رسالة إلى شيخ الأزهر

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لعلك الآن يا فضيلة الإمام الأكبر قد تعرفت على تفاصيل مهامك ، وطبيعة عملك ، وحددت أولوياتك ، والغايات التي تريد الوصول إليها في المستقبل غير البعيد ..

بالطبع لا أحملك جريرة سبق إليها غيرك ، أو قصر فيها سواك ، كل ما آمله منك  - وفضيلتك تختلف بالضرورة عن سلفك ؛ غفر الله لنا وله – أن تكون في خندق الإسلام ولو بالصمت ، ومعاذ الله أن تفهم من كلامي ما يشير إلى حكم على الإيمان والعقيدة ، فإن ما أشير إليه وأقصده هو العمل من أجل الإسلام في قلب الظلمات التي فرضها على أمتنا معسكر الإجرام ؛ أعني معسكر الاستعمار الصليبي ، وأذرعه التي تعمل لصالحه في بلاد الإسلام مثل الصهيونية الغازية ، والنخب المحلية التي تتصدر المشهد الثقافي والسياسي، وتؤثر في الأمة تأثيرا كبيرا بحكم سيطرتها على الإعلام والتعليم والثقافة ، والتشكيلات الماسونية والعلمانية التي لا تتوقف عن الكيد للإسلام والمسلمين .. أقول إن العمل في خندق الإسلام يعني المواجهة لمعسكر الإجرام ، وتهيئة شعوب الأمة للعمل الجاد الذي هو عبادة لتحقيق الآمال والأهداف التي تعز الإسلام والمسلمين .

أعلم أن وضعك دقيق للغاية ، ولكني واثق أن نشأتك في أسرة طيبة ، وقبلها دينك الإسلامي العظيم ، وثقافتك المتقدمة ، ستجعلك تقف في خندق الإسلام ولو بالصمت ، وتفهم معي ما أعنيه بالصمت ، أعني الصمت البلاغة والحكمة  ، حين يكون الكلام الذي يوجبه الإسلام غير ممكن .

كان تصريحك الذي شرح النفوس والقلوب حول زيارة القدس التي دعا إليها فضيلة الجنرال الوزير ، حيث خالفته ، وأعلنت أنك لن تزور القدس إلا محررة ، ورفضت دعوة المسلمين خارج فلسطين المحتلة إلى عدم زيارتها تحت الاحتلال النازي اليهودي . صحيح أنك لم تطالب المسلمين بالجهاد لتحريرها ، وهو ما كان ينبغي على فضيلة الجنرال أن يدعو إليه ، ولكنك عبرت عن الممكن ، لعل الله ييسر الأمور مستقبلا ، وتعلن الفتوى الطبيعية أعني دعوة الجهاد ، التي تركها فضيلة الجنرال ، وتطوح ضمنا في حلقة الذكر التطبيعي مع الدراويش الذي يرون أن الذل بتأشيرة يهودية نازية أمر لا غبار عليه !

الأمر الذي أود أن تركز عليه ، وقد ألمحت إليه في تصريحاتك عقب توليك المشيخة هو إعادة الأزهر إلى مجده الذاهب ، وأعتقد أنك تقصد التعليم الأزهري الذي دمره القانون 103 لسنة 1961م بحجة تطوير الأزهر ، فلا صار تعليما متخصصا في الشريعة واللغة العربية ، ولا صار تعليما يشبه تعليم المدارس العامة التي لا تعبأ بالدين ولا باللغة .. وأظن أن فضيلتك عانيت مثلي من التحول الذي جري في الانتقال من التعليم الإسلامي إلى التعليم السلطاني ، وكلانا من سن واحدة ، ودخل الأزهر في توقيت واحد كما قرأت في سيرتك الذاتية .

وبالطبع لن أحلم أن تكون في وضع يشبه وضع الإمام الراحل عبد الحليم محمود رحمه الله ، ولكن أريدك أن تكون مثله في مجال التعليم الأزهري الذي ورثه هرما مقلوبا قاعدته في الجامعة الأزهرية ورأسه في التعليم الابتدائي ، فجاهد ليعدل الهرم ، وطاف المدن والقري ليفتح معهدا أزهريا في كل مكان ممكن ، وسمعته وهو يفتتح معهدا في قريتنا بأنه يتعهد بأن يزرع معهدا أزهريا في قرية مصرية وكل حي ّفي مدينة ، وقد بر بوعده أو تعهده ، وكان في كل افتتاح لا ينسى واجبه الإسلامي في مكافحة الشيوعية والعلمانية ، وكان يواجه النخب التي باعت أوطانها وتماهت مع المؤسسة الاستعمارية الصليبية ، وكانت حربا على الإسلام والمسلمين بحكم هيمنتها على وسائل الدعاية والتثقيف .  

ما أحلم به يا فضيلة الإمام هو أن تعيد التعليم الأزهري إلى ما كان عليه يوم دخلته أنت ، ودخلته أنا ، من حيث المضمون الذي يعني أن الأزهر قرآن ، وأنه لا أزهر بغير قرآن ، فالذين اقترحوا أن يحفظ الطالب القرآن على امتداد سنوات الأزهر حطموا الأزهر ، لأن النتيجة أن الذين حفظوه قلة نادرة لا تمثل في رأيي خمسة في المائة ، وحفظهم ليس جيدا ، وتعلم فضيلتك أن القرآن أساس التعليم الأزهري في الفقه والتوحيد والنحو والصرف والسيرة والتاريخ ..إلخ .والطالب الذي لا يحفظ القرآن لا يمكن أن يفقه المواد الشرعية أو العربية .. وهو ما نرى آثاره المخجلة في أئمة المساجد وخطباء الجمعة ، ومدرسي المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية ، واخشي أن أقول أساتذة الجامعة الأزهرية العريقة . كان التعليم الأزهري على عهدي وعهدك ، ينتج أئمة فاهمين ، وخطباء واعين ـ ومدرسين متفوقين ، وحدث ولا حرج عن أساتذة كليات الجامعة الذين كانوا يقودون مصر وثقافتها ، ويصنعون وعيها ومستقبلها ، وكان الأزهريون بصفة عامة نجوما في الأدب والفكر والثقافة وأجهزة الإعلام والثقافة .. ولست بحاجة إلى تذكيرك بما آلت إليه الحال اليوم ؛ ففضيلتك أعرف بها مني بحكم قربك من الجامعة والتعليم الأزهري .

هل يعقل أن يدرس الطالب الأزهري في الصف الأول الإعدادي أربعة عشر مادة في العام ، من مواد الشريعة واللغة ومواد الثقافة العامة فلا يحسن هذه ، ولا يفقه تلك ؟ كيف يدرس المواد الإسلامية والعربية قشورا لا تسمن ولا تغني ، ولا ينهض بالمواد الثقافية التي تمثل عبئا ثقيلا يدرسه وهو أصلا غير مهيأ لحمل شيء ، حيث جاء إلى الأزهر وفقا للدعاية السائدة في المجتمع أن التعليم الأزهري صار سهلا ، والطالب لا يبذل جهدا حيث ينجح ببساطة شديدة ، والامتحانات لا تمثل معضلة ، فقد صار عرفا أن يكتب المعلمون الإجابات على السبورة ، وبعضهم ينقلها خطأ ، لأنه أصلا شبه أمي لا يعرف القراءة والكتابة .. وهذا التعميم يخرج منه استثناء نادر للغاية يثبت القاعدة .

إن ما يبذل في الأزهر من جهود وما ينفق عليه من أموال يجب أن يكون في الاتجاه الصحيح المثمر ، وذلك لا يتحقق إلا بإعادة المناهج إلى ما كانت عليه يوم دخلنا أنا وأنت الأزهر ، مع تغيير طفيف يتعلق بلغة أجنبية واحدة تبدأ في المرحلة الإعدادية ، ولا بأس من تطويل سنوات الدراسة في الإعدادي والثانوي والجامعة كما كانت قبل القانون إياه ؛ مقابل التقاعد في سن الخامسة والستين ، ليكون خريج الأزهر على مستوى المهمة المكلف بها ، رساليا وخلقيا وعلميا ..إن خريج الأزهر الذي يقبل المسلمون يده خارج العالم العربي يجب أن يكون على مستوى المهمة المنوطة به ، لا أن يكون محل انتقاد وازدراء ، هل تسمع الخطباء الشباب الذين يختبرهم فضيلة الجنرال ، ويعين منهم الصفوة في المساجد كيف تكون لغتهم وأساليبهم في الدعوة والإلقاء والقراءة ؟

ثم إن إعادتك لفقه المذاهب كان خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح لإصلاح التعليم الأزهري بصفة عامة ، ولتعايش الآراء المختلفة ، أو ما تعايرنا به المؤسسة الاستعمارية الصليبية ، والنخب الموالية لها ويسمونه التعددية ، فقد عرفناها وهم يتقاتلون في أوربة مثل الوحوش الضارية قبل الحروب الصليبية وبعدها من خلال الأزهر ، بل من خلال الأئمة الذين قدموا لنا مذاهبهم وآراءهم في الفقه والتوحيد والنحو والأدب والبلاغة وغيرها من علوم  .  

وفقه المذاهب في الأزهر يعدل الميزان الاجتماعي ، ويقضى على ما يسمى التطرف ، ويربي  أبناءنا على قبول الرأي المخالف والتعامل معه بالمنطق والعقل والتدبر ..

إننا نريد تعليما أزهريا يجعل للأزهري وجودا في كل مكان يحل فيه ، ولا يجعله مجرد باحث عن كلية عملية يعز دخولها في التعليم العام فيتخرج ضعيفا يسخر الناس منه ، أو كلية تمنحه شهادة لا يستحقها ، أو يتعب من أجلها .. ولذا أدعوك – ولا تضحك يا فضيلة الإمام – أن تعيد الجراية مرة أخرى إلى الأزهر – أقصد بدلها النقدي ، وتكون مربوطة بحضور الطالب إلى معهده أو كليته ، ويمكن أن نضيف إليها سلوكه العام ، فالصورة السلوكية لطلاب الأزهر اليوم لا تسر من يحب الأزهر مثلي ويخاف عليه ، مع أنه واقعيا صار غير أزهري !

أعلم أنها مهمة صعبة خاصة إذا دعوت طلاب الأزهر إلى ارتداء الزى الأزهري الذي ترتديه وهو العمامة والكاكولة ، وقد رأيت منذ سنوات طلاب معهد شبرا الخيمة في الزي الأزهري جميعا فملأتني البهجة والأمل أن يعود مجد الأزهر بإذنه تعالى.

أختم رسالتي دون إطالة آملا أن يوفقك الله ، وألا يخرج من الأزهر المعمور تصريح يجرح مشاعر المسلمين ، فالصمت بلاغة ، والصمت حكمة حين يعز الكلام المطلوب ، والله يرعاك .