قصعة العرب

صلاح حميدة

[email protected]

حال العرب اليوم ينبىء بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ هذا هو زمان تداعي الأمم على العرب كما تتداعى الأكلة على قصعتها. وبنظرة متفحّصة لواقع العرب والاستهداف والهجمات التي يتعرضون لها من كل حدب وصوب، يتأكد لكل ذي عقل أنّ العرب وصلوا  لحالة مزرية تشابه عصور الانحطاط والهزيمة في الخريف العربي الاسلامي الذي سبق كل اجتياح وتراجع وهزيمة حضارية للعرب والمسلمين عبر تاريخهم.

شكل انهيار  الدولة الاسلامية التي كانت تحكم غالبية بلاد العرب، وتجمعهم تحت ظلّها وتمنع عنهم العدوان الخارجي، منعطفاً خطيراً في الواقع العربي في المنطقة، وفتح الباب واسعاً لتداعي الكثير من القوى الاستعمارية في العالم لاحتلال الأراضي العربية  وتقسيمها فيما بينها كغنائم تضم أراض وشعوب  وموارد طبيعية، بشكل يعتبر أحد أشكال العبودية الحديثة.

ولكن هذا لم يمنع من قيام العرب بثورات كثيرة قدّموا خلالها  تضحيات كبيرة، حتى تمكّنوا من طرد القوات الغازية من أراضيهم بشكل شبه تام، ولكن بقي العرب يخضعون للاحتلال بطرق متعددة، تمنعهم من إعادة توحيد أنفسهم وتشكيل قوة يعتدّ بها في المحافل الدّولية.

فقد بقيت العديد من المناطق الجغرافية خاضعة للاحتلال المباشر من قبل الدّول المستعمرة السّابقة وضمّتها لها، وينطبق هذا المثل على سبتة ومليلية المغربيتين والكثير من الجزر المغربية التي يقتل كل من يقترب منها بنيران القنّاصة الإسبان، إضافةً لمبادرة الإسبان لاحتلال جزر جديدة على مرمى حجر من الشّواطىء المغربية قبل سنوات قليلة.

أمّا فلسطين فقد وقعت تحت الإحتلال بشكل مباشر،  إحتلال إحلالي يعتبر طليعة ومشروع إستعماري دولي للأرض العربية، ولا زال حتى اليوم موجوداً بالرغم من الثورات والمقاومة والحروب التي قام بها العرب والفلسطينيون تحديداً للتخلّص منه. ولحق  بفلسطين العراق الذي يخضع للإحتلال الأمريكي منذ سنوات بشكل مباشر، فيما يدير مجموعة من العراقيين ما يشبه الحكم الإداري الذاتي بطريقة طائفية عرقية مشوّهة أكلت الأخضر واليابس في بلد الرشيد.

تعتبر القواعد العسكرية الأجنبية شكلاً آخر من أشكال الإحتلال نصف المباشر للدول العربية، فعدد من الدّول العربية تعتبر قواعد عسكرية ومستعمرات  تخضع لدولة أو لعدة دول إستعمارية مجتمعة تتقاسمها فيما بينها، وهذه الدول العربية التي تحتوي القواعد العسكرية الأجنبية، غالباً ما تكون مسلوبة الإرادة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وتتسمى بمسميات الدّول وتحتفظ بعضوية الأمم المتحدة. والقواعد العسكرية هذه تتوزع في العديد من الدّول الخليجية على وجه الخصوص وفي جيبوتي وصحراء سيناء، بينما في دول عربية أخرى يوجد قواعد  للعمليات الخاصة والأعمال المخابراتية السّرية مع سجون للتعذيب والتنكيل، وهي غالباً ما تكون غير معلنة، وأحياناً يظن أصحابها أنّهم يلبسون طاقية الإخفاء.

ترك الإستعمار المباشر للدول العربية والدّول المحيطة بها مشاكل عديدة، فقد بذر بذور الصّراع والخلاف بين هذه الدّول قبل مغادرته الظّاهرية لبلادهم، فقد أبقى على مثلّثات للصراع بين مصر والسودان، وبين شمال السودان وجنوبه وشرقه وغربه، وبين العراق والكويت، واليمن وأريتيريا، وبين الإمارات وإيران، وبين قطر والبحرين، والسّعودية وقطر، وبين اليمن والسّعودية، وبين سوريا وتركيا، والعراق وإيران، والجزائر والمغرب، والمغرب وصحرائها الشّرقية، والأهواز والجمهورية الإيرانية، واليمن شماله وجنوبه، ولذلك نقل اهتمام هذه الدّول والشّعوب من الإهتمام بالتّخلّص من كافّة أشكال وذيول الإحتلال والإستعمار الخارجي، إلى الإنشغال بقضايا جانبية تتعلق باحتلال كل بلد لجيب من البلد الأخر يقود إلى صراعات إقليمية وبينية ودولية تبقي الإستعمار حاضراً في المنطقة بكافّة أدواته وبطلب وتسويغ محلّي.

عدد من الدّول العربية تدار الأمور والقرارات المصيرية و الإستراتيجية فيها من خلال السّفارات الأجنبية، بل لا نبالغ إن قلنا أنّ النّخب السياسية فيها لا تستطيع ترقية أو تعيين ضابط أو وزير أو رئيس وزراء، وصولاً إلى رئيس الدّولة نفسه بلا تعليمات وموافقة ومشاورات مع عواصم وسفارات دولية بعينها، وهذا لم يعد من أسرار الدّول بل يعلن على الملأ.

يخضع الكثير من العرب تحت احتلال إقتصادي، فالعالم العربي لا زال يعيش حالة من التّردي الإقتصادي والبعد عن التّنوّع و الإنتاجية والمشاريع الإستراتيجية و بقي يعيش حالة من الإستهلاك لمنتوجات الغير، ولا زالت النّهضة الصّناعية والتّجارية والزّراعية تعيش حالة من المد والجزر، وهي أبعد ما تكون عن التّكاملية والتّخطيط والتّنفيذ السليمين، ولا زال العرب يرفضون استخدام الاقتصاد كأداة في تنفيذ السّياسة مثلما يفعل غيرهم، ولا زالوا مصرّين على حالة الطلاق بين السياسة والإقتصاد، حتى لو كان الثّمن علاقات مستقرة مع من يعاديهم ويرفض الإعتراف و منحهم حقوقهم، وهذا ما تجلّى بوضوح في الرّدة السياسية الصينية عن الدّعم الإعتيادي للحقوق العربية في الحدّ الأدنى من المطالب العربية من الدّولة العبرية، ورفض الصّين الإعتراف بالقدس الشّرقية عاصمة للدولة الفلسطينية التي يتسوّلها العرب من العالم، وهي بهذا الموقف المستجدّ تلتحق بركب الولايات المتحدة وأوروبا في التنكّر للحدّ الأدنى من المطالبات العربية والفلسطينية.

يخضع العرب لاستعمار ثقافي وتربوي دولي، وهذا الإستعمار يتمثل في نخب ثقافية وإعلامية عربية اللسان والمظهر، ولكنّها غربية الفعل والجوهر، وهي نخب ثقافية معادية لكل من يرفض التّسلط ويدعو لمقاومة الأشكال المختلفة للإحتلال الغربي لبلاد المسلمين، وتعتبر هذه النّخب الثقافية من أعدى أعداء انتصار الأمة ونهضتها، وهي تتبوّؤ مناصب هامّة في الكثير من الدّول العربية، وهي قوى تنفّذ كل ما يطلب منها غربياً من أجل تغييب الوعي وحرف الإهتمامات للأجيال الشّابة وتشويه تفكيرها وعقولها بقضايا و أفكار بعيدة عن هموم ومتطلبات النّهضة والتّحرير، وقد بلغت التّدخّلات الغربية المباشرة  أو من خلال أدواتهم المحلّيين بالمطالبة وتنفيذ تغييرات جوهرية في المناهج الدّراسية في الكثير من الدّول العربية، وتم حذف آيات قرآنية ومواضيع معيّنة من الكتب الدّراسية، بل إبعاد نخب تعليمية عن سلك التّعليم حتى لا يؤثروا إيجاباً في عقول الأجيال لجهة التّحرر والانعتاق من أسر الإحتلال المتعدد الأشكال.

ففي مناهج وإعلام  الاحتلال الثّقافي، تجد أنّ فلسطين أصبحت إسرائيل، وأنّ الوطن الفلسطيني في المناهج التربوية أصبح الضفة الغربية وقطاع غزة بدلاً من فلسطين، وبالتالي فاللاجىء الفلسطيني من فلسطين المحتلة منذ العام 1948م  هابط على هذه الأرض من المريخ ولا علاقة له بهذه الدّنيا ؟!.

بعض الدّول العربية قليلة الكثافة السّكانية والغنية في مواردها الطبيعية تتعرّض لاحتلال ديموغرافي من العمالة الآسيوية - وخاصة الهندية- ويشكّل هؤلاء الهنود غالبية السّكان في تلك الدّول، ويثير هذا التّهديد الدّيموجرافي أسئلة وهواجس كبيرة في تلك الدّول، كما أنّ  برلمانيين هنود يناقشون منذ سنوات إمكانية احتلال هذه الدّول عبر الضّغط عليها لتجنيس هؤلاء الهنود في بلادها ثم إجراء انتخابات ديمقراطية، وبالتالي تصبح تلك الدّول ولايات هندية يفصل بينها وبين الهند المحيط، وتفقد هويتها العربية، وهو سيناريو مطابق لما حدث في سنغافورة، ويعتبر الدكتور النّفيسي من أبرز من يحاربون هذا التّهديد.

يعتبر الإحتلال الخارجي متعدّد الأشكال لبلاد العرب حقيقة واقعة، بل يوجد من العرب من ملّ من الإحتلال الغير مباشر، وأصبح يعلن رغبته بالعودة إلى أيّام الإحتلال المباشر، وأصبح أصحاب  هذا الرّأي من أحفاد أبي رغال قوة لا يستهان بها في العالم العربي، وبينما كان هؤلاء الرّغاليون يعتبرون قلة منبوذة محلّياً وإقليمياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً في العالم العربي، إلا أنّهم في الوقت الحاضر أصبحوا قوة منظّمة مدعومة خارجياً بكافة أشكال الدّعم الإعلامي و السّياسي والإقتصادي والعسكري والأمني، ولا يتورّع هؤلاء عن التّسلّط على رقاب الشّعوب تحت حماية  الدّبابات الغربية الإحتلالية، بل يتشبثون بها ويرفضون مغادرتها  ويعتبرون وجودها ملاذهم الآمن وضمانة بقائهم، ويروّج هؤلاء لما يعرف بالتّعايش مع الإحتلال بدلاً من مقاومته.

وعلى النّقيض من  الرّغاليين العرب، يوجد من أصرّوا على مقاومة الإحتلال بكافة أشكاله وأدواته، وقد عانى ويعاني هؤلاء من اضطهاد وقمع وحرب إبادة حقيقية تخاض ضدهم من قبل حلف الإستعمار الدّولي متعدد الأشكال بالتّعاون مع الأدوات الرّغالية المحلية العربية، وتساق الكثير من الحجج والتّسميات لتبرير هذه الحرب المتواصلة على مقاومي الإحتلال للأراضي العربية، ولكن لا زالت المعركة مستمرة، والواقع يشير إلى انّ مشروع  الإحتلال في تراجع بعد أن فقد القدرة على التّمدد، وهو يعاني من ضربات كبيرة في مقابل تصاعد وتعاظم قوة مناوئيه.

بعض العرب اختار ( ترك الحمار والقفز على البرذعة) كما يقول المثل الشّعبي الفلسطيني، وهو تعبير عن ترك المعركة الحقيقية مع الإحتلال الخارجي متعدد الأشكال،  وحرف البوصلة والذّهاب إلى حروب بينية - إقليمية أو محلية- كإثارة الإنقسامات بين الأقاليم المختلفة في دول مثل السّودان والعراق والمغرب وغيرها، أو إثارة خلافات ومعارك مع دول عربية وإسلامية  مجاورة تحت شعارات أنّها تحتل أراض عربية  أو أن تقوم دولة عربية باحتلال دولة عربية أخرى بضوء أخضر غربي، سرعان ما يستغل لتحقيق أهداف استعمارية واسعة في المنطقة العربية، مثلما حصل في الحالة العراقية  الكويتية. 

بعض الدول قامت بحل الإشكالات مع محيطها الإقليمي العربي وغير العربي بأساليب أخرى، مثل المبادرة لقبول تحكيم دولي، أو صرف النّظر عن أو تأجيل المطالبة بأراضيها خاصة إذا كان الخلاف مع دولة عربية أو إسلامية ( تركيا وسوريا) أو إبقاء الوضع على ما هو عليه مثل ( مصر والسّودان في مثلث حلايب)، أو المطالبة بالإنضمام للدولة التي تحتل أراضي هذه الدولة العربية ( مثل قيام المغرب بتقديم طلب للإنضمام للاتحاد الأوروبي)، أو أخذ الإنصاف من ما يسمى بالمجتمع الدّولي بتحرير الأرض ( اليمن وأريتيريا في جزر البحر الأحمر).

وتعتبر الحالة اللبنانية حالة مميّزة وتختلف عن الكثير من الحالات التي يتم دراستها في طريقة التّعامل العربي مع الإحتلال المباشر للأرض العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، فقد قام اللبنانيون بتفجير القواعد الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية في لبنان، بل قاموا بالقضاء على أشكال أخرى من الإحتلال الأمني والإستخباراتي في بلادهم، إضافةً إلى دحر وردع الإحتلال الإسرائيلي لبلادهم  والذي لم تكتمل حلقات  تحرّرهم منه حتى الآن.

أمّا في الحالة الفلسطينية، فهي حالة فريدة من نوعها عالمياً، فهي حالة من الإستعمار الإحلالي العالمي تسمى ( إسرائيل) تقوم هذه الأداة الإستيطانية الإحلالية الدّولية بالعمل على استئصال شعب وحضارة وتراث وتاريخ وثقافة وإحلال أخريات مكانها، وهي مشروع متنامي سرطاني لا يوقفه سوى المقاومة، ولا يعطيه روح الحياة سوى المسالمة والمفاوضات، وبدراسة بسيطة لواقع التوسع الإستيطاني قبل وبعد اتفاقية كامب ديفيد،  وقبل وبعد اتفاقية أوسلو، وقبل وبعد انتفاضة الأقصى، يتبين كيف لنا أنّ  مشروع التطهير العرقي للفلسطينيين ينتعش كلّما انتعشت مفاوضات ومعاهدات التسوية، ويظهر بوضوح كيف تمكّن الفلسطينيون عبر انتفاضة الأقصى من إجبار هذا المشروع الإستيطاني على تفكيك مستوطناته من قطاع غزة وبعض مناطق الضّفة. ولكن الغريب أنّ الفلسطيني لا يتعرّض فقط لظلم الإحتلال الأداة وظلم صنّاعه من قوى الإستعمار الدّولي، بل يقوم الكثير من الرّسميين العرب بالضّغط على الفلسطينيين للقبول بالإحتلال والسّهر على حماية أمن مستوطنيه، بل و يطلبون منهم  ويعملون على إجبارهم وحصارهم والتّنكيل بهم للتنازل عن كل حقوقهم بأرضهم وحقهم بالعودة إليها، ويقومون من خلال ذلك بتوفير كافة وسائل الرّاحة والأمان للإحتلال للسيطرة على ما تبقى من أرض فلسطين و تهجير من بقي فيها من شعبها. وما يثير الإستغراب أكثر في تصرّفات بعض الأنظمة العربية الدّاعمة والدّاعية والضّاغطة على الفلسطينيين للتنازل عن غالبية أرضهم لمشروع الإحتلال الدّولي على أرضهم، أنّ هذه الدّول تتعامل مع قضية الإحتلال بانتقائية غريبة، ففي الوقت الذي يعتبرون أنّ مشروع الإحتلال الدولي لفلسطين ( إسرائيل) هو دولة جارة يجب إبادة من يقاومها من العرب والتّنكيل به ومقاطعته وحصاره  والتعاون مع الدولة العبرية ودول المنشأ لهذا المشروع الإحتلالي الاحلإلي للقضاء على كل نفس مقاوم في هذه الأمة. و يقوم هؤلاء بإعلاء الصوت معايرين دولة عربية تدعم قوى المقاومة بأنّها تنازلت عن أرضها لصالح دولة إسلامية تجاورها، ويعيبون عليها عدم افتعال حرب ونزاع معها في ظل توجه واضح من هذه الدّولة للعودة لهويتها وثقافتها الإسلامية العربية، وفي نفس الوقت يطالبون دولة إسلامية أخرى بجزر عربية تحتلها في مياه الخليج العربي، والسّؤال هنا، لماذا هذه الإزدواجية في التّعامل مع احتلال الأراضي العربية؟ وإذا كانت بعض الدّول تضغط وتنكّل بالفلسطينيين من أجل أن يتنازلوا عن 78% من أرضهم تحت الحساب للإحتلال، فلماذا لا يقومون هم بالتنازل عن أراضيهم المحتلة لدول إسلامية وعربية في هذه الحالة؟ وأن تتنازل عن أرضك لعربي ومسلم أفضل من أن تجبر أخاك على أن يتنازل عن أرضه لعنصري استئصالي سيصلك يوماً ما.

إنّ   التدافع الدولي والإقليمي لاحتلال أرض العرب بطرق متعددة يضع العرب أمام خيارات مفصلية وغاية في التّعقيد، وهي خيارات مصيرية بكل ما للكلمة من معنى،  فإمّا أن تصاغ استراتيجية موحّدة  لتعريف وتحديد آليات التّعامل مع من يحتل أرض العرب، ووضع  آليات تحدد الكيفية المناسبة لتحرير المحتل من الأراض  ومنع احتلال أراضي عربية جديدة، إضافة لدعم وتسهيل عمل ونشاط حركات المقاومة العربية، وإما أن يتم الإنزلاق إلى ما هو أسوأ من الوضع الحالي، الذي سيخلق واقع يوجه دعوة مفتوحة لكل طامع بأرض العرب ليحتلها، والعرب بدورهم سيقومون بتسهيل ذلك له.