أخطر من جلد الصحفيين!
أخطر من جلد الصحفيين!
أ.د. حلمي محمد القاعود
آثرت الانتظار حتى ينجلى غبار ما سمّى فتوى جلد الصحفيين التى أثارت جدلاً كبيراً وخلطاً أكبر ، واستغلها بعض خصوم الإسلام للتنديد بما يُسمى " الدولة الدينية " التى يُؤيدها النظام الحاكم ويُشجعها !
وهو أمر لو تعلمون عجيب . فما كان النظام الحاكم يوماً موالياً للإسلام وتشريعاته ، وما كان الإسلام يوماً منشئاً لدولة دينية فيها كهنوت وغفران وحرمان .
ويجب أن نعلم أن المسلم يجب أن يؤمن بما نزل به الوحى إيماناً مطلقاً ، حتى لو أزعج الغزاة الصليبيين الاستعمارين أو الغزاة النازيين اليهود . وحين يقرر الحق سبحانه وتعالى أن حدّ قذف المحصنات المؤمنات الغافلات ثمانيين جلدة ، فيجب أن نقول : سمعنا واطعنا . ولا نقول : " إنها دولة دينية " تُعيدنا إلى القرون الوسطى المظلمة فى أوربا . فالمرأة المحصنة البرئية يجب أن تظل سمعتها فوق التشويه والتجريح والادعاء الباطل ، والحدّ لردع من تُسوّل له نفسه العدوان على الأبرياء .
والخطأ في الفتوى المذكورة هو قياس حدّ القذف على الصحافة والفكر ، واستغلاله لتصفية حسابات سياسية أو تنافسية ، وهو من التأويل الباطل الذى يدخل تحت مسمى " التدليس " حيث يُجيز للسلطة أن تأخذ بتلابيب أصحاب القلم الحرّ ، لإسكاتهم وقطع ألسنتهم ، وترك الفساد يخرج لسانه للشعب المظلوم فى وقاحة غير مسبوقة .
ويبدو أن فريقاً من خصوم الإسلام ، وجدوها فرصة مناسبة للتركيز على مسألة جلد الصحفيين ، وهم الذين سبقوا أن وصفوا من تحدث عنه أو أشار إليه ، بالشيخ المستنير ، لأنه أباح ربا البنوك ، واستقبل الغزاة الأنجاس فى رحاب الجامع العريق ، وأقر الصهيونى المتوحش على خلع حجاب المسلمات فى فرنسا بقوة القانون ، وذهب إلى فلسطين المحتلة بتأشيرة صهيونية و ....
ونسى هؤلاء وغيرهم ، أن ما جرى للأزهر المؤسسة والتعليم والمستقبل ، يمثل كارثة من أخطر الكوارث التى تفوق كارثة جلد الصحفيين وأصحاب الفكر . فالمعهد العريق أُصيب بنكسة خطيرة عقب تطويره بالقانون 103 لسنة 1961 ، حيث فرّ منه الطلاب بسبب ضخامة المقررات التى تجمع بين مقررات التعليم العام ومقررات الأزهر السائدة .. وكاد يفرغ من الطلاب تماماً ، مما اضطر بعض المسئولين إلى قبول نفايات الشهادة الإعدادية والشهادة الابتدائية من طلاب أميّين لا يحفظون القرآن الكريم الذى هو أساس التعليم فى المؤسسة العلمية العريقة ، ولا يملكون حداً أدنى من الوعى يؤهلهم للدراسة الحقيقية التى تخرجهم أئمة وخطباء ومعلمين ، وكانت النتيجة على عينك يا تاجر ، حيث صار " الضعف المشين " سمة عامة ، تحكم خريج الأزهر الذى لا يُحسن قراءة ولا نطقاً ولا فهما فى الغالب الأعم ، واشتكى الناس من الواقفين على المنابر والمتقدمين لإمامة الناس ، ومن صاروا معلمين لأبنائهم فى معاهد الأزهر المعمور !
وعندما أسفرت المؤامرة الصليبية الصهيونية ، وكشفت عن وجهها البشع لتدمير الأزهر تحت مسمّى تغيير الخطاب الدينى ( الإسلامى وحده ) ، تطوّع علماء السلطة وفقهاء الشرطة بتقديم خدماتهم مقابل فتات لا يغنى ولا يسمن ، مثلما فعلوا بالتطوّع لتقديم حيثيات جلد الصحفيين وإسكاتهم وفقاً لقياسهم الخاطئ .
لقد بدأت الكارثة بتقليص سنوات الدراسة فى الإعدادى والثانوى حتى صارت سنوات الأزهر فى التعليم مثل سنوات التعليم العام ، ثلاث فى الإعدادى وثلاث فى الثانوى .
وبعد أن كان الطالب الأزهرى يدخل المرحلة الإعدادية حافظاً للقرآن ، اكتفى القوم بحفظ أجزاء منه يمتحن فيها الطلاب امتحاناً صورياً ، وكأنه لم يحفظ ، ويعللون لذلك بأنه سيتم حفظه مع تخرجه إن شاء الله ، ولكن النتيجة على أرض الواقع تقول شيئاً آخر يعرفه كل من له أدنى صلة بطلاب الأزهر ومستواهم التحصيلى .
ثم تدفقت التنازلات التى قلّصت المناهج والمقررات الأزهرية فى علوم اللغة والشريعة كما وكيفا ، فتم دمج مقررات مع بعضها ، وإلغاء كتب عميقة وإحلال كتب سطحية يؤلفها بعض المشايخ " الموظفين " من أجل مكافآتها السخية . واقترب الأزهر من التعليم العام فى المناهج والمقررات مما جعل التحويل إلى الأزهر ومنه أمراً سهلاً وهيناً لتحقيق غايات الطلاب الفاشلين هنا وهناك .
فى الوقت ذاته كانت تجرى عملية تضييق واسعة النطاق على مكاتب تحفيظ القرآن ، وحرمان المحفظين من مكافآتهم ، صحيح أنه تعرض كل عام على شاشة التلفزة وبمناسبة ليلة القدر عملية توزيع جوائز ضخمة على الفائزين فى مسابقة حفظ القرآن – وأغلبهم من الدول الإسلامية – ولكن التحفيظ داخل الوطن البائس متروك أمره لأهل الخير فى الغالب ؛ لأن القوم يريدون التوفير فى ميزانية الأزهر المعمور ، وردّ الوفر إلى خزينة الدولة ، والحصول على نسبة منه بحكم القانون ، وهو ما أدى إلى تقليص ميزانية الأزهر بصورة غير مسبوقة ، جعلت بعض الغيورين فى المجلس النيابى يطالبون بزيادتها ، دون أن يدركوا السرّ الذى يحتفظ به بعض طلاب المال !
ثم كانت الكارثة الأكبر ، وهى إلغاء فقه المذاهب من أجل توزيع كتاب اسمه " الفقه الميسر " يُقدم صورة أولية للفقه الذى يفترض أن يدرسه متخصصون . وبالتالى فإن صاحبه يحصل على مكافأة ضخمة بعد أن يُلقى بفقه المالكية والشافعية والحنفية والحنابلة فى عالم النسيان ، ويخرج بعض " المطيباتية " من فقهاء النظام ليقولوا : من يُريد الاطلاع على فقه المذاهب فليرجع إلى كتبها !!
إذاً ما الفرق بين الأزهر والتعليم العام ؟ بين التخصص والدراسة العامة ؟
القوم لا يعنيهم ذلك ، ربما يعنيهم دون أن ندرى ، ولكن الأمر فى كل الأحوال ، يُهيئ لما قيل من قبل عن اعتزام السلطة إلغاء الأزهر وضمه إلى وزارة التربية والتعليم ، حتى لا يكون هناك تعليم إسلامى من الأساس ، وتتكرر التجربة التونسية التى نفذها الشيوعى السابق المتأمرك الحالى المدعو " العفيف الأخضر " حين كان وزيراً للتعليم العالى التونسى ، وألغى جامعة الزيتونة العريقة التى كانت معنية بدراسة العلوم الشرعية واللغة العربية ؛ إرضاء للسادة الصليبيين الاستعماريين الذين يُزعجهم الإسلام ويعملون على اسئصاله بكل الوسائل والسبل .
الجريمة الأخطر وهى تدمير الأزهر التاريخ والمستقبل وحصن الإسلام ، لا يلتفت إليها السادة المنزعجون من الدعوة إلى جلد الصحفيين ، ولكنهم لو فقهوا لعرفوا أن جلد الصحفيين مجرد عرض لمرض سيفتك بالأمة كلها وليس بالصحفيين وحدهم . والله غالب على أمره .