هل تغيّرت قواعد اللعبة

صلاح حميدة

[email protected]

حراك سياسي دولي كبير جرى بعد مجزرة أسطول الحرية، أعربت خلاله الكثير من الدول في العالم عن نفاذ صبرها من الحصار اللاإنساني المفروض على قطاع غزة، وأعادت جسامة الحدث طرح التّساؤلات نفسها التي كانت تطرح من قبل حول الإزدواجية الغربية في التعامل مع إرادة الشعوب، وعن كون الديمقراطية والحريات تصرف فقط في الغرب ولا مكان لها في العالم العربي والاسلامي.

المعطيات بإمكانية تفكك الحصار الدولي الانساني والسياسي عن قطاع غزة  بدأت بالظهور قبل مجزرة الأسطول في المتوسط، وتجلّى ذلك بزيارة  الرئيس الروسي  لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس بدمشق، إضافةً لشواهد أخرى كثيرة، ولكن مجزرة الحريّة عجّلت بطرح  الموضوع على نار حامية من الكثير من الأطراف، وخاصّة الطرف التركي وبعض الأطراف الأوروبية، وأنتج فيما بعد مواقف كثيرة صدرت عن الذين كانوا يطبقون على غزة بحصار خانق، وأصبحوا على رأس الدّاعين  لرفع الحصار عنها؟!  هذا السّلوك أثار تساؤلات الكثيرين عن ما يجري خلف الكواليس، وما الذي يجري الإعداد له في اللقاءات التي تتم على وجه السّرعة محلياً وإقليمياً ودوليا وعن هدفها وما ترمي إليه؟!..

بادر بعض السياسيين بالقول أنّ شروط الرّباعية لم تعد مطروحة لكسر الحصار، بل قيل  بإمكانية إعادة فتح ميناء غزة البحري لأول مرة منذ العام 1967م،  وبادرت العديد من الأطراف الدّولية واستعدّت لطرح مشاريع لفتح المعابر البرية والبحرية بلا وجود للشروط السابقة، وفتحت خطوط اتصال مع قيادات في المقاومة الفلسطينية.

بالتوازي مع هذا الزّخم الكبير والنّشاط الغير معهود لرفع الحصار وإنهائه والانفتاح على قيادة المقاومة الفلسطينية المنتخبة شعبياً، كان هناك جهد كبير - ولا يزال- يبذل من أطراف إقليمية ودولية لاحتواء تداعيات ما جرى وإعادة قولبة الشروط السابقة التي كانت توضع لكسر الحصار، بل عبّرت بعض هذه الأطراف عن رفضها وامتعاضها من أي تواصل مباشر مع قيادة المقاومة الفلسطينية وأعلنت ذلك علانيةً،  وتعمل على منع أي استثمار يقضي بكسر الحصار الإنساني والسياسي عن القطاع، إلا بشروط أهمّها الانتحار الطّوعي لمن انتخبهم الشّعب الفلسطيني والاستقالة الفورية والتامّة من المشهد السياسي الفلسطيني.

إذاً هناك من يريد إعادة عقارب السّاعة إلى الوراء بإعادة إنتاج الحصار بثوب جديد، أملاً بتحقيق ما يئس الغرب من إمكانية إنجازه، وهذا يثير تساؤلاً واضحاً عن دور المقاومة الفلسطينية ومن يدعمها في الإقليم والعالم في فرملة هذا التّوجّه، مضاف له دور المتضامنين الدوليين، والشعوب العربية والاسلامية؟ فهل تغيّرت قواعد اللعبة السّياسيّة حقاً؟ وهل بالإمكان تغيير الواقع السلبي الموجود باستثمار الدّماء التي سالت؟ وهل أصبح القطاع بمن فيه يشكل  رقماً صعباً في السياسية العالمية بالرغم من  كونه جزيرة معزولة وسط بيئة معادية تماماً؟ وإن لم يصبح كذلك بشكل مكتمل، فهل بالإمكان جعله كذلك وفرض نفسه عنوةً على واقع اللعبة السياسية الدّولية؟.

الواقع يقول أنّ مشروع المقاومة الفلسطينية يراكم الإنجازات  بشكل متسارع نسبياً، بل يحقق إنجازات أفضل بكثير من مماثليه في مناطق أخرى، ولكن هناك من يقوم بجهود محمومة لقطع الطّريق على ذلك، ولن ييأس هؤلاء من  الإستمرار في هذا الجهد، ولكن ما المتوقّع أن تفعله قيادة المقاومة الفلسطينية حتى تفرض وجودها على من لا يريد رؤيتها لاعباً محورياً في المنطقة؟.

من الممكن توقّع برنامج عمل حافل بالحركة المتواصلة التي تصل الليل بالنّهار، وأنّ هذا هو وقت العمل وليس وقت انتظار أن يقوم الآخرون بالعمل نيابة عنها، وقد يتمثّل ذلك بالعديد من الخطوات التي من الممكن مشاهدتها في الأيام القادمة...

 فالحدث الأكبر الذي حرّك المياه الرّاكدة في العالم أجمع وجعل غزة ومن فيها محور الاهتمام العالمي هو أسطول الحريّة المكوّن من ستة سفن، وأهم ما في الأسطول هو العدد الكبير من المتضامنين على متنه، ولذلك من الممكن أن  تشهد المرحلة القادمة  تكثيفاً للإستعدادات لأساطيل أخرى تفوق الأسطول السّابق بمئات السفن وآلاف المتضامنين،  إضافةً لضم كل المتضامنين في العالم لهذا الأسطول من برلمانيين وسياسيين ومفكرين وفنانين وكتاب وصحافيين ووزراء ورؤساء دول ويهود من ناتوري كارتا ويهود ألمانيا،  فالمشاركة الكبيرة من كافّة الدول في العالم في أسطول الحريّة جعلت الحدث الفلسطيني حدثاً محلياً في كل الدّول وهو ما لم يتوفّر من قبل بتاتاً،  ومن شبه المؤكّد أنّ هذا الأسطول سيكسر الحصار عن القطاع، بل سيحطّم كل التّحركات التي تحاول امتصاص تداعيات الأسطول السابق ومحاولات كسر الحصار وتوجيهها بطريقة تديم الحصار وتخدم من يحاصرون القطاع سياسياً وإعلامياً في نفس الوقت.

قد نرى تحرّكات سياسية ودبلوماسية من المقاومة الفلسطينية  تطرح مبادرات جديدة ولكن بصورة مغايرة، طرح سياسي شامل لكافّة الملفات التي كانت تخيّر بين الموافقة عليها  وبين الحرب  و استمرار الحصار، وقد يتضمّن هذا الطّرح رفعاً لسقف مطالب المقاومة في كافّة الملفّات، فبالرغم من أنّ هناك محاولات لامتصاص تداعيات وإنجازات ما جرى، إلا أنّ المقاومة تعتبر في موقف أفضل بكثير من ذي قبل، وهذا الوضع يؤهلها لرفع سقف مطالبها، وفرض التراجع على من هزم مشروعهم وحصارهم، فالمنطق يقول أنّ صاحب المشروع المتراجع هو من  يدفع الثّمن لا الصّامد المتقدّم الذي يحقق الإنجازات تلو الإنجازات على الأرض.

من الممكن أن تشهد المرحلة القادمة المزيد من  التركيز على البحر أولاً وأخيراً، من باب أنّه هو مخرج المقاومة الفلسطينية الأفضل، فالواقع أثبت عل وجه الإطلاق أنّ معبر رفح يخضع لاعتبارات رسمية مصرية كثيرة تجعل من المتعذّر المراهنة عليه في كسر الحصار عن القطاع  ما دام النّظام الحالي يحكم مصر، ولذلك من العبث المراهنة بشكل كامل على معبر رفح. أمّا معابر الاحتلال فهي خاضعة لمزاجية و اعتبارات الاحتلال الكثيرة،  وما جرى مؤخّراً من إعلان عن السّماح بإدخال الشيبس والعصائر والأغذية المعلبة مثير للإشمئزاز والضّحك معاً، إضافة لاستمرار التّعذّر بالأسباب الأمنية لإغلاق المعابر، ولذلك  فتركيز العمل والجهد المحلي والدّولي والإقليمي والشعبي على فتح المعبر المائي للبضائع والأفراد هو وحده الكفيل بحرق كافّة أوراق الضّغط الهادفة لإذلال الفلسطينيين وكسر إرادتهم وصمودهم أمام القوى التي تحاصرهم.

بدأت و ستستمر إدارة معركة إعلامية وحقوقية دولية  ضد  الذين اقترفوا  المجزرة بحق المتضامنين الدّوليين، والتّصدّي لهم  في كل مكان تطؤه أقدامهم، إضافةً لتوعية الجماهير والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية إلى المخاطر الكبيرة للحصار على الشعب الفلسطيني وعلى القضية الفلسطينية، فالأمر لا يقتصر على الأبعاد الإنسانية للحصار فقط، بل له تبعات سياسية واستراتيجية خطيرة على القضية والأرض والشعب الفلسطيني ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم.

من المرجّح أن يهمل الغزّيون المناورات التنفيسية التي تحاك  في الكثير من العواصم هذه الأيام، وتحديد خطّة عمل واضحة وذات أهداف محددة، ووضع آليات لتحقيقها الواحد تلو الآخر أو جميعها معاً إن أمكن، فللمقاومة الفلسطينية خبرة كبيرة بهذه التحركات التي أجهضت جهود مهمة من قبل والتي  بينما كان أصحابها  يبتسمون في وجهها، كانوا في نفس الوقت يكيلون لها طعنات نجلاء في الظّهر، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين.

من يراقب خطاب المقاومة الفلسطينية  يصل لقناعة أنّها تدرك  أنّ قواعد اللعبة في المنطقة بدأت بالتّغيّر - مع أنّ هناك من يستميت لمنع ذلك - وأنّ هذا التغيير حاصل بفعل  القدر و صيرورة التاريخ وسواعد القوى الحية في العالم، وأنّ إحسان استثمار هذا التّغيير الإستراتيجي الذي يحصل سيوفّر على أجيال المنطقة سنوات وأحداث جسام من الممكن أن لا يخوضوها ويعانوا بسببها إذا أحسن المعنيون استثمار اللحظة التاريخية، والانتقال من مكان المتلقّي إلى صانع وفارض الحدث على الأرض، ومن لا يأتي الآن سيأتي متأخراً بعد أن يصل مجبراً إلى قناعة  أنّه لن يستطيع منع القدر.