معضلة الانتخابات الفلسطينية
صلاح حميدة
لم ينظّم الفلسطينيون انتخابات تخصّهم إلا في حالات قليلة ومحدودة، وغالباً ما كانت الانتخابات الشاملة تدار بطلب أو بتنظيم خارجي، ومن المعروف أنّ الانتخابات البلدية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م أصبحت تجرى فيها بشكل دوري يختار فيها الفلسطينيون من يمثلهم، بعد رفع الحكم العسكري عنهم ومنحهم حق المشاركة في الانتخابات، أمّا في الأراضي المحتلة عام 1967م فقد نظّم الاحتلال انتخابات في السبعينيات حتى تفرز له مجالس منتخبة موالية له، إلا أنّ الشعب الفلسطيني انتخب من لا يريدهم الإحتلال، وقيل حينها أنّ من لا يريدهم الإحتلال تكفيهم هذه دعاية انتخابية.
لجأ الإحتلال بعدها إلى منع الإنتخابات، وكانت أوّل وآخر انتخابات بلدية تجري بإشراف الإحتلال بشكل مباشر، ولجأ إلى التعيين وعزل المجالس المنتخبة شعبياً، وبقيت المجالس على حالها حتى تأسيس السّلطة الفلسطينية، والتي لجأت لتغيير المجالس البلدية وتعيين مجالس مكانها، وبقيت المجالس المحلية المعيّنة حتى الإنتخابات المحلية والتشريعية التي جرت قبل أربع سنوات تقريباً، ولم تجري الإنتخابات في مناطق بلدية كبيرة وذات ثقل جماهيري مهم، وبرر ذلك في حينه بأنّها ألغيت في تلك المناطق بسبب إمكانية تحقيق الحركة الإسلامية نتائج مهمّة فيها، وتمّ تنظيم الانتخابات المحلية على دفعات وبشكل مجزوء وبعدة قوانين انتخابية، ولكن كل هذا لم يمنع " تسونامي حماس" كما قال القيادي في حركة "فتح " نبيل عمرو لمقدّم برنامج "الملف" على قناة الجزيرة الفضائية قبل فترة قصيرة.
لا يخفى على المتابعين ما جرى من صراع وحصار على السّاحة الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967م خلال الأربع سنوات السّابقة، وما تخلل هذا الصراع من عزل مجالس منتخبة في الضّفة الغربية وتعيين مجالس أخرى مكانها تحت مبررات كثيرة، ولكن حينما حلّ موعد الإنتخابات المحليّة بعد أربع سنوات، قيل أنّ إجراء هذه الإنتخابات "استحقاق وطني" ويجب إجراؤها حتى ولو في ظل الإنقسام وفي الضّفة وحدها، وبدأت التّحضيرات لها على قدم وساق، وتحمّس لها من تحمّس، في حين كان هناك من لم يهتم بها لأسباب عديدة أهمّها انتفاء المنافسة بين الأطراف السياسية الرّئيسية، وظهور اللاعبين الصّغار والإنتهازيين لاقتناص ما يمكن اقتناصه من الذين نظّموا الإنتخابات.
القوى المجهرية والإنتهازيين والمناطقيين لبسوا عباءة التّحزّب السياسي لمن نظّم الإنتخابات وكانوا من أشدّ المتحمّسين لها، فهم يعلمون أنّها فرصتهم لتحقيق مصالح ذاتية وعائلية وحزبية في لحظة تاريخية عصيبة، إن هم أحسنوا التّسلق على حالة الإنقسام الفلسطيني.
أثبت التّصارع الشّديد على اقتناص المقاعد في القوائم التي أريد لها أن تكون موحّدة وتفوز بالتّزكية، أثبت أنّ الولاءات العائلية والمناطقية والمصلحية أكبر من الولاء لحزب سياسي - كما قال قيادي فتحاوي لوكالة إعلامية فلسطينية - فمعضلة اختصار كل القوائم من مستقلين ومن حزبيين مجهريين في قائمة واحدة، منعاً لأيّ مفاجآت، أدّت لمعضلة جديدة تتمثّل بمعضلة تصارع كافّة هذه القوى على الرّئاسة وعلى نيابة الرّئاسة والحصة المقتطعة لكل طرف في المجالس، بل ثارت أيضاً معضلة أخرى حول كيفية التّعامل مع المهمّشين والمستبعدين من القوائم من أبناء الحركة الأم التي أرادت تنظيم الإنتخابات والكيفية التي من خلالها يتم منعهم من تشكيل قوائم أخرى تنافس كتلة حركتهم.
غالبية المحللين والسياسين أجمعوا أنّ وصول التّصارع الدّاخلي الحركي و العائلي والمناطقي والحزبي المجهري على " كعكة " المجالس المحلية لمرحلة خطيرة، أدّى إلى القرار المفاجىء بإلغاء الانتخابات في اللحظة الأخيرة من انتهاء مدة الترشيح، وبهذا تم تنفيس وإعادة احتواء عملاق التناقضات الذي أحيته هذه الإنتخابات التي لم تتم.
ولكن المثير للضحك هو موقف اليسار بكافة قواه - لا أعلم لماذا لا يزال يطلق عليه يساراً؟ - فقد كالوا لحركة "فتح" وحكومتها المعيّنة في الضّفة كافّة أنواع الإتهامات الممكنة، فقد عقدوا مؤتمرات صحفية وخرجوا بمظاهرة أمام مجلس وزراء الحكومة المعيّنة في الضفّة، واتهموا حركة "فتح" بالإنتهازية، وبتقديم المصلحة الفئوية على المصلحة العامّة.....الخ.. ولكن المثير هنا أنّ هؤلاء يتّهمون حركة "فتح" بما فيهم هم، فهم أهل الإنتهازية والمصلحيّة الضّيقة، فحركة "فتح" تبحث عن مصالحها مثلما يبحثون عن مصالحهم، فكيف يعيبون عليها ما يغرقون فيه حتى الثّمالة، فمثلما كان من مصلحتم الضّيقة إجراء الإنتخابات، كان في مصلحة حركة "فتح" وقفها، والطّريف أنّ هؤلاء وقفوا مع التنكّر للتجربة الإنتخابية السّابقة ورفضوا الإعتراف بنتائجها، بل يعترفون بحكومة معيّنة بلا غطاء تشريعي إنتخابي، ويطلبون منها - في تناقض غريب - أن تلتزم بإجراء انتخابات؟!، فهل من يحكم بالتعيين ولم يأتي بالإنتخابات يرغب بإجراء انتخابات؟ ولذلك شكّلت هذه التجربة المنقوصة أكبر ضربة لمن تبقّى من الذي يطلق عليه يسار، بل ربّما كانت الضّربة القاضية والفاضحة لانتهازيّتهم ومحاولاتهم لابتزاز القوى السّياسية الكبرى على السّاحة الفلسطينية واقتناص الفوائد من التّسلق على الإنقسام الفلسطيني.
أعادت هذه التّجربة الإنتخابية المنقوصة طرح نفس الأسئلة السابقة عن الحالة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص، فهل بالإمكان إجراء انتخابات من قبل طرف سياسي دون الطرف الآخر من المعادلة؟.
أثبت الواقع والتّجربة أنّ التّعامل الإقصائي الأمني مع المنافس السياسي يأتي بنتائج معاكسة، وأنّ إمكانية التّفرد بالشّأن السياسي والتقريري لمصير الشعب الفلسطيني غير ممكن البتّة، وأنّ الثّمن الذي سيدفع للأحزاب الإنتهازية المجهرية والغول العائلي و المناطقي أكبر بكثير من الثّمن الذي سيدفع في منافسة سياسية حرة ونزيهة، وأخطر هذه الأثمان هو تفتت التّنظيم المتفرّد بالسّلطة من الدّاخل، والذي تجلى بوضوح خلال الفترة السّابقة لإلغاء الإنتخابات، فوجود منافس سياسي قوي كفيل بتوحيد الغالبية من أبناء التنظيم خلف قائمة وعمل إنتخابي موحّد، أمّا عندما تكون المنافسة مع الذّات، فباب التّناقضات يفتح على مصراعيه.
والتّساؤل الآخر يتمحور حول إمكانية بناء قاعدة حقيقية توافقية للشراكة السياسية، فهل هي ممكنة؟.
من الممكن ذلك ولكن، الشّراكة الدّاخلية المتينة تقوم على التّمسّك بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وعدم التّفريط بها، واستثمار كل التّحركات الدولية الرسمية والشعبية لصالح هذا التّوافق، وبعيداً عن الإملاآت الإقليمية والدّولية، فالرّضوخ للإملاآت الدّولية يعزز الإنقسام والتّناقضات الدّاخلية ويحطّم المناعة الوطنية، ولم يجلب أيّ منفعة ذات مضمون حقيقي لصالح القضية والشّعب الفلسطيني.
هذه التّجربة المنقوصة أعادت تسليط الضّوء على الحالة السياسية في الإقليم، وعن ثنائية (سياسة تحكم الإنتخابات وانتخابات تحكم السياسة) ففي الدّول التي تقود فيها الإنتخابات السياسات المحلية والخارجية، تجد هذه الدّول في أقوى حالاتها في مخاطبة الخارج، وتجد لديها حصانة كبيرة تجاه الضّغوط والمطالب الدّولية، مدفوعة بقوى شعبية، وهذا ينطبق على حالة الدّولة العبرية، وعلى تركيا التي هي على وشك الخروج من قمقم تسلّط من يعتبرون أنّهم هم " الشّرعية" على الإرادة الشّعبية الجارفة، وتبيّن هذه التجربة التركية بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ النّهاية دائما تسير باتجاه انتصار الإرادة الشّعبية مهما طال الزّمن.
أمّا المعضلة التي تحكم الإنتخابات الفلسطينية، فهي أنّ الشّعب الفلسطيني لا زال تحت الإحتلال، ويراد منه أن يجري انتخابات تحكمها السياسة، لا أن يجري انتخابات تحكم نتائجها السياسة، وهذا أثبتت التجربة تعذّره، وهذا هو السّبب الحقيقي لحالة الشّلل الذي تعاني منها الحالة الفلسطينية حتى الآن، وحتى وصول من يرفضون الإرادة الشعبية والانتخابية الفلسطينية، لقناعة القبول بنتائج حراك شعبي وانتخابي فلسطيني يدير السياسة، فلا إمكانية للخروج من عنق الزّجاجة، إلا بقناعة يتمّ إيصال تلك القوى التي تصنع هذه الحالة من الشلل لها، عبر نضال متواصل وصمود منقطع النّظير وخطاب سياسي حاسم، حتى يتمّ إجبارهم في نهايته على القبول بالإرادة الشّعبية الفلسطينية و القبول بنتائج اللعبة الإنتخابية.