أما آن لهذا الملف أن يغلق؟!
محمد فاروق الإمام
تعيش سورية منذ أن لوثت جزمة العسكر مياه الفيحاء العذبة الرقراقة حالة فريدة في نوعها تطال المواطن السوري والمواطنة السورية شيباً وشباباً في حملة مقننة للملاحقة الممنهجة والاعتقال والسجن والإقصاء والنفي والإبعاد غير المعقلن وخارج كل قيم الإنسان وآدميته، في ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية التي تفتقت عنها أذهان الثوريين وختموا بها ظهر كل مواطن لا يتفق مع منهجهم أو يعارض فكرهم أو ينتقد أسلوبهم في الحكم أو تعاملهم مع قضايا الوطن وأولوياته.
هذه الثقافة المريضة التي تبنتها مجموعات العسكر التي تمردت على بعضها في عصيانات وانقلابات وصراعات كانت تصل في بعض الحالات إلى تحكيم السلاح فيما بينها للفوز بصولجان السلطة وكرسي الحكم بعيداً عن إرادة الشعب السوري وتطلعاته ومن خلف ظهره.
هذه المقدمة كان لابد منها وأنا أجيب على سؤال طرحه علي بعض الأصدقاء العرب حول تعليل الحالة السورية الفريدة في طبيعة الحكم والعلاقة الضبابية التي تربط الحاكم بالمجتمع والناس بعيداً عن كل القوانين التي تنظم هذه العلاقة غير الطبيعية في الحالة السورية التي لا يمكن وصفها لا بالعلمانية ولا الليبرالية ولا اليسارية ولا الاشتراكية ولا الرأسمالية أو أي شيء من هذا القبيل، واستشهد صاحبي بأخبار الاعتقالات والإفراجات التي تتم في سورية بعيداً عن وسائل الإعلام وفي غموض متعمد.
هذا السؤال الذي طرحه علي صديقي وهو من المهتمين بالشأن السوري، ومن محبي سورية حتى الثمالة، ويعشق أرضها وشعبها ومياهها وهواءها وسماءها – كما يقول – ولم تكن الإجابة على هذا السؤال بالأمر العسير، رغم أنني توقفت عنده طويلاً قبل أن أجيب صديقي السائل إجابة علمية فهو أكاديمي متميز، وله في بلده باع طويل في السياسة والحريات وحقوق الإنسان!!
قلت له سأكتفي بالإجابة على سؤالك بملف الاعتقالات والإفراجات، وقد أفرج مؤخراً عن ست وثلاثين من سجناء الرأي الذين أمضوا سنين طويلة خلف القضبان ووصلوا إلى سن العجز والكهولة، وهدهم المرض المزمن والعاهات المستديمة، واللافت للأمر أنه لم يعلن النظام السوري بنفسه عن هذه الإفراجات وإنما أعلنتها مصادر حقوقية سورية، بالإضافة إلى أنه لم يُعلم حتى الآن هويات الذين أفرج عنهم ولا أسماءهم ولا فيما إذا كانت محكومياتهم قد انتهت أم كان الإفراج عنهم كحالة إنسانية؟!
في مقابل هذه الإفراجات سبق وأن اعتقلت أجهزة الأمن السورية عدداً من الناشطين في مجال حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والمدونين، وفي مقدمتهم القاضي هيثم المالح رئيس جمعية حقوق الإنسان السورية السابق وابن الثمانين، وحتى أنصف هذا الشيخ لابد من تعريفك بسيرته الذاتية بإيجاز، فالمحامي والناشط السوري هيثم المالح من مواليد (دمشق عام 1931)، حاصل على إجازة في القانون، ودبلوم القانون الدولي العام، بدأ عمله كمحام عام 1957، ثم انتقل عام 1958 إلى القضاء، حتى أصدرت السلطات السورية عام 1966 قانوناً خاصاً سرح بسببه من عمله كقاض، فعاد إلى مجال المحاماة وما زال محامياً حتى تاريخ اعتقاله، بدأ العمل والنشاط السياسي منذ عام 1951 إبان الحكم العسكري للعقيد أديب الشيشكلي الذي قاد انقلابين عسكريين في سورية (1949 و1951)، اعتقل لمدة ست سنوات (1980ـ 1986) مع عدد من النقابيين والناشطين السياسيين والمعارضين بسبب مطالبته بإصلاحات دستورية، أضرب أثناء اعتقاله عن الطعام عدة مرات بلغ مجموعها 110 أيام، منها سبعون يوماً متواصلة أشرف خلالها على الموت، وهو منذ العام 1989 يعمل مع منظمة العفو الدولية، وكان قد ساهم عام 2002مع عدد من الناشطين بتأسيس جمعية حقوق الإنسان في سورية.
والأستاذ المالح يعاني من مشكلات صحية مقلقة يخشى أن تشكل خطراً محتملاً على حياته فهو يعاني من مرض السكري والنشاط المفرط للغدة الدرقية والأنفلونزا، إضافة إلى تقدمه في السن (79عام ) ورغم كل هذه الأمراض وكبر سنه فإن هناك إصراراً من أولي الأمر على المضي قدماً في إجراءات محاكمته بتهم تتعارض وجوهر النصوص ذات الصلة بالحق في التعبير عن الرأي انتهاكاً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه سورية، وقد اعتقلته أجهزة الأمن السورية في 14/10/2009 وأحالته بتاريخ 27/10/2009 إلى النيابة العسكرية التي استجوبته في اليوم التالي حول عدد من اللقاءات الإعلامية ومجموعة من المقالات التي كتبها، وعقدت محكمة الجنايات العسكرية الثانية صباح اليوم 8 / 4 / 2010 جلسة لمحاكمته، وقامت باستجوابه حول الجرم المنسوب إليه بقرار الاتهام الصادر عن قاضي التحقيق العسكري الأول بدمشق وهو (نقل أنباء كاذبة من شأنها وهن نفسية الأمة وجنحتي ذم القضاء وإذاعة أنباء كاذبة من شأنها أن تنال من هيبة الدولة) .
ويشتكي المالح بأنه لم يتمكن من التشاور مع وكلائه القانونين حول ملف الدعوى لأن إدارة السجن تمنعه من الاختلاء بوكلائه على انفراد، وطالب المحكمة بتأجيل استجوابه لحين الاختلاء بوكلائه ومناقشة ودراسة ملف الدعوى موضوع القضية مطالباً بتوجيه كتاب لإدارة السجن للالتزام بذلك . ثم قررت المحكمة بعد المداولة تأجيل استجوابه بناء على طلبه لتاريخ 22 / 4 / 2010.
ولم يقتصر الاعتقال على الرجال بل طال النساء من الناشطات في مجال حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني وحتى ممن لا يتعاطون مثل هذه الأنشطة، كاعتقال الطالبة الجامعية آيات عصام أحمد بعد استدعائها للتحقيق معها على خلفية تقارير أمنية (ملفقة) تحدثت عن تبنيها الفكر السلفي ولاحقاً تم تفتيش منزل ذويها ومصادرة كتب إسلامية وحاسوبها الشخصي وحاسوب والدها، ولا يزال مصيرها مجهولاً.
وأبلغت سيدة كانت معها في الاعتقال أن آيات تعرضت لانهيار عصبي عدة مرات وتم نقلها إلى المستشفى للعلاج كما أن آيات أصيبت بقرحة في المعدة خلال الاعتقال.
وآيات أحمد من مواليد دمشق 1990 وهي طالبة في كلية الآداب قسم الأدب الفرنسي سنة أولى وهي من رواد معاهد الشيخ الراحل أحمد كفتارو الإسلامية وحسب ذويها الذين لم يسمح لهم في زيارتها حتى الآن لا علاقة لابنتهم بأي تنظيمات إسلامية سياسية.
وكانت والدة آيات قد ناشدت الرئيس بشار الأسد أن يتدخل لإطلاق سراح ابنتها الصغيرة السن (19عاماً).
هذا الملف.. ملف الاعتقال التعسفي والذي لا تحكمه أية معايير قانونية، بقدر ما هي اعتقالات مزاجية وتصرفات غير مسؤولة من أجهزة الأمن التي تعتمد في معظمها على تقارير كاذبة وملفقة يقدمها عملاءها من أصحاب النفوس الرخيصة التي تعتاش على عذابات الناس ومراراتهم، بهدف قبض المعلوم من الفتات، وتتم كل هذه الاعتقالات تحت عنوان كبير (حماية الثورة ومكتسباتها)!!
هز صديقي رأسه قائلاً: أما آن لملف الاعتقالات المزاجية وغير المسؤولة وغير القانونية، والتي لا تستند إلى أية معايير أخلاقية أو إنسانية أن يغلق وقد ولجنا القرن الواحد والعشرين، وكل أمم الأرض، حتى تلك التي تعيش على ضفاف الأمازون وفي مجاهل أفريقيا تتجه نحو تحقيق الحرية وإشاعة الديمقراطية وإشراك الشعب في كل القرارات التي تتعلق بالوطن وحياة المواطن، والشعب السوري هو الأحق والأجدر بمثل هذه الحياة وقد كان الأستاذ في تعليم الناس معاني الحرية والديمقراطية والعلم والمدنية والحضارة منذ بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد نهلت والآلاف من أمثالي من الشباب العرب من معين معاهد سورية العلمية الراقية، وحصلنا من جامعة دمشق على أعلى الشهادات في مختلف أنواع العلوم السياسية والاقتصادية والإنسانية والعلمية؟!