حرب لبنان التي لا أفهم شيئا منها
عصام سحمراني
في بلد ولدتُ خلال حربه، وتنقلتْ مراحل طفولتي بين معاركه، وارتبطتْ ذكرياتي بجيوشه وتنظيماته وميليشياته وعصاباته. وفي بلد أعيش شبابي في جنّات صيغه، ونعيم اتفاقاته وطاولات حواره وكراسيه وقببه، ما زلت أتساءل عن فهمي الكامل لتاريخه المعاصر المبتدئ مع زخّات رصاص قبل خمسة وثلاثين عاما.
لا أتذكرها كي تعاد أو لا تعاد، لا فارق لدي ولا هاجس انتقاد عندي. فمن صنعها -او اعتقد انّه صنعها- باختلاف أطرافه هو من تصيبه كلّ عام حمّى الإستفادة من دروس الماضي. فتأتي نوباته على شكل وحدة وطنية، وتآخٍ، وتكاتف، وشراكة، وبناء وطن، وسيادة، وما إلى ذلك من غراء يلصقهم بمناصبهم وبذلاتهم ومكبرات صوتهم وكراسيهم، في البرلمان والحكومة والأحزاب والزواريب حتى.
أتذكرها كي أحاول الفهم، وأفشل كل مرة، في اختلاط تواريخها، وتناتش الأطراف لمعاييرها، وارتدادهم عن أصولها، وتبدّل جلودهم مع مراحلها. أحاول الفهم لأنّي لم أفهم بعد شيئا منها، فالسماء لم تمنحني قدرة كريم بقرادوني التحليلية، وذاكرة جوزيف أبو خليل وألبير منصور الحديدية، ولا حتى اطلاعات جوني عبدو على ملفاتها، وشفيق الحوت على خباياها.
أحاول الفهم لأنّي لم أشارك في صنعها، ولا يمكنني ادعاء صنعها حتى، فقد ولدت بعد نشوبها بست سنوات، وما زلت أتساءل ماذا لو كنت في العشرين من عمري في الثالث عشر من نيسان 1975!؟ ما الذي سيكون عليه موقفي يومها، وأنا أستمع إلى نشرة الرصاص تعلن تاريخا جديدا للحرب سيبنى عليه لاحقا على أنّه التاريخ الرسمي لها!؟
ماذا لو كنت هناك يومها!؟ أشارك في يومياتها. هل سيكون لي موقف منها؟ ربما كنت سأظن أنّ بإمكاني أن أغيّر شيئا، أو أنّ الحرب نفسها ستغيّر شيئا ما، أو أنّ قدرتي اللامحدودة ستسمح للجهة التي أنتمي إليها بالسيطرة على البلد وإعلانه كما تشتهي وأشتهي تناغماً معها: جمهورية يمينية إنعزالية أو يسارية أممية، ومهادنة للصهاينة أو مقاومة لهم، ومسيحية أو إسلامية أو علمانية، وقومية أو بعثية أو شيوعية، وإشتراكية وناصرية أو إقطاعية، وأميركية أو سوفياتية.
ماذا لو كنت هناك يومها بالذات!؟ لا بعد كل هذه التواريخ والقرارات والتسويات والإتفاقيات والرئاسات والحكومات والإنتخابات على المستوى العام. ولا بعد كل ما خضته من جدالات، واتخذته من مواقف، وطالعته من وثائق وكتب، وشاهدته من أفلام ومقابلات، على المستوى الشخصي.
أحاول الإجابة وتنقلني محاولاتها دوما إلى متراس كبير من أكياس الرمل أستمع إلى محاضرة ميدانية عاجلة، في خضمّ إحدى المعارك، تصفني مع رفاقي بالبطل الصامد، ويمدّني خلالها المسؤول بالأسباب الموجبة والواجبة والوجودية والثورية والإلهية أحيانا لوقوفي في صفّ فريقه.
سأكون يومها في المستوى الأعلى من تعبئتي غير المترافقة بكل تأكيد مع تعقّل وفهم إلاّ ما جاء في كلمات مسؤولي الحربي ذاك. أكررها وراءه، وأفتخر بإشادته بي، فأسعى للحصول على إشادات أخرى. وقد أحلم أيضا بتعييني مسؤولا على مجموعة ما، بالترافق مع إنجازاتي المبهرة والمؤثرة، فأنا منسجم مع واقعي، منسجم مع متراسي المتواجد في غمار الحرب.. فهل أحلم بوظيفة في المطار مثلاً!؟ قطعاً لا.
محاولة أخرى تقول إنّني سأقف على الحياد ولن أحاول رفع الظلم الإجتماعي والغبن الطائفي، سأقول: دعهم وشأنهم، ولننظر ما يتمخض عنهم، ولنعمل على الإستفادة من نتائجهم. ولن أدافع كذلك عن الفلسطيني وحقه في المقاومة واسترداد أرضه. نعم لن أدافع لا لأنّي سأحاربه بل لأنّي أعتقد أيضا أنّ معظم مشاكل الفلسطيني ولدت بسبب تدخل غير الفلسطينيين بقضيته، واعتبارها قضيتهم، وخلعها لاحقا عند أول مفترق كسترة حربية عتيقة لا تلائم موسم الأموال والأعمال والمشاريع. سأترك الفلسطيني وشأنه ولن أشترك معه في حلف ومقاومة، كي لا أنقلب عليه لاحقا وأصنع مجازر بحقه أو أسكت عن تلك المجازر. سأدع الفلسطيني وشأنه، ولن أدخل في معمعة تقديسه في بداية الحرب ونكرانه في أواسطها، ورفضه الكليّ في أواخرها، وقتله وتشريده في مواسم السلم.
محاولات فهم واتخاذ موقف لا تتوقف عند حدّ ذكرى خمسينية للحرب حتى. الغريب أنني لم أجد في تلك المحاولات والمحاكاة، أيّ سفارة أحاول اللجوء إليها وأيّ حدود أحاول اختراقها خلسة. لكنّني في الوقت نفسه لا أعتقد أنّي سأكون مسالما حتى ولو كنت على الحياد. معادلة غريبة إنّما واقع الحرب الأهلية كان أغرب، كحروب كثيرة غيرها يُقتل فيها ويُخطف ويُفقد ويتعرّض للإعاقة من المدنيين، أكثر بمئات المرات من أولئك الذين يحملون السلاح، وكنت سأصبح واحدا منهم يومها، ولو أنّي كمعظم من شاركوا فيها، لن أفهم شيئا منها.