"الدولة الفلسطينية".. ولو على شبرٍ واحد

"الدولة الفلسطينية".. ولو على شبرٍ واحد!

صبحي غندور*

[email protected]

ما الممكن انتظاره من استئناف المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية في طبعتها المنقّحة الجديدة (غير المباشرة) على ضوء المعطيات الراهنة؟

قد تتضارب التحليلات والتوقّعات في محاولة الإجابة عن هذا السؤال. لكنْ أليس هناك شبه اتفاق في مجمل التحليلات على أنَّ أسلوب التفاوض وحده مع إسرائيل لم يحقّق للشعب الفلسطيني منذ توقيع اتفاق أوسلو قبل 17 عاماً أيَّ إنجاز وطني؟!

صحيح أنّ الرئيس أوباما يريد نتيجة إيجابية من جهود مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط، لاعتباراتٍ سياسية شخصية وحزبية، لكن الأهم من ذلك أنّ مصلحة الدولة الأميركية (بغضِّ النّظر عن الحاكم) تتطلّب الآن عملية تسوية سلمية في الشرق الأوسط، تشمل الجبهات السورية واللبنانية وتسمح بالانتقال إلى "شرق أوسطي جديد" يسوده تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعرب وتحت رعاية "العرَّاب" الأميركي.

أمَّا على صعيد الطرف الفلسطيني، فالحال صعبٌ جداً. إذ بينما تتطلَّب المصلحة العامة الفلسطينية الآن وقف انحدار التنازلات المتواصلة منذ اتفاق أوسلو، وإعادة بناء جبهة فلسطينية عريضة تجمع كافّة القوى الفلسطينية في الداخل وفي الشتات، فإنّ السلطة الفلسطينية، ولأسباب مصلحية شخصية وسياسية فئوية، تريد الإسراع في عملية التسوية رغم الخلل الكبير بين المفاوض الإسرائيلي القوي، والمدعوم أميركياً، وبين المفاوض الفلسطيني الضعيف إلى حدٍّ ما فلسطينياًً وعربياً.

لقد وافقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو عام 1993 ليكون حلاً لمشاكل المنظمة وليس حلاً للقضية الفلسطينية. والآن تسير القيادة الحالية على طريق حلٍّ ينقذ واقع السلطة الفلسطينية لا مستقبل حقوق الشعب الفلسطيني.

إذ هل من المؤمَّل أن يتخلّى نتنياهو عن "لاءاته" بشأن رفض الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، وإقرار حقّ الشعب الفلسطيني بالعودة، وجعل القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية المنشودة؟

أم هل من المؤمَّل لدى السلطة الفلسطينية أن تضغط الإدارة الأميركية على إسرائيل من أجل هذه المطالب؟ علماً أنّ الكونغرس الأميركي بغالبية أعضائه في مجلسي الشيوخ والنواب يقف مع إسرائيل، ويرفض أيَّ ضغطٍ من إدارة أوباما على الحكومة الإسرائيلية؟!

فإذا كانت إسرائيل لا تريد أن "تمنح" السلطة الفلسطينية المطالب والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.. وإذا كانت السلطة الفلسطينية لا تريد أن "تمنع" نفسها عن المزيد من انحدار التنازلات .. وإذا كانت الإدارة الأميركية لا تريد الآن أن "تضغط" على أيٍّ من الطرفين بشكلٍ محرجٍ لهما .. فما المتوقَّع إذن من نتائج استئناف المفاوضات؟

الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قال أكثر من مرَّة (قبل وبعد اتفاق أوسلو) أنّه يريد "بناء دولة فلسطينية ولو على شبرٍ واحد من أرض فلسطين". وربّما يكون هذا ما ستمنحه فعلاً الآن أميركا ولن تمنعه إسرائيل!! وذلك من ضمن "اتفاق إطار عام" يتمّ الإعلان عنه في مطلع الخريف المقبل ويشير إلى المسائل الرئيسة دون أيّ التزام إسرائيلي محدّد بشأنها سوى إجراءات تمهيدية؛ كإطلاق عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، وإنهاء بعض الانسحابات المقرّرة في الاتفاقات السابقة (المناطق المقسّمة إلى ألف وباء وجيم) وربّما أيضاً من منطقة أبوديس التي قد تجعلها السلطة الفلسطينية مقرّاً ومنطلقاً لعاصمة "الدولة الوليدة"!.

أي التمهيد لإعلان "الدولة الفلسطينية" على قِطَع الأراضي المبعثرة التابعة حالياً للسلطة الفلسطينية، والقول إنّ هذه "الدولة الوليدة" ستستكمل لاحقاً التفاوض على المسائل الكبرى، بحيث تتحقّق نتيجة أولية من "اتفاق الإطار العام" يكون فيها إرضاء للسلطة الفلسطينية، وإزالة للاحتقان الموجود الآن في المنطقة وفي الشارع الفلسطيني، وحفاظ على قيادة السلطة الفلسطينية، كما فيها أيضاً مبرّرات عربية ودولية لعقد "مؤتمر دولي" جديد (قد يكون في موسكو هذه المرّة) برعاية أطراف اللجنة الرباعية، لبدء مفاوضات عربية/إسرائيلية شاملة تستهدف توقيع معاهدات إسرائيلية مع سوريا ولبنان، وتعمل من أجل التطبيع العربي الشامل مع إسرائيل.

فالهدف الأميركي الآن – حسب تقديري – هو فتح الباب لإعادة تحريك المسار السوري/الإسرائيلي، ودعوة الطرفين لجولة مفاوضات جديدة تحقّق تمنيّاتٍ أميركية بسياسة سوريَّة أقل علاقة مع إيران وأكثر انسجاماً مع السياسة الرسمية المصرية الداعمة للسلطة الفلسطينية في مواجهة المنظمات المعارضة لها.

إنّ الظروف القائمة الآن تساعد كلّها على عقد مؤتمر دولي جديد في الخريف القادم يجعل من "المبادرة العربية للسلام" مبرّراً دافعاًً لهذا المؤتمر. فإدارة باراك أوباما بدأت عهدها بتأكيد الاهتمام بملفّات الصراع العربي/الإسرائيلي، وبالنّظرة الإيجابية للمبادرة العربية، وبأنّها أعطت أولويّة لهذا الأمر من خلال اختيارها السناتور جورج ميتشل ليكون موفداً خاصّاً لمعالجة ملفّات هذا الصراع، وهو يواصل جهوده رغم "الصدمات" الإسرائيلية المتكرّرة.

وقد استمرّ، حتى على المستويين العربي والفلسطيني، النهج الذي يراهن حصراً على أسلوب المفاوضات مع إسرائيل، والذي يتمسّك بشرعية قيادة السلطة الفلسطينية وحدها ويرفض أسلوب المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل.

الأولويّة الآن حتماً هي لإنهاء الانقسام داخل الجسم الفلسطيني وفق ترتيبات تفرز حكومة وحدة وطنية، وتوافق على هدنة أمنية مع إسرائيل بينما تجري معها المفاوضات الفلسطينية التي ستكون من مسؤولية قيادة السلطة لا غيرها، بحيث يكون قرار المقاومة الفلسطينية إعطاء مهلة زمنية لهذه المفاوضات في ظلّ المتغيّرات الممكن حصولها واحتمالات الجدّية الدولية في التعامل مع مضامين المبادرة العربية.

فجميع الأطراف الآن أمام معادلة تقول: لا إمكانية لإنهاء المقاومة ولا لتجاوزها أو تجاهلها. في المقابل: لا إمكانية لتغيير جذري في الموقف الرسمي العربي أو الفلسطيني، ولا لتجاوز دور قيادة السلطة أو تجاهل الدعم الدولي والعربي لها!!

هي الآن معادلة توازن "اللاءات" بعدما ثبت أيضاً فشل أهداف الحرب الإسرائيلية على غزّة، وقبل ذلك فشل الحرب على المقاومة في لبنان، بل وخروج المقاومة منها أقوى عسكرياً وسياسياً.

لكن تبيّن أيضاً أنّ هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها من قبل الداعمين للمقاومة، كما ظهرت حدود أخرى أمام من يرفضون نهج المقاومة.

في المحصّلة، يبدو أنّ إدارة باراك أوباما، التي لم تأخذ حتماً بنهج إدارة بوش الابن في الشرق الأوسط، تعود في سياستها بالمنطقة إلى النهج الذي كانت عليه الإدارة الأميركية في فترتيْ جورج بوش الأب وبيل كلينتون من تشجيع على تسويات سياسية، مع ضغوط على عدّة أطراف عربية لمباشرة خطوات التطبيع مع إسرائيل دون انتظار لنتائج المفاوضات.

إنّ العائق الأكبر الآن، إمام مشروع إدارة أوباما للتسوية الشاملة في الشرق الأوسط، هو الحالة الإسرائيلية وما فيها من حكومة مراهنة على التصعيد العسكري في المنطقة عموماً، ومن رفضٍ للحدِّ الأدنى الذي تطلبه واشنطن من تسهيل لمسارات التفاوض.

إنّها مجرد توقّعات مبنيّة على معطيات الواقع الرسمي العربي بانتظار بناء معطيات جديدة في الواقع الشعبي العربي!.

              

*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)