أمريكا ... و الهاجس الكابوس
أمريكا ... و الهاجس الكابوس
د. علاء الدين شماع
أمام ضيق خيارات قادة واشنطن باتت كل السيناريوهات المحتملة مغلفة بسياسة البطش واستعمال القوة و هو ما يعكس أزمة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي ,حتى بات الحدث السياسي العالمي يسبق هذا الفكر بعد أن كان من صنعه , في ارتداد يمثل تخبطاً في الرؤى وقصر نظر في الرؤية , يمثله الانكماش إلى التكتيكي في محاولة فهم ما يجري خطوة بخطوة .
و السؤال الكبير عن جدوى حرب العراق , بعد أن أفاض المحللون عن أن أمريكا كان لها أن تحقق ما تريده دون حرب , أصبح اليوم كيف السبيل للعودة من العراق
أمام ما فرضته هذه الحرب من وقائع ليس من السهل تجاوزها أمريكياً , يقول نعوم تشومسكي : إن هزيمة أمريكا في العراق يعني هزيمتها في المنطقة حيث أكبر احتياطي للنفط في العالم .. و هو أمر مستحيل .
أمام هذه الاستحالة بقبول الهزيمة في العراق, وهي مهزومة فعلاً وفق كافة المقاييس ,لم يتبق من خيارات للدولة العظمى في تنفيذ سياساتها الخارجية غير استعمال القوة وحسب , وهي سياسة هروب إلى الأمام لن تجر إلا مزيداً من الخيبة و قيوداً تضاف إلى قيود تكبل أيدي الرئيس الأمريكي القادم مهما كانت صبغته, وقرار تقسيم العراق إلى ثلاث فدراليات لن يكون تخففاً من حمل بل ثقلاً مضافاً على كاهل الإدارة الأمريكية القادمة ,ذلك أنه سيفجر منطقة الشرق الأوسط وسوف يدخلها في حروب , قد تستدعي تدخلاً دولياً يقصي أمريكا كلية لعدم أهليتها. وهذا ما يسميه نعوم تشومسكي" سيناريو الكابوس المزعج لأمريكا ", حيث أن أكثر ما يخيف أمريكا حقاَ و يشكل لها كابوساً مزعجاً هو الصين . إذ ماذا لو استطاعت الصين مع روسيا في تشكيل قوة كبيرة تنضم إليها اليابان و الهند من أجل تأمين النفط و الغاز من الشرق الأوسط خارج إرادة أمريكا و ضدها ثم ماذا لو انضمت إيران إلى هذا التكتل !؟
لم يعد أمر عولمة الكراهية فناً أمريكياً بامتياز , إنما القتل زائد التهديد بالقوة والتلويح باستخدامها متى شاء الأمر أنتج ما يمكن أن نسميه وهذا حسب تشومسكي "أكبر دولة إرهابية في العالم ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية ",و أنتج أيضاً ما يمكن أن نسميه كراهية العولمة وفق الطراز الأمريكي . ذلك أن أمريكا المأزومة لم يعد يفيدها إمكانية إعادة النظر لأمورها في الكونغرس رغم كل ما تنبه إليه أوساطه و الأوساط الإعلامية الأمريكية و تصريحات جنرالات حربها في الإشارة إلى أسباب الأزمة الحالية ونتائجها . قدر ما يمكن أن يفيدها التلويح بقيام حرب عالمية ثالثة وفق المتخيل الأمريكي للإدارة الحالية بقيادة بوش الصغير.
فأمام تصنيفات أمريكية مجترحة تقسم العالم إلى أبيض وأسود ودول محور للشر وأخرى متطرفة أو معتدلة لم يعد تصنيف الإرهاب ممكناً مقابل كل هذا الإرهاب الأمريكي و الذي يساوي الضحية بالجلاد على اختلاف المواقع و الدوافع . في عنف يولد عنفاً مضاداً لا يمكن السيطرة عليه حتى في أحسن السيناريوهات الأمريكية المفترضة, و هذا ما نراه في كل بقع الأرض لأمريكا أصبع فيه, وعله ما يجري من عنف دام على أرض العراق خير مثال. و الحرب الطائفية هناك تقف أمريكا وراءها حتماً.و هي التي تتحمل تبعاتها الأخلاقية كونها دولة احتلال مسؤولة عن كل شيء فيه.
لقد أخذت سياسة المحاور ترتد إلى نحر كيد الأمريكي و هو عاجز عن التصرف .في سابقة تردنا سياسة المحاور في الخمسينيات من القرن الماضي ولكن هذه المرة خارج الفلك الأمريكي . حتى بتنا نرى من يحسب حليفاً استراتيجياً أمريكياً يتحالف مع ند لأمريكا في انتهاج سياسة براغماتية بحته تقدم الهم الوطني وسلامة الأرض الوطنية و الانتماء إلى المحيط الإسلامي , دوناً عن أمريكا ,و نقصد تركيا في تقاربها مع سوريا, في أنجح زيارة قام بها الرئيس السوري إلى تركيا و ما صدر عنها من تصريحات يفهمها الأمريكي وحلفاؤه جيداً أهمها ما قاله بشار الأسد عن حق تركيا المشروع في الدفاع عن أرضها . و هو ما دفع أكراد العراق و على لسان الطالباني إلى الاستشاطة غضباً .
يأتي ضمن هذا التوصيف اجتماع الدول المطلة على بحر قزوين الذي عقد في إيران و زخم الدعم الروسي لإيران الذي تفهمه أمريكا جيداً هذه المرة أيضاً .
كل هذا و مستنقع العراق الغارقة فيه أمريكا يتطلب حشدا و تأييداً من الحلفاء لتطويق الحالة المنفلتة فيه و ليس ما يدفعهم إلى الابتعاد عنها . و هي تسلك سلوكاً مشاكساً لا يأخذ في عين الاعتبار أي مصلحة لصديق أو حليف , و لا أدري مقدار ما يمكن أن يقدمه كردستان العراق استراتيجياً لأمريكا. إلا إذا كانت و لازالت على مفهومها في الفوضى الخلاقة وما يمكن أن تنتجه من كيانات خائبة . تكون و بالاً عليها وليست لها . حتى بات القول " لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك القدرة على توظيف الأطراف الإقليمية لخدمة أهدافها , كما أن الأطراف الإقليمية تعلمت أيضاً كيف توظف الوجود الأمريكي لتحقيق أهدافها الخاصة" يظهر عجز الفكر الاستراتيجي الأمريكي على حقيقته.
تبرز هنا و وفق هذا المنظور الحالة الإسرائيلية في مخاوفها الجمة على اعتبار أن أي انسحاب أمريكي مفاجئ من العراق يمثل بالنسبة لها أمراً كارثياً , ومفاعيل حرب تموز ما زالت قائمة , ان عدم قدرة إسرائيل على شن حرب و عدم قدرتها على ردع أية حرب تشن ضدها , تتطلب استثماراً للوجود الأمريكي حتى آخر لحظة , ذلك أن أي انسحاب أمريكي يعزز مكانة إيران الإقليمية و يفسح المجال أمام سوريا لتحرير الجولان عن طريق القوة العسكرية .
يكاد أن يكون السيناريو الكابوس مخيفاً حقاً لأمريكا , وهي في لهاثها وراء فهم المتغيرات الدولية متسلحة بفكر استراتيجي يقول بالهيمنة الكونية ,و تشومسكي في كتابه الأخير " السلطة المتهورة" يحاول أن يردها أرض الواقعية السياسية من خلال سيناريو قد يكون بعيد المنال لكنه قابل للتخيل في فقد دورها إن استمرت في انتهاج القوة و القول بحروب كونية .
إذا لا بد أن يكون من دروس مستفادة أمريكياً , وهي على كل الأحوال رسالة الى الإدارة الأمريكية القادمة , مها كان الوضع الحالي في الشرق الأوسط ينم عن انسداد أفق و انعدام أية إمكانية للحل , حتى بات دعاة مؤتمر السلام الحاليون يتحدثون في أي خريف سيعقد و خريف أي منطقة هو المقصود في تحديد موعد انعقاده في إشارة إلى إمكانية تأجيله و هذا ما يدل على تخبط الإدارة الأمريكية ككل وليس رايس وحدها و هي تفقد إحساسها بالأزمنة و الفصول حتى وان كانت حسب توقيت القارة الأمريكية.