هبة النيل

صلاح حميدة

[email protected]

"مصر هبة النيل" هكذا قيل ...هكذا هي الحقيقة بلا تحوير... مصر عبر التاريخ بنت حضارة عالمية....وبنى المصريون عجيبة من عجائب الدّنيا...وهي مصر " أمّ الدّنيا" وهي مصر " الكنانة" كنانة العرب والمسلمين....مصر الموقع الجيوسياسي...مصر قناة السويس... مصر الاشعاع الثقافي والدّيني والفكري والفنّي والسياحي...مصر المؤهّلة للقيام بدور مركزي دائماً.....هكذا هي وهكذا يلقى على عاتقها من مسؤوليات... وهكذا ينشد منها الجميع.

يكاد يجمع غالبية المحللين على أنّ مصر تمر بمرحلة من التّراجع على كافّة المستويات بعد التّنكّر لماضيها العروبي والاسلامي من قبل نخبتها السّياسية الحاكمة، وبالرغم من أنّ هناك من يدّعي أنّ التّنصل من البعدين العروبي والاسلامي- يضاف لهما البعد الافريقي والعالمي- إنّما هو انكفاء نحو الفرعونية، إلا أنّ هذا مجاف للحقيقة، فالفرعونية القديمة هي فرعونية حضارية تؤثّر في محيطها الحيوي ولا  ولم تتحوصل على ذاتها، بل كانت دائماً مؤثرة إيجابياً في محيطها، وهذا ما جعلها حضارة يتغنى بها الجميع.

إنكفاء النّخب المصرية الحاكمة على التاريخ والجغرافيا والسياسة الاقليمية و العالمية، ورهنها لكافة أوراقها بيد صنّاع السياسة الأمريكية، أغرق مصر في مشاكل أكبر بكثير من تلك التي كانت ستواجهها لو أنّها تحمّلت مسؤولياتها التي من الطبيعي أن تقوم بها، فمصر تعاني من مشاكل كثيرة، منها ما يتعلق بالمشاركة السياسية  وتفشّي الفقر والبطالة والفساد والدكتاتورية، وتغوّل الأجهزة الأمنية على الحياة العامة والخاصة، وتدخّلها في الحراك السياسي والدّبلوماسية والقرارات المصيرية بطريقة سلبية، وتظهر التّقارير الحقوقية تراجعاً كبيراً في الحريات العامة وزيادة انتهاكات حقوق الانسان في مراكز التوقيف المصرية، وشبه تغييب للقضاء، واحتكار قلة من التّجار للسلع الأساسية وبيع الغاز المصري للدولة العبرية بأقل من ثمنه، وتدخّل المستوى السياسي حتى في الفتاوى الدينية.

طبعاً لا يمكن إغفال المشاكل التي يعاني منها المزارع المصري والعامل المصري وسكان المقابر والعشوائيات، وهجرة الكفاآت العلمية،  وتراجع الانتاج الفكري والفني والأدبي المصري، ويترافق مع كل ذلك فقدان الكثير من العرب - شعوباً ودول- للثقة بالدّور المصري الرّيادي الذي كان يحمل هموم وطموحات الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وظهور النّخبة السياسية الحاكمة فيها  بمظهر الأداة الأمريكية - الاسرائيلية في المنطقة التي تفرض نفسها قصراً على الواقع العربي، بل أنّ الكثير من المحللين يرون أنّ تمدد الأدوار الاقليمية لدول غير عربية في العالم العربي، يعود بشكل رئيس إلى هذه السّلبية القيادية المصرية، واستنكافها عن أداء دورها المطلوب عربياً.

لن نستطيع حصر  المشاكل الدّاخلية والخارجية المصرية التي نشأت بعد التّحوصل حول الذّات والتّنكر للدور المنوط بمن يحكم مصر للماضي والحاضر والمستقبل، ولكن من المؤكّد أنّ كل المشاكل السّابقة التي تأكل مصر بكافة مستوياتها من الدّاخل والخارج، لا تقارن بالخطر الحالي  على وجودها واستمرارها  كدولة، الذي يتمثّل بقرار دول المنبع لنهر النّيل، بإعادة  تقسيم حصص المياه بين دول المنبع ودول المصبّ. فالنّيل  هو شريان الحياة الوحيد لمصر - مصر الدولة والشّعب والنّظام الحاكم- فمنع الماء عن مصر يعني انتهاءها نهائياً، وتحوّلها إلى صحراء قاحلة بلا سكّان، ولا يمكن فهم قرار دول المنبع  بحسن نية، فهذه الدّول لا تعتمد على مياه النّيل إستراتيجياً في احتياجاتها اليومية إلا بنسب لا تزيد عن ال 6% في أعلى حالاتها، وبالتّالي فمصر والسّودان هما الدّولتان اللتان تحتاجان لمياه النّيل بحق، بالنّسب المنصوص عليها في المعاهدات الدولية وربّما أكثر.

يربط الكثير من المراقبين بين قرار دول المنبع هذا ضد مصر، وبين الجولات المكوكية لوزير الخارجية الاسرائيلي ليبرمان فيها، وتزايد التعاون والتنسيق فيما بينها، واستعداد دولته  لدعم مشاريع بناء سدود في تلك الدّول، بل الضّغط على دول أوروبية لدعم بناء السّدود ومشاريع زراعية ومشاريع لتوليد الطّاقة هناك، وياتي هذا التّمدد الاسرائيلي بعد الغياب والتّحوصل المصري عن تلك الدّول، والغريب أنّه في الوقت الذي تستميت فيه النّخبة المصرية الحكمة في حماية أمن الدولة العبرية وتبني جداراً فولاذيا لمنع تدفّق السلاح  لأعدائها، بل ينسب لها - من مصادر أمريكية وإسرائيلية- أنّها تنشط بدور يخدم تلك المصالح إقليمياً ودولياً، إلا أن الدّولة العبرية تنشط نشاطاً محموماً للقضاء على مصر كدولة  وليس فقط مضايقتها  وابتزازها، ففي أسوأ الكوابيس لا يمكن تصوّر مصر بلا مياه النّيل.

من الواضح أن دول المنبع، وعلى رأسها أثيوبيا، تسير باتّجاه تصادمي مع "هبة النّيل" ومعها السّودان، ومن الواضح أيضاً أنّ القيادة المصرية ومعها السودانية أمام خيارات مصيرية، ولا بد أن تستشعر القيادات السياسية والأمنية والاعلامية والاقتصادية والشعوب في هاتين الدّولتين أنّها أمام خيار الحياة أوالموت، وبالتّأكيد أنّ هذا القرار يجب أن يدفع "هبة النّيل" والسّودان إلى  تقارب يعيد الأمل لما كان يعرف سابقاً " بوحدة مصر والسّودان"  إن لم يكن دمجاً فهناك وسائل أخرى كثيرة كفيلة بإعادة الهيبة لهذه الكتلة الجغرافية والسياسية والاقتصادية في المنطقة، ويجب أن يعيد هذا المستجدّ الخطير، تقييم طبيعة النّظرة المصرية لتكاملية وعضوية العلاقة مع السّودان ومشاكل السّودان، وخاصة مشكلتي الجنوب ودارفور، وألا تترك القيادة السّودانية تواجه مصيرها أمام نهش القوى الدّولية والحماقات الدّاخلية.

داخلياً، لا بدّ أن تعيد القيادة المصرية تقييم سياساتها، وأن تعيد ترتيب أولوياتها نحو الوحدة الوطنية، وإطلاق الحرّيات، وتجنيد كافة طاقات وخبرات وكفاآت الشّعب المصري، حتى تواجه التهديدات الخارجية  بكفاءة وقوة، تمنع عنها الابتزاز الخارجي، وتعفيها من تكاليف القمع والاضطهاد الداخلي، وهذا يحتاج لنوايا صادقة وبعد عن الأنانية، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، بل هنا يتداخل الخاص مع العام بشكل اندماجي، فلن يستطيع أحد أن ينجو بنفسه بدون الآخرين لو تم تنفيذ ما يخطط له.

بالتّأكيد لمصر خيارات أخرى، فمصر تستطيع أذيّة من يؤذيها ويسعى لإبادتها، ويطوف دول المنبع لمنع الماء عنها، وهي تستطيع سياسياً وإعلامياً وميدانياً أذيته وإحباط مرامي سياساته العدوانية على حدوده الجنوبية، مثلما يسعى لإبادتها والمسّ بها من حدودها الجنوبية، وهذه لا تحتاج لتفصيل، فقد أشبعت نقاشاً وتحليلاً.

أمّا أثيوبيا ، رأس الحربة في التّآمر على مصر في أفريقيا، ومتزعّمة  ما يتم الآن من محاولات لفرض اتفاقية جديدة لتوزيع الماء بين دول المنبع والمصبّ، فهذه لها أياد كثيرة تستطيع من خلالها مصر إيلامها منها وبشدّة، فمصر تستطيع التّأثير على دولة جيبوتي العربية  لمنع تصدير واستيراد البضائع الأثيوبية من خلالها، فأثيوبيا ليس لها موانىء بحرية، وهي في عداء مع محيطها الشرقي باسثناء  جيبوتي، وتستطيع مصر - عبر جيبوتي- إيصال رسالة سياسية واقتصادية لأثيوبيا عبر تأخير وصول الشّاحنات على المعابر الحدودية، في حال لم تتراجع عن ما تقوم به، وقد يترافق هذا مع زيارة لقطع من البحرية المصرية والسّودانية لميناء جيبوتي، وبالامكان تعويض جيبوتي باستثمارات ومساعدات مصرية وسودانية وعربية.

وتستطيع مصر أن توطّد علاقاتها مع عدوّة أثيوبيا اللدودة أريتيريا، وتستطيع دعمها سياسياً ودبلوماسيا وعسكرياً في صراعها مع أثيوبيا، ومن الممكن أن يدعم ذلك بحملة إعلامية كبيرة، وبالتّأكيد سترحب دولة تعاني من العزلة كأريتيريا بانفتاح مصري- سوداني عليها، لما له من أبعاد سياسية واقتصادية واستراتيجية  في صراعها مع دولة كبيرة كأثيوبيا.

و تستطيع مصر دعم قوى كثيرة داخل الصّومال تناصب  أثيوبيا العداء ولها ثأر تاريخي معها، فالصّومال يشكل صداعاً دائما للساسة الأثيوبيين، ولولا الدّعم المصري لما استطاعت أثيوبيا إسقاط نظام المحاكم الاسلامية هناك قبل سنوات، فمناكفة أثيوبيا في الصومال، آخر ما تتمناه أو ما تتوقعه القيادة الاثيوبية.

كما أن مصر تستطيع إيذاء اثيوبيا إستراتيجياً، بدعمها لجبهة تحرير (أوجادين)  وهو الإقليم الذي ينشط فيه الثوار المسلمون الذين يقاومون الاحتلال الأثيوبي لأراضيهم التي ضمّتها أثيوبيا لها، وبمجرد الدّعم الاعلامي والسياسي  وربّما استقبال دبلوماسي مصري لرئيس جبهة (أوجادين) أمام الكاميرات، ستقرع أجراس الخطر في أروقة صنع السّياسة الأثيوبية، فأثيوبيا قطعت علاقاتها الدّبلوماسية مع قطر بعد بث قناة الجزيرة تقارير عن المظالم الواقعة على شعب (أوجادين) وارتعبت من تداعيات ذلك على هذه القضية، فكيف لو أنّ هجوماً إعلامياً متبوعاً بحراك سياسي ودبلوماسي  مصري تبنّى هذه القضية، أو لوّح بإمكانية تبنّيها بسبل أخرى؟.

ما تستطيعه مصر كثير، ولو فعّلت القليل منه لأعاد الكثير من أعدائها حساباتهم، يضاف إلى ذلك أنّ هذه القضية وضعت  صانع السياسة المصري أمام حقائق هامّة:-

* أنّ أعداء مصر والهادفين لإبادتها إما إغراقاً بقصف السّد العالي، أو بتجفيف منابع النّيل، هم نفسهم ولا أعداء لها غيرهم ممن يتم اصطناعهم من قبل بعض الأدوات التي تعمل لصالح العدو الخارجي لمصر والمصريين وللعرب والمسلمين.

*   لمصر دور مفروض عليها، وليس خياراً بين خيارات، وأنّ مصر عندما تتحوصل حول نفسها، فهي تدعو أعداءها للتّمدد على حسابها والعمل للقضاء عليها، ولذلك لا بديل عن أن تدفع مصر ثمن قيامها بدورها الأصيل، بدل أن تصحو على أسوأ كوابيسها وهي لا تجد قطرة ماء تشربها.

* عمق مصر الاستراتيجي هو العرب والمسلمين ورافضي الهيمنة والاستعمار وسرقة أموال الشعوب في الأرض من قبل القوى الاستعمارية، ومهما حاولت بعض النّخب أقناع المصريين  بأنّ الانعزال عن العرب والمسلمين والقوى الصّديقة في العالم، والذّهاب لعلاقات ظاهرها أنّها جيّدة مع قوى الاستعمار الدّولي، فهذا يفنّده سعي تلك القوى الاستعمارية لحصار وإبادة مصر عن بكرة أبيها، من تحالف فيها مع الغرب وإسرائيل ومن خالفهم وعاداهم.

النّخب المصرية الآن أمام خيارات تاريخية، فلم تعد القضية قضية توريث حكم ومعارضة معترف أو غير معترف بها، ولا سلام ولا حرب، ولا مقاومة ولا مساومة، القضية تتعلق بمصير مصر والمصريين أنفسهم، وكل ما يتعلق بذلك من أدوار، فهل من متّعظ؟..