الخطر الفارسي يتجدد

من رضا خان وحتى أحمدي نجاد ...

الخطر الفارسي يتجدد

جان عبدالله

منذ أن فقد العثمانيون سيطرتهم على مصر والعراق واليمن في القرن السابع عشر، بدأ الصفويون الفرس يتطلعون إلى الاستيلاء على العراق، فأوقعوا فيه أفجع الوقائع سبياً وسلباً وتدميراً إلى أن تصدى لهم السلطان مراد فألحق بهم شرّ الهزائم، وأعاد الاستقرار والحياة الطبيعية إلى بلاد الرافدين.  تزامن ذلك تقريباً مع ظهور الثائر الفارسي رضا خان في إيران وكان يحلم بإعادة عرش الأكاسرة مبتدئاً بالحرب على عربستان، فانتصرعلى أمير المحمّرة الشيخ خزعل في غمرة تخاذل العرب عن نصرته وضعف الشاه وتردّد الانكليز حيث دخل عاصمة إمارة بني كعب العربية في 20 نيسان/ابريل 1925 ، وأبدل اسمها ليصبح خرّم شهر، وأبدل جزيرة خضر إلى عبادان، وزالت معه أمارة آل مردان التي كانت جزءاً من الإقليم العراقي، ويحدّ بينها وبين أراضي الفرس جبال البختيارية الشاهقة كسدٍ مانع حتى أن البعض يقول أن الخليفة عمربن الخطاب أشار إليها عندما قال: ليت بيننا وبين فارس جبلاً من نار.

مضت مسيرة طويلة في مقاييس الزمن ازدادت معها أهمية عربستان وأصبحت مدينة المحمرة ميناءً تجارياً كما أن مضيق هرمز الذي كان يسميه ابن خلدون بحيرة البصرة أصبح عنق النافذة في الخليج العربي، فمنه تمر ناقلات النفط والثروة الضخمة التي تمتلكها الدول المطلة عليه التي تغذي دول العالم الصناعية، وأصبح الخليج مثار التنافس تدور حوله الصراعات الدولية وتتسابق فيه القوتان الأعظم في إيجاد استراتيجيات تحول دون تحكم إحداهما تحكماً كاملاً في وضعه.  ظهر ذلك جلياً عند انسحاب بريطانيا من شرق السويس 1968 – 1971 ، فالغرب والولايات المتحدة سعيا الى تطويق روسيا من الجنوب وتأمين المصالح الغربية اقتصادياً واستراتيجياً بشتى الوسائل، والاتحاد السوفيتي بالمقابل وطّد علاقاته السياسية مع العراق بإبرام معاهدة الصداقة بين البلدين عام 1972، وتمكن من احتضان اليمن الجنوبي للسيطرة على مداخل البحر الأحمر كما وكثّف وجوده في المحيط الهندي، لأن من يمتلك ناصيات الممرات المائية في الخليج يمتلك ناصية التوازن الدولي.

هنا أحس الشاه بغرور الطاووس ونازعته نفسه إلى إحياء الزرادشتية المجوسية ولينفذ وصية والده التي قال له فيها: لقد حررت الشاطئ الشرقي من العرب وعليك أن تحرر الشاطئ الغربي.  فأعلن عن تصميم بلاده لتكون خامس دولة عظمى عسكرياً تؤهلها للسيطرة على الخليج في المرحلة الأولى مستغلاً الوسيلة المذهبية ومستعيناً بالأقليات الإيرانية في البلدان المجاورة، وقد كشفت الشرطة الاتحادية في الإمارات العربية يومها أن مقر شركة المقاولات الإيرانية في الشارقة والفجيرة قد انقلب إلى معسكرٍ لتدريب المتسللين الإيرانيين كما عثرت إمارة دبي على مستودع للأسلحة في المدرسة الإيرانية حيث تبين بعد التحقيق أن ناظر هذه المدرسة يعمل ضابطاً في المخابرات العسكرية الإيرانية تماماً كما يجري اليوم على الأراضي اللبنانية.

إن كل الدراسات الأركوبولوجية والأبحاث الانتروبولوجبة أثبتت أن عيلام- عربستان جزء لايتجزأ من الأراضي  العراقية العربية وأن ولاءها في ذلك الوقت للدولة العثمانية إنما كان  وفقاً لانتقال الخلافة الإسلامية من قبيلة قريش العربية إلى قبيلة ( الغزّ) التركية في أرض العيلاميين.  ومع سقوط الشاه وظهور الإمام الخميني في شباط من عام 1979 أخذ الحلم الفارسي يكبر ويتوسع ويوم رفعت ثورته شعار ولاية الفقيه كشفت عن نواجذها ومخططها لتصدير الثورة الإسلامية مع أن بعض الفرس رغم دخولهم الإسلام ظلوا سراً على مجوسيتهم تعتلج في صدورهم  نيران زرادشت، فهم الذين اغتالوا عمر بن الخطاب وعلياً بن أبي طالب وتآمروا على سقوط الدولة الأموية وأربكوا الدولة العباسية.

 قرر الإمام الخميني أن يكون العراق هدفه الأول فصرح يوم 16 حزيران 1979 أن إيران ستطالب بفرض سيادتها على بغداد إذا ماأصرت على المطالبة بالجزر العربية الثلاثة، وقال وزير خارجيته إن عدن والعراق تابعتان لإيران والمعروف عن الإمام الخميني أنه يكره حتى ذكر العرب ويدعي أن العراق فارسي وكانت أولى إنجازاته بعد دخوله طهران أنه أمر بتغيير التقويم الهجري الذي كان متبعاً إلى التقويم الفارسي.  لقد تبين للكثير من المراقبين أن هذه الثورة مقنّعة لايعرف أحد مغزاها تحمل طابعاً عرقياً وشعوراً مسعوراً ضد العرب وتخطط لبسط السيطرة الفارسية على المنطقة بإثارة التفرقة المذهبية.  من هنا يتبين سر إلتقاء الخميني مع النظام السوري حيث عقدا اتفاقاً سرياً بينهما للسيطرة على الهلال الخصيب ثم الحجاز ومصر.

فالإمام أقام منذ البداية مركزين لتدريب العملاء والمخربين أحدهما في قمّ والثاني في طهران تمهيداً للزحف العسكري والإمساك بمسالك الخليج العربي وحافظ الأسد استولى على لبنان بحجة إيقاف الحرب الأهلية التي كان يؤجج نارها بالتناوب كلما خمدت وحاول التطاول وبسط السيطرة ايضاً على الأردن لكنه فشل حتى في اغتيال رئيس وزرائه مضر بدران، كذلك فعل في تمزيق الوحدة الوطنية الفلسطينية.

إن الحرب التي بدأت بين إيران والعراق في 4 ايلول 1980 ماهي إلا امتداد لإعلان حرب رضا خان بعد فترة طويلة من الخلافات والاضطرابات على الحدود البرية والمائية وشكاوي عديدة للمنظمات الدولية بعد أن ألغت إيران من طرف واحد اتفاقية الجزائر التي انعقدت بين البلدين في 6 آذار 1975 أثناء انعقاد مؤتمر منظمة الأوبك في الجزائر وبمبادرة من الرئيس هواري بومدين. لقد أثبتت كل مراحل الحرب الطويلة بين العراق وإيران رغبة الإمام الخميني في إنشاء امبراطورية كسروية على مثال كورش ومن أجل إيقاف هذا الهدف كان يطيل أمد الحرب ويرفض كل الوساطات لوقفها ويدفع بموجات الشبان الإيرانيين إلى أتونها من حين لآخر معتمداً على عدم التكافؤ البشري في العدد بين الشعبين وحتى لايدع فرصة للعراق لتحقيق طموحه الصناعي والعلمي مظهراً في الوقت نفسه ومن قناعاته المذهبية أنه (الروحي المنظر)  الذي سيواكبه لنصرٍ مهما بلغت التضحيات.

كبر هذا الحلم أكثر مع مجيء خلفاء الإمام الخميني ومع ارتفاع مداخيل النفط وشعور النظام الإيراني بالقوة، فامتد تآمره إلى سورية ولبنان وفلسطين ، ساعدهم في ذلك أننا كشعب نفتقر إلى درجة الارتقاء للولاء الوطني والقومي.  إن عالمنا العربي يعيش حتى اليوم أحط عصور الفساد والانحطاط وبدل الولاء ا لجامع الذي يمكن أن يكون سداً أمام الأحلام الفارسية صار لكل جماعة ولاؤها الإقليمي والمذهبي والقبلي المنفصل عن ولاء غيرها، ورافق هذا التفكك تطور ديني مرضي أفرز مذاهب جديدة حيث نما الولاء الطائفي على حساب التدين والوعي الوطني.  ونرى اليوم نموذج هذا التفكك في الواقع اللبناني حيث تتصارع فيه سبعة عشر طائفة وتتلاعب فيها القوى الإقليمية والخارجية ليثير حرباً بين الإخوة.

لم يكن هذا الاختراق جديداً فلقد سبق وأن اخترقت مجتمعاتنا في الدولة العثمانية التي لم تستطع تحقيق العدالة بين رعاياها رغم أن العناصر الأكثر تنوراً والأكثر تأثراً بتيارات التحرر  العالمية كانت في لبنان حيث  اعتبر مركزاً للإشعاع الفكري والوعي القومي العربي، ويوم تآخى الفلاحون اللبنانييون الدروز منهم والموارنه في ثورة كسروان 1857 -1859 بقيادة طانيوس شاهين أجهضها اختراق أدى إلى فتنة 1860 التي تركت ذيولاً من الأحقاد المدمرة امتدت إلى دمشق.

هذا التفكك مع تدني نسبة التعليم وإجهاض دور الصحافة في عالمنا شجع حكام إيران على المضي سريعاً لتحقيق طموحاتهم فكان العراق الضحية الأولى والتي يحاولون حتى الآن هضمها بالكامل، والدور الآن على سورية ولبنان، غير أن المؤلم في هذه المرحلة الخطيرة أن شعبنا السوري المسلوب الإرادة لم يستطع وقف هذه المؤامرة التي لو نجحت لاسمح الله فقد تغير معها الجغرافيا والتاريخ في المنطقة.  فالنظام السوري والليبي دعما الحرب على العراق فعلياً، فحافظ الأسد أوقف ضخ النفط العراقي إلى البحر المتوسط، وأقفل حدوده مع العراق، وبنى جسراً جوياً لنقل العتاد والسلاح والغذاء مع طهران، ووجّه شحنةً كاملةً من السلاح كانت روسيا قد أمدته بها إلى إيران، وسمح للطائرات الإيرانية أن تقوم من المطارات السورية لضرب شمال العراق وإضعافه، فقبض ثمن ذلك وكدفعة أولى جدولة مليار دولار من الديون السورية المستحقة لإيران وتلقى شحنات من النفط باسعار مخفضة.  أما النظام الليبي فقدّم أولى هداياه للنظام الإيراني مئة دبابة روسية جديدة، واشتركت اسرائيل معهما في دعم هذه الحرب اشتراكاً فعلياً حيث زودتها بالسلاح والعتاد وقطع الغيار والخبراء من الضباط وشنت طائراتها غارات على المفاعل النووي العراقي في 27 ايلول 1980 بعد أن سرقت محركاته من الميناء الفرنسي وقتلت الخبير المصري يحيى المشد.  ولم يأت من فراغ ماصرح به الرئيس الإيراني السابق أبوالحسن بني صدر لبرنامج نايت لاين في شبكة اي. بي. سي  يوم 20 آب 1981 أكّد فيه أن الإسرائيليين  يبيعون منذ مدة الاسلحة والمعدات العسكرية لإيران.  وقالت بذلك مجلة نيوزويك الأمريكية أن هناك تعاوناً كاملاً ومتواصلاً بين المخابرات الإسرائيلية والإيرانية حول أوضاع الخليج والعالم العربي.

كذلك ذكرت مجلة لوبون الفرنسية في 29 أيار 1982 أن إسرائيل أرسلت أسلحةً إلى إيران تقدر بمئتي مليون دولار لاستخدامها في حربها ضد العراق، وأكدت ذلك أيضاً جريدة الأوبزرفر البريطانية.