
وكأن الرجل قد درج على التلذذ بكتاباته الساقطة عن الإخوان المسلمين ، أو " المتأسلمين " ، أو الجماعة المحظورة ، ويظهر أن أعضاء حزبه ــ أو كثيرين منهم ــ طلبوا منه أن يحول قلمه إلى موضوعات أخرى ، لأن الإخوان ــ بصرف النظر عن فكرته عنهم ـــ يمثلون فصيلا قويا جدا من أبناء هذا الشعب فأخذ ، بما أشاروا ، ولكن الطبع يغلب التطبع ، وطبع الرجل يعتمد على الحقد العاتي والتوثن الذاتي أو النرجسية . ومع ذلك سيبقى مثل القزم الذي يعتقد أنه عملاق لأنه يبصق إلى أعلى .
*********
وأجدني مضطرا أن أقتطف جزءا من مقال لي سبق عن رفعت السعيد : " لرفعت السعيد كتب شوه فيها تاريخ الإمام حسن البنا, وجرّح فيها الإخوان, وطعن تاريخهم وفكرهم, هذا عدا مقالات كثيرة تتجه نفس الاتجاه في الافتراء والتشويه. ويحاول رفعت أن يوهم القراء بأنه ينهج نهجا علميا فيما يكتب, فيحيل القارئ علي مراجعه, وخصوصا دوريات الإخوان مثل مجلتهم وصحف أخري مضي علي صدورها قرابة سبعين عاما, ويصعب علي القارئ -بل يستحيل- أن يرجع إليها في وقتنا الحاضر, فيميل إلي تصديق ما يكتبه . إلي أن خرج له من القمقم شاب -أو كهل- في الأربعين من عمره, اسمه «منصور أبو شافعي», وسدد إليه القاضية بكتاب ضخم عنوانه «العلمانيون والحرام العلمي: مراجعة نقدية لعلمية كتابات رفعت السعيد عن حسن البنا» (صدر في سبتمبر 2004) – دار القلم بالقاهرة - . وقام منصور في كتابه هذا -وبمنهج علمي رصين- بتعرية رفعت السعيد تعرية فاضحة صارخة.فإذا بالمحترم رفعت -الذي يزعم أن الإخوان زوروا فكر الأمة بشعارهم العاطفي إذا به -كما فضحه منصور- يوظف كل أنواع التزوير المعروفة قانونا, وأشهرها: التزوير بالإضافة, والتزوير بالحذف والإسقاط, حتي يحقق أهدافه التي يحرص علي تحقيقها, وهي أهداف مناقضة للحق والحقيقة والقيم الإنسانية. ونكتفي في هذا السياق بمثال واحد:-يحرص رفعت «المحترم» علي إيهام القارئ -بل الناس جميعا- بأن الماركسية لا تناقض الدين, ولا تتعارض معه, فيورد النص التالي لكارل ماركس: «إن الدين عند الكثيرين هو النظرية العامة لهذا العالم, وهو مجموعة معارفهم الموسوعية, وهو منطقهم الذي يتخذ شكلا شعبيا, وهو موضوع اعتزازهم الروحي, وموقع حماستهم, وهو أداة قصاصهم, ومنهجهم الأخلاقي». ..ويكتشف الأستاذ منصور -بعد رجوعه للمصدر الأصلي- أن «أمير التزويرات» رفعت السعيد قد حذف من نص كارل ماركس ما يعكس معناه تماما, فقبل الجزء السابق مباشرة حذف رفعت السعيد من كلام ماركس قوله «إن الإنسان هو الذي يصنع الدين, وليس العكس, فالدين في حقيقته هو الوعي الذاتي للإنسان..» أي أن الدين عند ماركس -وتلاميذه طبعا- ليس من عند الله, بل هو صناعة بشرية.ويعرض أبو شافعي عشرات من التناقضات المرة لرفعت السعيد, وكذلك عشرات من الأخطاء الموضوعية الخطيرة. منها مثلا: أنه يتعامل ويتحدث عن كتاب «من هنا نعلم» علي أنه من تأليف سيد قطب, مع أن مؤلفه هو الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله
*********
وأقول لرفعت السعيد اتق الله ...اتق الله ، وكن واقعيا في " تقييم ذاتك "، وكن صادقا في معرفة حقيقة " من أنت " و " ما أنت " ؛ أقولها لأنك تحرص على أن تحقق ما يفوقك قدرة وفكرا .
ولا أجاملك إذا قلت إن لك الفضل عليَّ ، وعلى " المحظورة " إذ ذكرتنا بمثال عربي قديم ونصه : " ذهب الحمار يطلب قرنين ، فعاد بلا أذنين " وقد صغت هذا المثل في مقال أدبي . وهأنذا أقدمه هدية للسيد رفعت السعيد ، وجعلت عنوانه :
ملحمة الأذنين والقرنين
عجيب غريب منظر هذا الحيوان الضخم الذي يرقد على جانبه الأيسر أمام دكان "قاسم العطار" وهو يلتقط نَفَسه بصعوبةٍ بالغة، والناس ينظرون إليه في اشمئزاز، ولا يجرؤ واحد من الأطفال أن يقترب منه.
ومصدر الاشمئزاز والغرابة هو رأس هذا الحيوان: رأس كبير بيضاوي الشكل وقد سلخ جلده تمامًا، ولا وجود للأذنين، أما العينان فقد غطَّاهما الورم حتى يُخيَّل إليك أنهما قطعتان من اللحم اللزج الدامي غرستا في محجر العينين، وينتهي الوجه المزعج الغريب بفكين يقودان إلى فم فيه بقايا أسنان، ويقطر لعابًا أخضر مختلطًا بالدم، أما الجسم فضخم تتناثر عليه جروح في أماكن مختلفة، وكأنه في ضخامته جسم حمار.
إنه حقًّا حمار..
واكتشف أن هذا الملقى اللاهث المثخن بالجراح حمار حقيقي... إنه حمار "قاسم العطار" ومن خلال قواه الخائرة بدأ يستعيد الهزيع الأخير من أيامه التي ختمت بمأساته التي يعيشها الآن.
لقد عاش عند قاسم العطار ثلاث سنين يحمل صاحبه كل يوم، وعلى ظهره خُرْج العطارة ماضيًا إلى القرى المجاورة يعرض فيها قاسم عطارته، وبعض الأدوات المنزلية الصغيرة.
وعند الغروب يعود به صاحبه إلى "مخزن عطارته"، فيرتمي من الإعياء، ويبيت ليلته والجوع يمزق أحشاءه، فعيدان البرسيم القليلة لا تخفف من حدة جوعه، ثم تعود الكرَّة كل يوم: قاسم العطار.. الخُرْج.. العطارة.. القرى المجاورة.
والذي لا يهون
كل ذلك يهون أمام استهانة قاسم به، وضربه بعصاه اللاسعة اللاذعة، كي يسرع في مشيته، وبعد عودته يأتي ابنه الصغير فيلطمه بكفه ويركل وجهه بقدمه، والحمار عاجز عن أن يرد عن نفسه ولو قليلاً من هذه الإهانات.
ويجتر الحمار بعض الأحداث التي وقعت به، فهو لا ينسى أنه فكَّر في سبب الاستهانة به، فاكتشف أنه الضعف والعجز، ثم ألقى نظرةً إلى بعيدٍ على زريبة عم غانم التي كانت تضم قرابة خمسين ثورًا، ولا ينسى أن عم غانم جاء ذات يوم يجر ثورًا إلى خارج الزريبة، فقاومه الثور بقرنيه، مما دفع عم غانم إلى الاستعانة ببعض الجيران.
قال الحمار في نفسه: عرفتُ السر، ومفتاح السر، إنه القرون.. نعم القرون، فلو ملك قرنين كأي ثور؛ لاستطاع أن يرهب بهما قاسم العطار، وغير قاسم العطار. واتخذ الحمار قرارًا بأن ينزع من أحد الثيران قرنيه، ويُركبُهما في رأسه، ثم بعد ذلك يقول: هل منكم مَن يتحداني؟ ويخدش كرامتي!.
الأذنان والقرنان
وذات مساء ــ والثيران راقدة، غائبة في نومها، في مربض عم غانم ــ وقف الحمار وتسلل إلى هذا المربض، ووقف بين الثيران، وفجأة ضرب بأسنانه رأس أحدها، محاولاً انتزاع قرنيه، ووقف الثور وخار.. بصوتٍ شنيعٍ، فقامت الثيران كلها، واتجهت إلى الحمار وجعلت منه طعامًا لقرونها: فانتزعت أذنيه وجردته من جلد وجهه، وصارت تنطحه وهو عاجزٌ عن النهيق، ثم تركته حطامًا بوجهه الغريب، مجردًا من أذنيه وجلد وجهه، مثخنًا بالجراح، وأخذ يزحف إلى أن وصل إلى المكان الذي كان ممددا فيه أمام مخزن عطارة قاسم العطار.
**********
واشتهر بين الناس مثلٌ عجيب نصه: "ذهب الحمار يطلب قرنين، فعاد بلا أذنين".
وهذا المثل يُضرَب لمَن طمع في شيءٍ هو عاجزٌ عن الوصول إليه، أو بلوغ بعضه، ويمكن أن يُضرَب لحال الحكام الذين باعوا شعوبهم وكرامتهم، وارتموا في أحضان أمريكا طمعًا في أن تمنحهم (قرونًا) تعزز مكانتهم، وتحميهم من شعوبهم، ولكنهم للأسف فقدوا أمام الصلف الأمريكي كرامتهم، وعزتهم، وقوتهم، وأصبحوا مجردين من حرية اتخاذ القرار إلا بإجازة أمريكا.
بل يُضرَب لأمريكا نفسها التي غزت العراق، وهي تطمع أن تبرز قرونها، وتُسيطر بها على المنطقة ، فكانت النتيجة أنها فقدت الكثير والكثير والكثير، من المال، والرجال، وأصبحت كحمارٍ بلا أذنين ولا قرنين، وهي في مأزقٍ حرجٍ حاد، وهو الوصول إلى القدرة على مغادرة العراق. كما يضرب للكاتب الذي لا يملك آليات التفكير والصياغة والتوجيه والاتزان ، ومع ذلك يصر على أن يبني لنفسه مجدا وشهرة ومكانة .