الحزب المستحيل وفقه الاصطياد
الحزب المستحيل وفقه الاصطياد -3
أ.د. حلمي محمد القاعود
إلغاء وزارة الثقافة يجب أن يكون هدفا من أهداف البرنامج ، لأن التيار المهيمن عليها يملك الإصلاح والإفساد. وللأسف فإن التجربة منذ قيام هذه الوزارة ؛ كان حصادها في مجمله غير طيب ، ففي الستينيات سيطر الشيوعيون ، وعصفوا بكل من خالفهم ، وخربوا الأدب والفكر والمؤسسات الثقافية ، وبعد وفاة السادات استعادوا سيطرتهم واستبدادهم ، فتراجعت الثقافة في مصر ، وصارت بعض الدول العربية أكثر نشاطا وحيوية، بل إن بعض المدن سحب البساط من تحت أقدام القاهرة ، كما نرى في دبي على سبيل المثال.
تحرير الثقافة ، وتشجيع الجمعيات الأهلية في فرص متساوية كفيل بترقية الآداب والفنون ، وقد تحقق ذلك قبل 1952م بالفعل ، وما زلنا حتى اليوم نعيد إنتاجه . إن التنافس الطبيعي يحقق البقاء للأصلح ، دون أن تتحمل الدولة سفاهة هذا التيار أو ذاك..
وبالنسبة للإعلام فالبرنامج تعامل مع الآليات القائمة مثلما تعامل مع آليات وزارة الثقافة بوصفها أمرا واقعا لا مفر منه.. والحقيقة أن خطورة الإعلام الراهن ، مع أن آلياته في معظمها مملوك للدولة ؛ تكمن في تجييره لصالح النظام القائم ، فإذا كان نظاما صالحا ، فسوف يوجهه لصالح الوطن والأمة، وأما إذا كان نظاما طالحا فسوف يخدم مصالح المستبدين والطغاة واللصوص الكبار الذين يسرقون بالقانون ، وأعداء الأمة في الداخل والخارج .
إن الجيش العرمرم من القنوات التلفزيونية ، والمحطات الإذاعية ، والمؤسسات الصحفية ووكالة الأنباء ومراكز الاستعلامات في الوقت الراهن لا يخدم غير النظام وأجهزته الفاشية ، ولا يسمح بالحوار الحر الخلاق بين شرائح المجتمع ونخبه المختلفة ، ولكنه يقصر الدعاية للنخبة الفاسدة التي تحارب الحرية وتؤيد الاستبداد والأحكام العرفية والقوانين الظالمة والعنف البوليسي والاحتكار الاقتصادي والفساد المتغلغل في أجهزة الإدارة ؛ حماية لوجودها ومصالحها الحرام .. وفي المقابل فإن محطة إذاعية واحدة مثل إذاعة لندن العربية ، وقناة تلفزيونية واحدة مثل الجزيرة وصحيفة خاصة واحدة مثل... تشد الأسماع والأبصار والقراء ، وتحقق ما لم يحققه الجيش العرمرم الفاشل الذي يعيش على أموال البائسين والمحرومين والفقراء الذين يهددونهم برفع الدعم ليذهب إلى جيوب واسعة بلا قرار!
إن أجهزة الدعاية تحولت إلى أدوات تجميل للنظام البوليسي الفاشي ، وتخلت عن أبسط القواعد المهنية التي يفترض أن تقدم وجهات النظر المختلفة ، وتقلّب الموضوعات المثارة للنقاش إخباريا أو فكريا على وجوهها المختلفة ، ولكنها تقف عند وجهة نظر واحدة فقط ، هي وجهة نظر النخبة الفاسدة التي تروج للاستبداد وتجلياته الفاضحة ! وفي الوقت ذاته تحرم بقية النخب المعارضة من إبداء رأيها بحجة أنها محظورة قانونا ، أو ممنوعة حكوميا ، أو معارضة حقيقيا، وهو أمر غاية في العجب ، إذ إن هذه الأجهزة لا تجد غضاضة في عرض وجهة نظر الأعداء وخصوم الأمة بكل مودة وترحيب ، وتقدم ما يقولونه باسم الحوار المتحضر ، والنقاش المتمدن .. بينما الحوار مع أبناء الوطن المخالفين ، والنقاش مع شرائح الأمة المعارضين يعد من وجهة نظرها رجسا من عمل الشيطان ، ولا يصح ولا يجوز ، فهو غير متحضر وغير متمدن ...
وأعتقد أنه آن الأوان ، أن يدعو البرنامج لتكون أجهزة الإعلام التي تملكها الدولة محدودة ومحايدة أو قومية بالمعنى الحقيقي ، أى لا تنحاز إلى السلطة أو المعارضة ، وتعرض جميع الآراء والأفكار دون تأييد لهذا الطرف أو ذاك ..
ويستتبع ذلك تفكيك هذا الجيش العرمرم من الأدوات الإعلامية أو الدعائية بمعنى أدق في حالتها الراهنة ، لتبقى قناة تلفزيونية قومية واحدة تبث أرضيا وفضائيا ، وتلتزم بالدستور والقانون وهوية الأمة ، ومعها محطتان إذاعيتان ؛ الأولى للقرآن الكريم والأخرى عامة .. أما الصحافة فإن جريدة " الوقائع المصرية" تكفي لجهة الإدارة ، وبقية الصحف وأجهزة الدعاية تذهب إلى العاملين فيها عن طريق البيع من خلال تكوين شركات مساهمة لا يزيد فيها امتلاك الأسهم عن حد معين للفرد وعائلته ، بحيث لا يسيطر عليها رجال القروض أو الأجانب الذين يمتلكون القدرة على تخصيصها لحسابهم وحدهم ، وتسييرها وفق هواهم أو وفق أجندات معادية لروح الأمة وثقافتها وأمنها ..
وهنا لا بد من وضع قانون يرسم الحدود التي تحفظ هوية الأمة وأخلاقها وقيمها وأهدافها الوطنية والقومية الثابتة التي لا تتأثر بتقلبات الظروف السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.
لقد أشار البرنامج المفترض لحزب الإخوان المسلمين المستحيل في صفحة 105إلى القصور الكبير في أداء الكادر البشري في أجهزة الإعلام " مذيعون ومعدون وأطقم فنية ومخرجين ( كذا !) وغير ذلك " .. ويبدو أن البرنامج لم ينتبه إلى قصور أكبر ، وهو المناخ الذي يعمل فيه الكادر البشري . إنه مناخ الاستبداد والإدارة الموالية للاستبداد . والاستبداد وحده كفيل بقتل المواهب والعبقريات ودفنها حية ، والدليل على ذلك أن هذه الكوادر المتهمة بالقصور حين تتاح لها فرصة العمل خارج إطار الاستبداد والإدارة الموالية له فإنها تنطلق وتبدع وتنتج ، وانظروا إلى أجهزة الدعاية المستقلة أو الحرة من حولنا وكيف تعمل فيها هذه الكوادر بهمة ونشاط وتفوق .. إنهم هم أبناؤنا الذين لم يجدوا فرصة حقيقية في مناخ الاستبداد الأسود الذي يحولهم إلى مجرد دمى أو بيادق أو عناصر شر تفتن على بعضها أو تتملق أو تنافق أو تزيف الحقائق لتحظي بالفتات الذي تلقيه إليها السلطة المستبدة ، أو في أحسن الأحوال تأخذ الجانب السلبي الصامت الذى يكتب ما يملى عليه أو يذيع ما يؤمر به !!
إن ترشيد الإنفاق في الإذاعة والتلفزيون - كما يسعى البرنامج - في ظل الوضع الحالى غير ممكن ، ولا محل له على أرض الواقع ، لأن السلطة البوليسية الفاشية لا يعنيها أمر الترشيد أو الإنفاق عموما ؛ بقدر ما يعنيها أن تظل صورتها جميلة في عيون الشعب المظلوم ..ولأن حيتان الفساد لا تشبع !
أيضا فإن إصلاح الهياكل الصحفية الحكومية التي تسمى قومية ، والمجلس الأعلى للصحافة – كما يحلم البرنامج - أمر بعيد المنال ، في ظل الاستبداد والمناخ السائد، للسبب ذاته الذى سبقت الإشارة إليه في الفقرة السابقة . ولا أدري لماذا يتحمل الشعب البائس ميزانية قدرها عشرة مليارات على الأقل للإنفاق على ثقافة فاسدة وإعلام فاشل وصحافة خاسرة ، في الوقت الذى تباع فيه مصانع رابحة ومؤسسات ناجحة باسم الخصخصة استجابة لأوامر صندوق النقد الدولى ؟
ويبدو أن البرنامج نسي أمرا مهما للغاية ، لعله – أى هذا الأمر - كان السبب وراء تقديم خدمة عظيمة للشعوب المتقدمة ؛ على وجه الخصوص ، وهو الصحافة الإقليمية أو المحلية ، والإعلام الداخلى .. إن فتح المجال أمام صحافة حرة إقليمية حقيقية – وليس صحافة الابتزاز القبرصية أو صحافة السادة المحافظين ورؤساء المدن المنافقة الكاذبة – مع إذاعة وتلفزة تناقش قضايا محلية من خلال الالتزام بالقانون لهو فتح عظيم ، في محاربة الفساد ومعالجة المشكلات ، والوصل بين الجمهور والمسئولين وتحريك عجلة العمل والأمل .. فضلا عن استيعاب آلاف الخريجين من كليات الإعلام وأقسامه في الجامعات المختلفة الذين تتكدس بهم الأرصفة ، أو يعملون في مجالات أخرى .
ونواصل الحديث بإذن الله حول البرنامج المقترح للحزب المستحيل ، وفقه الاصطياد الذى يمارسه خصوم الإسلام والمسلمين.