في ذكرى شهداء السادس من أيار
في ذكرى شهداء السادس من أيار
محمد فاروق الإمام
قلة من العرب من يعرف أن إعدام مجموعة من الأحرار الذين علقوا على أعواد المشانق في بيروت ودمشق كان بدافع ماسوني وصهيوني واضح الدلالة لجمعية الاتحاد والتّرقي التي استولت على الحكم في اسطنبول، بعد الإطاحة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني الحاكم الشرعي للبلاد، وشكلت وزارة اتحادية متطرفة في 23 كانون الثاني عام 1913م، وأشاعت جواً من الإرهاب والتعسف والظلم, والفساد والجوع والفقر المدقع في معظم الولايات العثمانية ومنها بلاد الشام.
وكثير من العرب والمؤرخين – عن قصد أو غير قصد - يربطون اسم السلطان عبد الحميد الثاني بهذا الظلم وهذا الفساد الذي استشرى في جسد دولة الخلافة العثمانية المترامية الأطراف (من إيران شرقاً وحتى المحيط الأطلسي وجنوب النمسا غرباً، ومن روسيا شمالاً حتى اليمن والسودان جنوباً).
وقلة من العرب من يعرف أن ما ألصق بهذا الخليفة العثماني المفترى عليه من تهم باطلة كانت لا ترقى إلى الحد الأدنى من المصداقية.. فقد تسلم هذا السلطان حكم الدولة العثمانية والأعداء يتكالبون عليها من كل حدب وصوب، وتحاك لها المؤامرات في دهاليز بغاة الشرق والغرب يريدون استئصال هذه الدولة العظيمة الشامخة التي حملت عن جدارة لقب (دولة الخلافة الإسلامية) لأكثر من أربعة قرون، ومن خلالها دانت لها أمم الشرق والغرب صاغرة أو طائعة وفتح قادتها العظام القسطنطينية ومعظم دول شرق أوروبا وحتى أبواب فينا، وأقاموا في تلك البلاد منارات العلم والهدى حتى راح النداء الخالد (الله أكبر.. الله أكبر) يُسمع في معظم دول أوروبا.
وقد تمكن هذا الخليفة العظيم أن يصمد أمام هجمة الغرب والشرق الشرسة دون تفكك هذه الدولة العظيمة لأكثر من ثلاثين سنة رغم تآمر الشرق بقيادة روسيا والغرب بقيادة بريطانيا والدوائر الماسونية، التي ملأت عواصم الدنيا بمحافلها، مجندة أموالها وعتاة مفكريها وأبالستها للنيل من هذه الدولة والقضاء على آخر خلافة إسلامية، إلى أن تم لهؤلاء الأعداء نخر جسد هذه الدولة العظيمة من داخلها عن طريق حفنة من المغامرين الذين تربوا على موائد الماسونية في سلانيك، ونجحوا في نهاية المطاف من تقويض هذه الدولة التي بقيت عصية على الشرق والغرب لأكثر من أربعة قرون.
وحتى لا ننسى.. ومن حق هذا الخليفة العظيم علينا أن نذكّر أبناء العروبة والإسلام بموقف هذا الخليفة المؤمن الشجاع والتي كانت السبب المباشر في الإطاحة به وعزله، موقفه من فلسطين ومنعه اليهود الصهاينة من الاقتراب من ترابها أو وضع أقدامهم على أرضها.
فعندما عقد اليهود مؤتمرهم الصهيوني الأول في (بازل) بسويسرا عام 1897، برئاسة ثيودور هرتزل (1860-1904) رئيس الجمعية الصهيونية، اتفقوا على تأسيس وطن قومي لليهود الصهاينة، وأصر هرتزل على أن تكون فلسطين هي الوطن القومي لهم، فنشأت فكرة الصهيونية، وقد اتصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد مرارًا ليسمح لليهود بالانتقال إلى فلسطين، ولكن السلطان كان يرفض، ثم قام هرتزل بتوسيط كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلة بالسلطان أو ببعض أصحاب النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيط بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يفلح، وأخيرًا زار السلطان عبد الحميد بصحبة الحاخام (موسى ليفي) و(عمانيول قره صو) رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد مقدمات محشوة بالرياء والخداع والمكر، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءات المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالاً طائلة مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالف سياسي يُوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضده في صحف أوروبا وأمريكا. لكن السلطان رفض بشدة وطردهم من مجلسه وقال: (إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل، إن أرض فلسطين ليست ملكي إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع وربما إذا تفتت إمبراطوريتي يوماً، يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل)، ثم أصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين.
وهكذا دفع هذا السلطان العظيم ملكه وحياته ثمناً لفلسطين لتبقى أرض طاهرة نقية كما أرادها الله سبحانه وتعالى، وعجز العرب اليوم بكل ما يملكون من أسلحة وجيوش وثروات من المحافظة عليها أو الحيلولة دون التوسع الصهيوني واستيطانه في عقر دارهم يوماً بعد يوم.
ونعود لشهدائنا الأبرار الذين كانوا ضحية لحكومة ورجال الاتحاد والترقي التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد وتسلمت الحكم في اسطنبول.
فقد تم تعيين السفاح أحمد جمال باشا (أحد زعماء جمعية الإتحاد والتّرقي) قائداً للجيش الرابع التركي في سورية عام 1915، والذي حاول أن يغزو مصر في 2 شباط عام 1915 مخترقاً صحراء سيناء, فأخفق في حملته إخفاقاً ذريعاً نتيجة لسوء تقديره وسوء إدارته. وهذا الإخفاق ولّد عنده رغبة جامحة في الانتقام. فقام بتكميم الأفواه، ومارس الظلم والبطش بحق المواطنين في بلاد الشام بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية.
وصب جام غضبه على الزعماء الوطنيين الأحرار والمفكرين العرب والأدباء فاعتقلهم ونكّل بهم وعذّبهم حتى الموت, وبدأ مجازره بإعدامهم قافلة بعد قافلة، فكانت أول قافلة ضمت أحد عشر مفكراً وقومياً أعدمها في ساحة المرجة بدمشق في 21 آب عام 1915، وختمها بإعدام ثلاثة عشر قومياً مناضلاً في ساحة البرج في بيروت في السادس من أيار عام 1916، وقد حاول الأمير فيصل بن الحسين الحيلولة دون تنفيذ الإعدام بهذه الثلة من المفكرين ومثقفي الأمة ولكنه أخفق في ذلك لتعنت جمال باشا ورغبته الجامحة في سفك دماء العرب، لدرجة أنه فر من دمشق خوفاً على حياته من هذا المتوحش المتعطش للدماء.
وعلى إثر هذه المجزرة انطلقت شرارة الثورة العربية الكبرى بقيادة الحسين بن علي التي أنهت حكم هؤلاء المغامرين المتعطشين للدماء لبلاد الشام ودخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق متتبعاً فلول عصابة الاتحاديين حتى الأناضول وأنهى وجودهم في بلاد الشام وأزاح كابوسهم عن صدر أبنائها، ورفع راية الثورة العربية خفاقة على ساريات الوطن من حلب وحتى القدس مروراً بدمشق وبيروت.