لا تعطني رغيفاً

صلاح حميدة

[email protected]

المجزرة المرتكبة من قبل الدّولة العبرية بحق المتضامنين الدّوليين في المياه الدّولية للبحرالمتوسّط، أعادت تسليط الضّوء على القضية الفلسطينية بقواعدها وأصولها الحقيقية، وأعادت اهتمام شعوب في الأرض بما يجري بحق الشعب الفلسطيني من قتل وإهانة وتهجير من أرضه، بل اعتبر ناشطون دوليون أنّ ما تمّ بحقهم لا يعبر إلا عن أقل القليل مما يجري للشعب الفلسطيني الذي سلبت منه حرّيته وأرضه و مستقبله، وهذا اعتراف واضح بالمعاناة التي لا يمكن وصفها التي يعانيها الفلسطينيون منذ قرن من الزّمان.

لا يخفى على أحد أنّ الحصار والعدوان ودعم الإحتلال الإحلالي لأرض فلسطين مدعوم دولياً ومن بعض النّظام الرّسمي العربي، وأنّ الصّراع يدور منذ بدايات القرن الماضي وحتى اليوم على قضية واحدة ووحيدة، وهي المحاولات الحثيثة لإحلال مغتصبين من كافة مناطق الأرض مكان شعب فلسطين، وتقوم بهذه المهمّة دول مهمّة في العالم ترعى هذا المشروع الذي ليس إلا مشروع لمنع نهضة الأمّة العربية والاسلامية، ولذلك تدعم هذه الدّول مشروعها الإحلالي على هذه الأرض، مما سبب ويسبب للشعب الفلسطيني معاناة بشعة لا تنتهي ويصعب وصفها، ولكنّ مقاومة الشّعب الفلسطيني لهذا الإحتلال لم تقم لكون الشّعب الفلسطيني يريد مالاً أو غذاءً أو دواءً، مع أنّه بحاجة لذلك وأكثر منه، ولكنّه يناضل من أجل نيل حرّيته، و الشّعب الفلسطيني بحاجة لدعم سياسي وعملي مطلق في نضاله لتحرير أرضه.

أدبيات المقاومة الفلسطينية لم تغفل هذه النّقطة، بل تم التركيز عليها في خطابها السياسي والإعلامي والفني والشّعبي، وكان شعار ( ما بدنا طحين ولا سردين..الخ) يرفع دائماً من قبل الفلسطينيين، بل أدرك الفلسطينيون مبكّراً أنّ حصارهم وتجويعهم وملاحقتهم والتّضييق عليهم يهدف لابتزاز مواقف سياسية منهم، وكانوا يطلقون دائماً شعارهم الخالد ( نعم للجوع لا للركوع) ولذلك بذلت جهود جبّارة من قبل تكتّل الاحتلال الدّولي لفلسطين، لتطويع الفلسطيني ليقايض حقوقه الأساسية برغيف الخبز وحبّة الدّواء وقليل من المال، وبالرّغم من أنّ هذه السياسة حقّقت بعضاً من النّجاح المحدود جغرافياً وديموغرافياً ونخبوياً، إلا أنّها واجهت عقبةً كأداء تتمثل في قطاعات واسعة جداً من الفلسطينيين في الدّاخل والخارج يقودهم قطاع غزة الذي يعتبر - بسكّانه المليونين -الأكثر فقراً على مستوى الشّعب الفلسطيني في كافّة مناطق تواجده، ومورس بحق الغزّيين كافّة أشكال الحصار والتّجويع والمنع من التّنقّل والإهانة وحجب العلاج والقتل الجماعي والتّهجير وهدم البيوت وحرق وإتلاف الزّراعة وتلويث المياه الجوفية بمخلّفات الأسلحة المحرّمة دولياً، بل يتمّ شن حرب إعلامية وسياسية وأمنيّة شعواء على الغزّيين من كل حدب وصوب، وكل هذا مقرون بموافقة الغزيين ومن يعبّر عن هذا القطاع الواسع من الفلسطينيين بموقف سياسي يقبل بالاحتلال لأرض فلسطين و يرضى بالتّعايش معه، إضافةً للرضوخ لتصفية القضيّة الفلسطينية والتّنازل عن حقوق اللاجئين بالعودة لأراضيهم.

رفض الغزّيون الرّكوع وآثروا أن يتألموا تحت وطأة الجوع، في الوقت نفسه حاول الذين يحاصرون الشّعب الفلسطيني وبالتّعاون مع الذين يتآمرون عليه حتى يرضخ في النّهاية ويستسلم لمشروع الاحتلال الدّولي لأرضه، حاول هؤلاء الترويج للمأساة الانسانية التي يعيشها الفلسطينيون للتسويق لدعوتهم للرضوخ للمطالب الاستعمارية ومقايضة الحقوق الفلسطينية برغيف الخبز، إلا أنّ هذه السّياسة الخبيثة قوبلت برفض واضح وصريح من النّخب السياسية التي تتبنّى الحقوق الفلسطينية مدعومةً بصبر شعبي لا نظير له على مر التاريخ، بل ظهر واضحاً لكل مراقب أنّ الأمور وصلت للحظة المفاصلة النّهائية بين الطّرفين، وظهر المشهد السياسي بصورة المترقب لما سيحدث، وكان الجميع على موعد مع المشهد الذي رسم بدماء المتضامنين في أسطول الحرية..

فقد رسمت هذه الدّماء معادلة جديدة نسفت كل المحاولات السّابقة لحرف النّظر عن الواقع المعاش وعن الواقع المراد، وقد عبّر الناطق بلسان الخارجية المصرية عن هدف أسطول الحرية قائلاً:-

( هدف هذا الأسطول سياسي وهو كسر الحصار) وعرض في نفس الوقت إدخال المساعدات التي يحملها المتضامنون عن طريق المصفاة الرسمية المصرية والتي تستثني كل ما هو مطلوب في القطاع كمواد البناء المطلوبة لإيواء عشرات آلاف الفلسطينيين الذين دمرت بيوتهم في الحرب الأخيرة على القطاع، القادمون لكسر الحصار أدركوا الخديعة التي تكمن بالطلب منهم بتسليم ما يحملون عبر ميناءي العريش أو أسدود فيما بعد، وأصرّوا على كسر الحصار وفتح ممر بحري للقطاع المحاصر، فالبدائل الأخرى محكومة باعتبارات سياسية لن توافق مطلقاً على انكسار الحصار على قطاع غزة حتى لو أبيد المليوني فلسطيني هناك عن بكرة أبيهم، وهذا يفسّر التّعامل مع هذا الأسطول بدموية شديدة.

ثارت ضجّة دولية كبيرة على مجزرة الحرّية، ولكن سرعان ما حاول وعمل ويعمل من يحاصرون غزة على احتواء تداعياتها الإيجابية وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، ولكن بطريقة تطوّر الحصار ولا تنهيه، فبادرت مصر لفتح معبر رفح بطريقة انتقائية، تسمح بعبور أصحاب ( التنسيقات المصرية) وللتنسيقات المصرية قصة تداولتها وسائل إعلامية مختلفة تقول أنّ أصحاب التنسيقات المصرية يدفعون رشاوى لضبّاط مصريين بعينهم على المعبر مقابل السّماح بمرورهم، ولهذا يلاحظ مرور ما يقارب الأربعين بالمئة من الرّاغبين بالسّفر عبر رفح للعالم الخارجي، ويردّ الباقون على أعقابهم، أمّا المساعدات التي يحرص النّظام الرّسمي العربي - وبصورة مفاجئة - على إرسالها لغزة فهي تنحصر بمساعدات دوائية مسموح بها من المحاصرين للقطاع فقط، وبعض المساعدات الغذائية وأخرى عينية ليست ذات قيمة في رفع وطأة الحصار أو إحداث تغيير جذري في الوضع الكارثي هناك، أمّا ما يحتاجه القطاع من أساسيات حقيقية ومواد بناء والعيش الكريم والحركة بحرّية والعمل بكرامة فهذا ممنوع.

ما خيّل للبعض بأنّه صحوة رسمية عربية ودولية وإقليمية مفاجئة تجاه الغزيين، ليست إلا محاولة غير بريئة لامتصاص واحتواء الجهد الدّولي لكسر الحصار عن قطاع غزة بشكل نهائي، ولكن بالتّأكيد هذه السياسات ليست قدراً على الفلسطينيين ولن تكون كذلك، وهذا يضع مسؤوليات جمّة على منظّمي الأساطيل من كل دول العالم بألا يقبلوا بتنظيم حملات برية عبر معبر رفح إطلاقاً لأنّها ستكون فاقدة لمضمونها وستخدم من يحاصر الغزيين إعلامياً، ومن المهم أن تنصبّ الجهود الدّولية على زيادة وتكثيف عدد السفن والمتضامنين على متنها لتصل إلى مئات السفن وآلاف المتضامنين، يضاف إلى ذلك وضع بعض الدّول العربية التي بالإمكان التّأثير عليها كالجزائر وموريتانيا وليبيا وسوريا ولبنان أمام مسؤولية المشاركة في تلك الأساطيل بالمئات من السّفن والقوارب، جنباً إلى جنب مع تركيا وأوروبا ودول أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا وغيرهم.

عندها فقط سيكسر الحصار نهائياً عن الغزّيين ولن يكون بمقدور قراصنة المتوسّط ومن يدعمهم تحمّل تكلفة مجزرة دموية أخرى ضد الآلاف من المتضامنين، فلسان حال الفلسطيني يشكرهم على ما قدّموا وسيقدّموا لأنفسهم وللإنسانية وللشعب والقضية الفلسطينية، ويقول ويعلنها صراحةً أعطني حرّيتي... أعطني حقوقي.. لا تعطني رغيفاً.