(نيرون) في غزّة هاشم

(نيرون) في غزّة هاشم!..

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

مَلاكاً كنتِ، مَلاكٌ أنتِ، متشبّثةً بالأرض.. وبالذِّكْر!.. بالأرض التي زرعوها بالقهر، وبالعُهر، بل بخرافات التلمود!.. وبالذِّكْر الذي يعلّمكِ الطُهر.. وفنون النصر!..

نورٌ أنتِ.. حُبٌ أنتِ.. ثابتةٌ لم تخشَ الأنقاض، ولا هدير طائرات (الفانتوم) و(الأباتشي) الصهيونية، ولا دَويَّ قنابلهم الفتّاكة!..

أيا غزّة.. يا أيتها الشامخة الطيبة الصامدة: زعموا أنكِ إرهابية!.. زعموا -حين تقاومين وحوشَهم البشرية المعتدية- أنكِ إرهابية!..

يا رمز الأمل بالفتح المبين القادم.. يا رمز العزّ والكبرياء.. يا جرحاً ينـزف من خاصرة الوطن والأمة والقضية المقدَّسة.. يا شهيدةً.. يا شاهدةً بالحق على كلّ القَتَلَة!..

مَنْ سفكَ دمَكِ يا غزّة هاشم؟!.. أيُعقَل أن يكونَ من بني البشر؟!.. أيمكن أن يجرؤ وحشٌ أو ذئبٌ أو ضبعٌ على ارتكاب ما ارتكبته أيديهم الآثمة المجرمة؟!..

أيها المغدورون من أطفال غزّة هاشم، أيها الطيور الخضر المحلِّقون حول عرش الرحمن.. وفي فضاءات الجِنان وبين أشجارها الوارفة.. أيتها العصافير الغضّة التي حجزت مكانها في سِرب ( الدرّة والريّان وأبو عاصي وإيمان حجو، ..)، مع آلاف الطيور الخضر من الشهداء الصاعدين إلى السماء.. إلى الجِنان.. من دير ياسين وكفر قاسم وقانا وقِبية وصبرا وشاتيلا.. وتلّ الزعتر وحماة وتدمر وسرمدا وجسر الشغور وحلب وحمص واللاذقية وإدلب، وغيرها.. أيها المغدورون.. يا كلّ المغدورين: ستُزهِرُ دماؤكم طوفاناً يجرف الوحوشَ الهمجيّةَ التي أطلقت وتُطلِق قذائفها الغدّارة باتجاه مدارسكم وبيوتكم!..

*     *     *

أيا غزّة هاشم: كثيرون هم الذين تواطأوا على ذبحكِ!.. فقد طعنوكِ منذ يوم النكبة!.. حين ادّعوا أنّ سلاحهم فاسدٌ كقلوبهم!.. خنقوكِ منذ اللحظة التي سطّروا فيها موافقتهم على قرار الهدنة بمِدادٍ من دماء الشهداء التي روّت الأرضَ المقدَّسة!..

طعنوكِ يوم زعموا أنهم سيُغرِقون اليهود الصهاينة في البحر.. فأغرقونا -ذات ليلٍ حُزيرانيٍ حالكٍ مظلمٍ كسويداءات قلوبهم- في الهزيمة المُرّة والهوان، وحاولوا إقناعنا بأنّ الأمر ليس إلا نكسةً أو كبوة!..

طعنوكِ يوم حرّكوا جيوشَهم المكدّسة، في استعراضٍ عسكريٍ مَسرحيٍّ سمّوه حرباً تحريريةً تشرينية!.. فإذا -بمفهومهم- إرادة القتال لديهم هي التي تحرّرت كما زعموا، على الرغم من أنّ الصهاينة احتلوا مزيداً من أرضنا وحاضرنا ومستقبلنا، وما تزال شقيقتكِ الجولان –يا غزّة- تئنّ من تواطئهم وتآمرهم ومتاجراتهم، وما يزال جبل الشيخ الشامخ كسيراً حزيناً شاكياً خياناتهم!..

طعنوكِ يوم دخل (شارون) الجبان إلى بيروت العربية، بواسطة بطاقة دخولٍ رسميةٍ (قَطَعَتها) له قوات (الصمود والتصدّي).. الرادعة الساحقة الماحقة.. للسوريين واللبنانيين!..

طعنوكِ منذ اليوم الأول الذي انطلق فيه الحَجَر بوجه الدبابة والمدفع والرصاص المطاطيّ والذخيرة الحية!.. عندما جلسوا أمام أجهزة التلفاز يستمتعون بأفلام الانتفاضة الأولى ثم الثانية، حين كانت تعرض صور وحوشِ المجرم السفاح (رابين)، وهم يتسلّون بتكسير عظام أطفالكِ.. (الإرهابيين)!..

طعنوكِ يا غزّة هاشم.. منذ اللحظة التي استولدوا فيها ملهاة: (التوازن الاستراتيجيّ) وخرافة: (الخيار الاستراتيجيّ).. ليستروا بهما عَوْراتهم واستخذاءهم!..

طعنوكِ في (كامب ديفيد) و(مدريد) و(أوسلو) و(شرم الشيخ) و(واشنطن) و(أنابوليس).. وصالات مؤتمراتهم ومؤامراتهم!.. ويوم تسابقت أيديهم المستخذية لمصافحة الأيدي الصهيونية الآثمة من فوق الطاولات المستديرة ومن تحتها!..

طعنوكِ يوم ارتفعت حرارة شارعنا العربيّ والإسلاميّ الهادر، الذي طالبهم بإعلان الجهاد ضد الغاصب المحتلّ.. فأعلنوا الحرب على أحرار الوطن المنكوب بهم، ليخنقوهم بذلّ تخاذلهم وخياناتهم!..

طعنوكِ –ياغزّة هاشم- منذ اللحظة التي سطّروا فيها أول حرفٍ من قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، ليقتلوا روح المقاومة لدى أشقائكِ وأحبّائك، حمايةً لمجرمي الكيان الصهيونيّ الذين يستبيحونكِ اليوم.. وذبحوكِ حين كمّموا فمَ كلّ حُرٍّ مخلصٍ حاول فتحه خارج عيادات أطباء الأسنان الوطنية الرسمية!..

طعنوكِ منذ عشقوا خديعة (السلام الحربيّ)، وتشبّثوا بها كما يتشبّثون بكراسيّهم وعروشهم التي تَميد بهم وبقلوبهم المهزوزة الكالحة!..

طعنوكِ منذ اكتشافهم طريقة الحرب الشعاراتية التلفزيونية والإذاعية، وحرب القنوات الفضائية والأرضية.. فاشتروا الصوت الغنائيّ الرنّان بدويّ القنابل، والخطبة الطنّانة بالصاروخ البعيد المدى، والبيانات العنيفة بالطائرات الحربية، والفيلم الوثائقي بالدبابة، والندوة الصحفية بالرشّاش، والأمسية الشِعرية بأزيز الرصاص، والأغنية الوطنية بسلاح المدفعية، والمظاهرات الاستعراضية بناقلات الجنود، والمهرجانات الخطابية بالسفن الحربية والغوّاصات النووية!..

طعنوكِ بأول كلمة (تنديد)، وفي مطلع كل بيان (استنكار)، ومع بداية كل معركة (استغاثةٍ) و(استكانةٍ).. طاحنة!.. وأثناء كل مسيرة احتجاجٍ وبرقية شكوى إلى مجلس (الفيتو) الأميركيّ الصهيونيّ وهيئة الأمم المتحدة.. علينا!..

طعنوكِ يوم مارسوا علينا وعليكِ الشعوذة، فأوهمونا أنّ جهاد أمّةٍ يمكن اختزاله في صندوق حليبٍ فاسدٍ يصادره المجرم المحتلّ عند المعابر والحدود!.. وخدعونا بأنّ مقاومة العدوّ يمكن اختصارها إلى صندوق أدويةٍ انتهت مدّة صلاحيتها!.. وأنّ عتاد الحرب يمكن تعليبه بعلبة (سَردين)!.. وأنّ عدّة المواجهة الشرسة لا تتعدّى سيارة إسعافٍ مهترئة!.. وأنّ القتال والجهاد لا يتم إلا عبر الآفاق والأثير والحدود المصطنعة بواسطة الـ (ريموت كونترول) وشعارات الدجل والمكر الفارسيّ-الأسديّ!..

طعنوكِ داخل أروقة النفاق في محافل (حقوق الإنسان) و(حقوق الطفل).. ومحافل (المحافظة على البيئة) في البرّ والبحر والجوّ!..

أيا غزّة هاشم!.. يا غصّةً في الحلق!.. ويا مرارة أمّةٍ تستمر علقماً منذ ستة عقود: لم يطعنكِ         (أولمرت) وحده، ولم يقتلكِ (شارون) و(موفاز) و(بيريز) و(باراك) و(رابين) المقبور.. وحدهم.. ولم يطعنكِ (كلينتون) أو (بوش) أو (بلير).. وحدهم.. ولا كلّ العالم الغربيّ وحده، الذي يثور ويملأ الدنيا صراخاً وعواءً وخواراً وفحيحاً، لمجرّد موت هِرّةٍ أو كلبٍ أو جَروٍ في شارع (الشانزليزيه) أو في ساحةٍ من ساحات باريس أو لندن أو بون أو روما أو نيويورك!.. فقد طعنكِ (الضمير العالميّ) المستتر، الذي لا يظهر إلا عندما يُقتَل كلبٌ من كلاب اليهود!.. طعنكِ (الرأي العام العالميّ) الذي يبقى هادئاً ساكناً ميّتاً متفرّجاً.. إلى أن يُذبَح فأر من فئران اليهود الصهاينة، ضُبِطَ لصاً أو قاتلاً أو قاطعاً لشجرة زيتونٍ سامقة!.. فكلّ هؤلاء طعنوكِ!.. وكلهم يرومون ذبحكِ في مذبح الحضارة الغربية-الصهيونية، الآيلة إلى السقوط والانهيار والزوال بإذن الله، على الرغم من كل النفاق والدجل والشعوذة التي يتقنها أولئك المتخلّفون المجرمون الحاقدون السفّاحون، الذين يزعمون أنهم من البشر أو من أبناء آدم!..

كلّ هؤلاء، وكل أولئك.. طعنوكِ يا غزّة هاشم، ألف مرّةٍ طعنوكِ.. وما يزالون.. فلم ينفد بعدُ.. الحقد والجبن والخوف والرعب والتواطؤ من صدورهم!..

               

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام