الطوارئ.. خنجر في قلب الشعب

الطوارئ.. خنجر في قلب الشعب

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

السادة الكبار الذين يعضون على الحكم بالنواجذ ، ويتمسكون به بعد أن ذاقوا عسيلته ، هم وأتباعهم وحواريوهم ، لا يستحون أن يصفوا نظامهم بأنه أزهى عصور الحرية والديمقراطية . وأقول لا ضير ... فقد صدق من قال " إذا لم تستحي فافعل ما شئت وقل ما شئت " . وأمثالهم يغفلون ، أو يتغافلون عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم " الحياء شعبة من الإيمان " .

 والسيد المبجل جمال محمد حسني مبارك سئل من أيام عن قانون الطوارئ : هل سيلغى ، أم يمد ؟ فكان جوابه : " ... حتى لو جدد العمل به مرة أخرى ، فلن يكون ذلك إلا بضوابط حاسمة فلا يطبق إلا على الإرهابيين ، ومن على شاكلتهم .

وتحت عنوان :

 " مصر تشهد حراكاً سياسياً كبيراً وحرية غير مسبوقة " صرح أحمد نظيف في مؤتمره الصحفي الحاشد بمبالغات غالطة ، يهمنا منها تصريحه الآتي :

حول موقف الحكومة من قانون الطوارئ‏,‏ أوضح رئيس مجلس الوزراء أن هذا الموقف سوف يتحدد خلال أيام‏,‏ وقال‏:‏ إن القانون لن يتم مده بشكله الحالي‏.‏

 وكلام جمال مبارك ، وتصريح رئيس الوزراء ليس جديدا ، بل هو تكرار لكلام الحاكم الأعلى محمد حسني مبارك الذي يحكم مصر بالطوارئ من 29 عاما حتى الآن . وهي حقيقة فاض بها في حديث مع صحيفة لوفيجارو الفرنسية ، ونحن ننقل سطورا منه كما جاءت في الأهرام بتاريخ 25 / 3 / 2005 :

 " مبارك في حديث لصحيفة لوفيجارو الفرنسية‏ :‏

‏ ‏‏*‏ لماذا لا يمكن إلغاء قانون الطوارئ الذي يعمل به في مصر منذ عام‏1981‏ ؟

الرئيس‏:‏ إنه من أجل مكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات‏..‏ إننا لانستخدم إلا المواد المتعلقة بالإرهاب‏.‏ إنه خطر نتعامل معه بجدية ويجب أن نأخذ حذرنا كما تفعل الدول الأخري ففي مصر‏,‏ فقط الاسلاميون هم الذين يطلبون إلغاء هذا القانون‏,‏ ولكن لن اسمح أبدا بانتشار الفوضي‏.‏

‏*‏ المعارضة تدعو الي خفض السلطات الرئاسية والحد من فترة الحكم؟

الرئيس‏:‏ في حالة انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر‏,‏ فإن الحد من فترات الحكم ستكون بمثابة عائق أمام رغبة الشعب ، أما بالنسبة للحد من سلطات الرئيس‏,‏ فإن ذلك سيعني إعطاء الرئيس دورا شرفيا‏,‏ إن رئيس الجمهورية هو الضمان لتحقيق الاستقرار " ‏.‏

 وواضح أن هذه الإجابات تعني إصرار مبارك على حكم الشعب بالطوارئ ، وأنه متمسك بالحكم إلا أن يلقى الله .

 والنظام المباركي لا مثيل له في العالم : هل هو نظام جمهوري ؟ أم هو نظام ملكي ؟ أم هو ــ كما أطلقنا ــ نظام جمهوملكي ، فهو نظام لا مثيل له في العالم كما ذكرت.

 جمال مبارك بمنطقه يسير على درب أبيه ، ومن شابه أباه فما ظلم . وصدق الشاعر الذي قال :

 وينشأ ناشئ الفتيان منا = على ما كان عوده أبوهُ

 وللأسف نجد الرئيس يكرر : أن العالم كله يأخذ بقانون الطوارئ في الظروف التى تماثل أحوالنا .

 **********

 وقد استقرأ الأستاذ أحمد الدراج إعلان حالة الطوارئ ، وخرج من الاستقراء بالنتائج الآتية :

 إعلان حالة الطواريء في فرنسا التي تعرضت لمظاهرات ضخمة لم يقبل المجتمع الفرنسي استمرار هذه الحالة أكثر من 12 يوما وعادت بعدها القوانين الطبيعية إلى سابق عهدها، ولم تستطع الحكومة اليونانية فرض قانون الطواريء أكثر من شهر على الشعب اليوناني- الذي خرج عن بكرة أبيه للتظاهر إبان قتل شرطي لأحد الشباب، وحتى في الولايات المتحدة وإنجلترا وأسبانيا رغم تعرضها لحوادث إرهابية لم تتمكن حكوماتها من إعلان حالة الطواريء لمدة عام واحد، أما في مصر فحالة الطواريء لم ترفع منذ أكتوبر عام 1981، وهي فترة حكم الرئيس مبارك بالتمام والكمال، وهذا يعني أن نظام مبارك لم يستطع إدارة الدولة بدون فرض الطواريء للحظة واحدة حتى أثناء نوم الشعب، ترى لماذا ؟.

 ونضيف إلى ما ذكره حقيقة أخرى وهي :

 أن ونستون تشرشل (30 نوفمبر 1874 - 24 يناير 1965). وهو الذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا عام 1940واستمر فيه خلال الحرب العالمية الثانية . واستطاع أن يحقق النصر المبين لبريطانيا . وبعد الحرب خسر الانتخابات سنة 1945وأصبحَ زعيمَ المعارضةِ ، ثم عاد إلي منصب رئيسَ الوزراء ثانيةً في 1951 وأخيراً تَقَاعُد في 1955.

 وخلال سنوات الحرب طلب منه أن يعلن الأحكام العرفية ، فرفض ، وقال كلمته المشهورة : أنا لا أجعل شعبي يكتوي بنارين : نار الحرب ونار الأحكام العرفية .

 **********

 ولكننا نجد فحلا من فحول الحكم وقائدا مشهورا في الحزب الوطني يصرح بكلمات تبين عن وجهه ووجه النظام القائم الخانق : هو مفيد شهاب وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية ، فمن أقواله :

 ــ احمدوا ربنا علي «الطوارئ».. والبلد لا يستطيع الحياة دونه لشهر واحد

 ـ إقرار مد حالة الطوارئ، لمدة عامين آخرين تنتهي في ٣١ مايو ٢٠١٠، أو لحين الانتهاء من إعداد قانون مكافحة الإرهاب، أيهما أقرب

 ـ الهدف من الطوارئ توفير قدر أوفر من الوقت لدراسة قانون يحقق التوازن بين الحفاظ علي حقوق المواطن وأمن وسلامة الوطن.

 ـ لو عرفتم حجم الجرائم التخريبية التي تم إجهاضها قبل حدوثها، وعدد التنظيمات المتصلة بالخارج، خصوصاً تنظيم القاعدة، لقلتم: «الحمد لله إن قانون الطوارئ موجود»، مشيراً إلي أنه لم يتم الإعلان عن هذه الجرائم منعاً للشوشرة علي سمعة مصر، وحتي لا يقال إن مصر غير مستقرة.

 ــ لا أستطيع أن أعيش دون قانون إرهاب أو طوارئ، ولو لشهر واحد، لأن وقوع أي عملية إرهابية «توديني في داهية»، وتضيع اقتصاد البلد كله .

 والذي يجهله مفيد شهاب ، أويتجاهله هو ومن علي شاكلته أن في مصر " قانونا لمواجهة الإرهاب " من سنة 1992 ، نشر بالجريدة الرسمية بالعدد 29 مكررا بتاريخ 18 / 7 / 1992 . والقانون المذكور فيه دقة في الصياغة ، وقدرة وشمول في التعامل مع مظاهر الإرهاب المختلفة ، فهو قانون كاف شاف .

 ***********

 ومن مساوئ قانون الطوارئ ما ذكره الأستاذ فهمي هويدي في مقال كتبه يوم 2442010 جاء فيه :

 إن طول العهد بتطبيق قانون الطوارئ أقنع أجيالا من العاملين فى الأجهزة الأمنية بأنهم فوق القانون العادى، وأن أيديهم مطلقة فى التعامل مع الناس، خصوصا المعارضين السياسيين. ولدى تلك الأجيال اقتناع بأن مجرد وجود أولئك المعارضين خطأ يتعين علاجه بكل السبل. وهذه الحالة استشرت بمضى الوقت، فى ظل التلاحم المتزايد بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية والحزب الوطنى، من ثم فإن ثقافة الطوارئ الإقصائية والاستئصالية أفرزت لنا أجيالا أخرى من الموظفين الرسميين يمكن أن نسميهم «أبناء الطوارئ» الذين يعتبرون أن الوطن ملك لهم وأنهم فى غنى عن غيرهم.

 وفي صحيفة الشرق القطرية بتاريخ 3 مايو 2010 في مقال له بعنوان " عار الطوارئ " جاء فيه :

 وأغلب الظن أن المؤرخين والباحثين سوف يحتارون كثيرا في تفسير قبول المصريين واحتمالهم العيش في ظل الطوارئ دون انقطاع طوال تسع وعشرين سنة، وهي سابقة لم تحدث في التاريخ المصري،

 وينقل الأستاذ هويدي عن الأستاذ طارق البشري :

 ... إن حالة الطوارئ التي نحن بصددها غاية في الغرابة ولم يعمل لها علماء المنطق حسابا، إذ إنها حالة أمرين متنافيين، كل منهما ينفي الآخر في الواقع، لكنهما يجتمعان معا ولا يرتفعان.

ذلك أن الطوارئ من شأنها أن تنفي الدستور، كما أن الدستور من شأنه أن ينفي حالة الطوارئ، لكنهما مع ذلك يوجدان معا في حياتنا السياسية، التي صرنا نسميها أزهى عصور الديموقراطية.

 **********

 والمعروف في الفقة الدستوري الفرنسي أن نظرية الظروف الاستثنائية ولدت أثناء الحرب العالمية الأولى تحت اسم " نظرية سلطات الحرب " بمناسبة قرارين صدرا من مجلس الدولة Heyries في 28 حزيران 1918 وأتاحت بدون نص يسمح بذلك أو بعيدا عن النصوص توسيع سلطات الإدارة ضمن ثلاثة شروط :

1-       أن يكون هناك وضع استثنائي حقيقي ، ويجب أن يكون هذا الطابع مقدرا بشكل صحيح . ولم تتوسع سلطات الإدارة إلا في الوقت والأمكنة حيث توجد فعليا ظروف من هذه الطبيعة ... ( حرب ، وخراب ، وكذلك كارثة طبيعية... الخ ) . ولا يؤدي ذلك إلى أن يطبق القاضي أليا نظرية الظروف الاستثنائية بل يراجع مجلس الدولة .

2-       على الإدارة في الواقع أن تقدم الدليل على أنه كان يستحيل عليها التصرف وفاقا بمبدأ الشرعية ، بسبب العجلة في التصرف .

3-                   يقدر القاضي ما إذا كان الخطر مهما بما فيه الكفاية لتسويغ العدول عن مبدأ الشرعية .

(أنظر أوليفيه دوهاميل – ايف ميني : المعجم الدستوري 710 / 711 ).

**********

 ولكن الواقع عندنا يقول بحسم إن القوانين الاستثنائية تطبق على شعبنا المسكين حرصا على حماية الحكم القائم ، لأن القائمين عليه يعلمون تمام العلم أن الرجوع إلى القوانين العادية ، وتطبيقها بإخلاص وضمير بعيدا عن التزوير والكذب والمغالطات ستكشف سوءات حكم الحزن الوطني ، الذي لا يمثل أكثر من 1 % أو 2 % من مجموع الشعب المصري بكل فئاته ، وهذه النسبة تمثل الهبارين ، والهباشين ، والنفعيين ، والطبالين والزمارين .

 والحرص على هذه القوانين الاستثنائية يعد استهانة بالشعب ، وتحقيرا لوعيه ، وتشكيكا في قدرته على أن يعيش لوطنه مخلصا وأمينا ، وعلى السادة الكبار ألا ينسوا أن مصر عاشت أمة الحضارة والتنوير من قرون مضت ، ومصر أنجبت أعلم رجال القانون ، ومنهم من وضع دساتير بعض البلاد العربية .

 مصر الكنانة يحكمها العساكر من 29عاما بقانون الطوارئ ...قانون الشذوذ والظلم والجبروت , وتكريس السلطان الواسع في يد الأمن والسلطة التنفيذية . وكان من المفروض أن ينتهي العمل بهذا القانون الظالم آخر مايو 2008 .ولكن شعبنا المطحون فوجئ بقرار مبارك بمد العمل بهذا القانون إلى 31 5 2010 . وطبعا وافق أعضاء مجلس الشعب ممن ينتسبون للحزب الوطني ....حزب الحكومة ...والتزوير ...والظلم والنفعية . وهكذا سقطت مصر من جديد في الظلام المرير . وما زال شعبنا ينتظر جديدا من التعذيب والضياع فيما يسمونه " قانون مكافحة الإرهاب " .

 وأنا على يقين أن القرار المباركي المنتظر "يلغى العمل بقانون الطوارئ ، ولا يطبق إلا على الإرهاب والإرهابيين ، وتجار المخدرات " ، أوعبارة بهذا المعنى .

والفرق بين هذه الصيغة وما سبقها إنما هو ــ كما يقول النحاة ــ خلاف لفظي . فالإرهابيون ــ في التفسير المباركي ــ هم الإخوان المسلمون . وقد وصفهم الوزير "المحترم جدا" مفيد شهاب بأنهم " أخطر على مصر والعرب من إسرائيل" :

فعضو جماعة الإخوان المسلمين "إرهابي" لأنه ينتسب لجماعة " محظورة"، والباقي معروف : ضبط نشرات ودسكات تخطط لخوض الإخوان انتخابات مجلس الشورى ... الخ . وطبعا التهم جاهزة ... غسل الأموال ... الاتصال بأنظمة ودول خارج مصر ...العمل على إثارة الجماهير ضد النظام ... إثارة الفتنة الطائفية ...الخ.

 **********

وخلاصةالمساوئ التي تثقل قانون الطواررئ :

 1 أنه يهدف أساسا إلى حماية النظام الحاكم وأصحاب الكراسي ، على حساب التضحية بحرية الشعب وقيمه .

 2 ــ ــ أن دلالته الواضحة وصْم الشعب بنقص الأهلية ... بل انعدامها . ولاننسى أن أحمد نظيف أعلن ــ من بضع سنين ــ أن شعبنا غير مهيأ ــ نفسيا وثقافيا ــ للحكم الديموقراطي .

 3 ــ أنه تمخض عن طبقات من العتاة وأصحاب النفوذ الواسع احتكروا السلطان والعبث بمقدرات الشعب ، لصالحهم ، وصالح الحكام .

 **********

 وفي النهاية أقول : إن المباركيين بإصرارهم على خنق الشعب بقانون الطوارئ إنما يدفعون أنفسهم بأيديهم إلى هاوية النهاية . ولا أنسى ما قاله أحد الأساتذة : إذ سئل عن طبيعة الحكم القائم ، فجاء جوابه بالنص الأتي :

 إننا نعيش عصر " البالونات " المنفوخة المنفوشة في مظهرها ، وشكة دبوس واحد يفرغ ما فيها من هواء ، ويجعلها في حجم كف طفل رضيع .

" وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ( 43) إبراهيم (42 ، 43 ) .