الوهن ونفسية الأمة وفدائيو بشار
علي الصراف
سيدي الرئيس بشار الأسد،
تستطيع أن تهنأ بانك تحصل على دعم قطاعات واسعة من
الشعب السوري. فهذا ما يجب أن أقر به، وهذا ما يجب أن يعترف لك به العدو قبل
الصديق.
وبمقدار ما يمكن للردود ان تكون مؤشرا، فقد حصلت من الشتائم على مقالي "ولك إصحوا،
دولة الخوف لن تدوم" ما يكفي لتنام قرير العين. بل ان مواقع معروفة للمعارضة
السورية عملت نفسها لم تقرأ المقال، فلم تنقله. وكنت ارسلته الى أحدها عامدا متعمدا
قائلا: اعتبروه "مختارات من الصحافة الإسرائيلية" إلا انهم خافوا من كلماته، بسبب
الرقيب الذي يعد عليهم أنفاسهم. الأمر الذي يدل على أن أنظمتنا بلغت مستوى
استثنائيا في الشعبية لا سبيل الى مجاراته. فالجمهور جمهورها والمعارضة تعارض نفسها
أكثر مما تعارض "النظام".
وهذه مفارقة تاريخية تستحق التسجيل. وهي جلاّبةُ مفارقاتٍ أشد. ففي السابق كان
الجمهور يشكو من "الكُتّاب العملاء" للأنظمة. اليوم صار الكُتّاب هم الذين يشكون من
"القرّاء العملاء" للأنظمة.
فقط بسبب هذا الوضع المقلوب، صار بالإمكان أن تلقوا بخيرة الكتّاب والصحافيين في
غياهب السجون بينما يصفق لكم الجمهور!
مبروك. وليس لي إلا أن أهنئكم على ما حققتموه من انتصارات عظيمة علينا، وعلى الكلمة
المخلصة الشريفة.
وليس من العجيب، في هذا الظرف التاريخي لانتصاركم المؤزر، ان جمهوركم يشتم من دون
أن يفهم المكتوب. فأي إشارة تبدو سلبية ستكون كافية بالنسبة له لكي يشهر عليك سيف
الوعيد والتنديد. فكل واحد منهم يشعر انه يتحمل واجب الدفاع عن سلطتكم، قبل الفهم،
ومن دون فهم، وبعيدا كليا عن المكتوب. وهذا وضعٌ يجعل من السخرية تماما المطالبة
بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. فحيال جمهور كهذا، سوف يصبح من المشروع القول:
ديمقراطية لمن؟ وحقوق إنسان من أجل ماذا؟
ولهذا السبب، فقد كان لا بد لي من الإقرار بأننا حفنة مجانين، نغني على ليلى، بينما
ليلى تبيع نفسها في الماخور.
وأني إذ أكرر تهانيّ الحارة لكم، فاني أسأل الله أن يحميكم من جمهور لا يفهم. فأنا
أعرف جيدا هذا النوع من الجمهور. فبعض المُندسّين ممن كانوا يوشمون أذرعهم بأنهم من
"فدائيي صدام"، ويتخذون من الوشم غطاء للاعتداء على الناس، ويلقون بتلك الاعتداءات
على كاهل النظام، هل تعرف ماذا يفعلون الآن؟ انهم يعذبون ويقتلون ويغتصبون باسم
الدفاع عن "العراق الجديد".
ويبدو ان هناك منظمة مُندسّين مماثلة في سورية تدعى "فدائيو بشار"، تشتم وتهدد كل
من يقدم نصيحة مخلصة. وبانتظار اليوم الذي ترحب فيه بنظام جديد، فانها ستظل تهتف:
"بالروح، بالدم، نفديك يا بشار".
وهذا دليل آخر على أننا مجانين بالفعل. فالذين نحسب اننا نقاتل من أجل حقوقهم
ومستقبل أولادهم، ليسوا في الواقع بحاجة الينا. نحن بحاجة الى الستر من وحشيتهم
علينا.
مرة أخرى مبروك. يا هيك جمهور يا بلا.
الحليم، الذي من الإشارة يفهم، يستطيع أن يُدرك اني لست معاديا لنظامكم، ولي أملٌ
فيه، وأتمنى ألا يخيب. وهناك ما يكفي من الأدلة (بعد القراءة والفهم) التي توضح
الحرص الذي يعبر عنه الكثيرون على استقرار وازدهار ورخاء سورية.
ونحن بالأحرى ينتابنا الخوف على هذا الاستقرار، وكل ما نتمناه هو أن يتعزز، لا أن
يضعف، ويزداد حصانة، لا أن يتهدم، بما نعتقد انه يشكل ضمانة أفضل.
أنت تعرف، سيدي الرئيس، إن الكثير ممن تلقيهم في السجون، بدأوا نشاطهم "المعارض"
(المزعوم) بالتزامن مع الغزو الاميركي للعراق.
كانوا خائفين على بلدهم من غزو مماثل. كانوا يريدون تحصين البلد تجاه تهديدات معلنة
أسمها "الشرق الأوسط الجديد"، حيث تتزاوج الدبابات الاميركية بالطائفية لتحوّل
بلادنا الى مسرح لسفك الدماء.
فهبوا للدفاع عن بقاء سورية، وتكاتفوا لتحصين نظامها بما أوتوا من أفكار للتحديث
والتطوير. ولكن يبدو أن تلك الأفكار لم تكن نيّرة من وجهة نظر "فدائيي بشار".
وحيث انكم جئتم الى السلطة ببرنامج معلن لتوسيع نطاق الحريات الديمقراطية والمشاركة
الشعبية، فقد صدّقوا، المساكين. ولم يلاحظوا أنك، أو الأقدار، تنصب لهم فخا.
فوقعوا. وكانت وقعة.
مع ذلك، فان أحدا لم يطالب بتغيير النظام. ولا حتى تغيير الفرّاشين فيه. كل ما حصل
هو اختلاف في وجهات النظر حول سبل الدفاع عن سورية، وسبل المحافظة على استقرار
نظامها، وحمايتها من دبابات الغزاة ومشاريعهم الدموية.
الاختلاف، إذن، هو اختلاف شرف ووطنية، لا عداوة.
هذا هو كل الكفر الذي اجترحه "المعارضون"، ولكن سرعان ما عُوملوا بالقمع والحرمان
وكأنهم سبّوا العنب الأسود.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بكم، فالكثيرون يعرفون انكم رجل دولة من الطراز الرفيع،
ونزاهتكم تحلق عاليا، ويرى الكثير من المخلصين انكم خير من يمكنه قيادة البلد الى
بر الأمان، في ظرف إقليمي تتلاطم فيه امواج التوترات. فمن ناحية، انت رجل متعلم، بل
رجل علم ومعرفة. ومن ناحية أخرى، كنت زاهدا بالسلطة حتى ألقيت على كاهلك كما تُلقى
الأعباء الشديدة.
وكان لدينا حاكمٌ قديم، لعلك تعرفه، كان يقول: "أيها الناس، من رأى منكم فيّ
إعوجاجا، فليقومني بالسيف". فرأى بعضنا، أنكم، رضي الله عنكم، لستم أقل عدلا
وانصافا من ذلك الحاكم القديم، وخَطَر لهم الظن أن يقوّموا الإعوجاج بالقلم. فاذا
بالشرطة تلقي عليهم القبض، وترميهم تلك الرمية، وتمنع اطلاق سراحهم حتى بعد انقضاء
ثلاثة أرباع المدة، بينما الشراميط اللواتي سُجنَّ لنفس المدة خرجن ليتمتعن بالحرية
ودولة القانون!
كل مشكلتي، يا سيدي، هي انكم تسجنون أناسا جريمتهم هي انهم أرادوا الدفاع عن وحدة
واستقرار بلدهم بما أعتقدوا انه السبيل الصحيح. لم يرفعوا سيفا. ولا أصابوا بالأذى
أحداً. ولي بين هؤلاء المساجين صديقٌ اسمه فايز سارة.
وكل ما أريده هو أن تُطلق سراحه ليعود الى أطفاله.
وفايز رجل وديع، لم أره غاضبا على مدى السنوات التي عملنا بها معا. ولم يخطر لي على
بال انه "مُعارض" أو يمكن أن يكون معارضا.
ولكن، مثل الكثيرين، فقد وُجهت له التهمة بانه "يصيب نفسية الأمة بالوهن".
ونفسية الأمة مصابة بالوهن بالفعل. ومن أبرز أسباب هذا الوهن: هزيمة 5 حزيران، وفشل
مشروع التحرير، وانهيار انتفاضتين فلسطينيتين، وفشل الرهان على المفاوضات بعد فشل
الرهان على الجيوش، وتوقيع اتفاق كامب ديفيد، وتراجع الاقتصاد، وتفشي الفساد، وتفسخ
علاقات التعاون العربية، وغزو العراق، واعدام قياداته الوطنية، وتحول شعبه الى
جماعات طائفية تنتج مُهجرين ومشردين... الخ.
فاذا كانت هذه وغيرها مما يصيب نفسية الأمة بالوهن، فوحياة ربك، فايز سارة لم يكن
هو المسؤول عنها!
فايز صحافي، ولم يكن قائدا للجيش، ولا وزيرا في حكومة، ولا مسؤولا عن الهزائم التي
صنعتها انظمتنا الأخرى. (وحاشى نظامكم، فهو لم ينتج إلا انتصارات بطبيعة الحال).
ولا أعرف كيف ابتدع نظامكم القضائي هذه التهمة السوريالية. انها تهمة مُخجلة
بالفعل، واستخدامها يدينكم أكثر مما يدين المحكومين بها. وبالنسبة لرجل علم ومعرفة،
فلا بد أنك تعرف انها تهمة مائعة وغير قابلة للتحديد. بمعنى انه لا يمكن تحديد حصة
هذا المتهم أو ذاك أو نسبته من "الوهن".
القاء الناس في السجون، هيك، خبط لزق، باتهامات سوريالية كهذه، أمر ضار، وينشئ نظام
خوف. والخوف قد يوحي بالقوة، إلا أنه لا يحمي أي نظام.
ما كنت أتمناه، يا سيدي، هو أن تتاح للشرفاء الفرصة (الى جانب فدائيي بشار) لكي
يدافعوا عن بلدهم، وعن استقرار نظامه بوسائل مثقفة تنسجم مع العقل والمنطق.
ولكن أما وأن لديكم جمهورا يدافع عنكم، بتفاخر الجهل وحماسة سوء الفهم، فليس لي إلا
أن أعترف بأني مجنون، وأن أكفُّ عن المطالبة بالحريات والدفاع عن حقوق الإنسان.
فهيك نظام بدو هيك جمهور.
وألف مبروك. فقد حققتم، بالجهل والسوريالية وسوء الفهم، انتصارا مؤزرا على الشرف
والوطنية ويقظة الضمير.
ولكن ما زال لدي أملٌ، وأتمنى ألا يخيب.