عن المصالحة والنّوايا
صلاح حميدة
سال مداد كثير عن المصالحة والحوار وضرورة إقفال ملفّ لمّ الشّمل لمواجهة التّحديات التي يواجهها الشّعب الفلسطيني، ونشط الكثير من السياسيين والوسطاء و المستقلين والأحزاب السّياسية والدّول الصّديقة والمنظّمات والشخصيات الاعتبارية في العالم والإقليم لإنجاز هذا الملف الشّائك، وكلّما لاح في الأفق أنّ هذا الملف يكاد أن ينجز، تبرز عقبات ومعوّقات تحول دون ذلك.
في الفترة الأخيرة نشط رجل أعمال فلسطيني في الوساطة بين طرفي الخصام، وصرّح بأنّ النّوايا طيبة عند الطرفين لإتمامها، بل سبق وساطته وتبعها لقاآت مطوّلة بين شخصيات وازنة من الخصمين في الضّفة وقطاع غزة، ورأى بعض المبالغين بالتّفاؤل بأنّ الأمور على وشك الإنجاز، ولكن اصطدمت كل هذه المبادرات المحلية والإقليمية والدّولية بعقبة كأداء، وهي الإصرار على إجبار أحد الأطراف الفلسطينية على التّوقيع على الورقة التي أعدّتها مخابرات الدّولة الوسيطة بدون الأخذ بملاحظات هذا الطّرف على ما قال أنّها تغييرات أجريت على الورقة الأصلية دون اتفاق، والغريب أنّ هناك من القيادات الفلسطينية من عبّر عن تفهمه للملاحظات على الورقة المصرية، ولكنّه دعا الطّرف الخصم للتوقيع عليها؟!.
تباينت المواقف من الملاحظات الثلاث على الصيغة المصرية، فهناك من اعتبرها تافهة ولا تستحق أن يرفض التّوقيع على الورقة من أجلها، وهناك من اعتبر أنّ هذه التعبيرات والكلمات المنقوصة لها أهمية بالغة، ومن يفقه قليلاً في اللغة العربية يعرف الفرق بين المصطلحات، فإذا كانت هذه التّحفّظات ليست ذات أهمية وتافهة فلماذا لا يتم إضافتها إلى الورقة المصرية ويتم التوقيع وتنتهي المسألة؟ وإذا كانت النّوايا طيّبة كما يقال، فما هو المخبّأ خلف هذا الإصرار على التوقيع على ورقة ذات تعابير مبهمة؟ وهل كل ما جرى ويجري بين الخصوم والوسطاء يوحي بأنّه يوجد أجواء من حسن النّوايا؟.
من الواضح أنّ الورقة المصرية انتقلت من كونها ورقة للحل إلى عقبة في طريق الحل، ومن البيّن كذلك أنّ الحديث عن النّوايا الطيبة وحده لا يكفي، ومن المؤكّد أنّ النّوايا الطّيبة التي لا تتبعها أفعال طيبة لا قيمة لها، بل هناك من يعتبر أنّ الحوارات والابتسامات ليست إلا تعبير آخر عن حالة المفاوضات التي تجري بين الفلسطينيين والدّولة العبرية، وليست إلا طبخة حصى مملّة ولن تتمخّض عن شيء، كما أنّ اللقاآت الحميمة - ظاهرياً- بين القيادات لا تنعكس إيجاباً على أرض الواقع كما يرى كثير من المهتمّين.
قد أتّهم بأنني متشائم، أو بأنني لا أريد من الخصوم أن يتصالحوا بعد ما جرى بينهم، ولكن ألم يكن ملف حقوق النّاس المتضررين من الانقسام هو أسرع ملف أنجز من ملفات المصالحة؟ ألا يدل هذا على أنّ الخلاف بين الطّرفين لا يتعلق بقضايا شخصية أوثأرية؟ ألم تنجز غالبية الملفات التي طرحت للنّقاش؟ ولكن لماذا هذه النّقاط الثلاث بالذّات يتم رفض نقاشها ومن ثم الاتفاق على حلول وسط بشأنها؟ وهل الورقة المصرية مدخل لمصالحة وشراكة حقيقية؟ أم هي مدخل لتغليب مشروع سياسي على مشروع آخر في الساحة الفلسطينية؟.
هذا يعيدنا إلى السّبب الرّئيس للخلاف والانقسام الفلسطيني - الفلسطيني، فالخلاف والانقسام الحادّ ناشىء عن خلاف يتعلق بخيارات سياسية متناقضة جوهرياً، وما رافقها و تبعها بعد ذلك كله تفاصيل لا أكثر ولا أقل، ومن المفيد التذكير بأنّ هذه الخلافات الجوهرية في المشاريع السّياسية موجودة في الإقليم أيضاً، وهذه المشاريع المتناقضة تعيش حالة من التّأهّب والإستعداد لمعركة قد تكون فاصلة - مع أنّ المحورين لا يستعجلان خوضها حالياً- فالمنطقة تعيش حالة فرز حاد بين أطراف متناقضة بشكل شبه تام، وهذا الفرز يتعزّز يومياً، وإمكانيات المناورة والوصول لحلول وسط تتقلّص يومياً، والغالبية في المنطقة يتّجهون ليكونوا في أحد المعسكرين - إختياراً أو قصراً- ولذلك فالأمور حالياً مرشحة للبقاء كما هي في ظل تحرّكات واجتماعات تجميلية لا أكثر ولا أقل، هدفها امتصاص الرّغبات الشّعبية والأهلية بإنهاء حالة الانقسام، إنتظاراً لما سيجري في الأيام القادمة التي ستحدد ميلان الكفّة لأيّ طرف، إلا إذا سمحت الرّباعيّتان الدّولية و العربية بالوصول لحل وسط كما جرى في الحالة اللبنانية، وهذا احتمال ضئيل جداً.